نبوءة بيل غيتس
عندما وضع بيل غيتس في كتابه “المعلوماتية بعد الإنترنت” تصوراً لما سيحدث للعالم في كل مجالات الحياة بعد ثورة الإنترنت، لم يكن يدور في خلده ما ستفعله ثورة الأجهزة الذكية، حيث تجاوزت مخيلته وهو يرتكز على مخطط شركة ميكروسوفت لتغيير ملامح هذا العالم، وليس على نبوءة. لكن ما حدث تجاوز ما خطط له؛ فقد تحول العالم بشكل حقيقي إلى مجرد أزرار افتراضية بين أصابعنا، صار الانتقال الافتراضي إلى أي مكان في العالم أسهل بكثير مما كنا نتصور، فقد اجتاحت ثورة الموبايل عالمنا بكل تفصيلاته، صارت تحضر في كل دقائقنا وثوانينا.
الهواتف الذكية لم تخترع لتكون جهاز اتصال فقط كما كانت الهواتف العادية، أو الجوالات التي نقلتنا من حالة ثبات الهواتف الثابتة إلى حركية الهواتف الجوالة؛ الهواتف الذكية اخترعت لتكون أدوات تواصل وليس اتصالاً فقط، فقد ألغت كل المسافات صوتاً وصورة، ألغت الحدود وحتى جدران البيوت والغرف الخاصة، ألغت كل ما يقف أمام الإنسان من حواجز اجتماعية وسياسية ودينية وغيرها.
فقد أدخلتنا إلى بيوت الناس ووجدنا أنفسنا شركاء في رحلة أو في حفلة أو في اجتماع أو في غيرها من الفعاليات الاجتماعية، في أي مكان ونحن مسترخون على كراسينا أو نتجول في سوبرماركت أثناء التبضع. لم يعد صعباً أن نعرف كيف يقضي أحدهم عطلته في بلاد لم نرها.
كل هذا الاقتراب أيضاً أثر على توجهاتنا، على آرائنا، على وجهات نظرنا حول ما يحدث في العالم. لم نعد مجرد أتباع لإعلام مفروض علينا يوجهنا كيفما يشاء، فقد أتاحت الموبايلات ظهور ما سمي بالإعلام الجديد، الذي تحول معه كل من يحمل موبايل إلى صحافي ومراسل. وما عدنا ننتظر أن تنقل لنا نشرات الأخبار ما تنتقيه.
المثقفون وجدوا أنفسهم ينسحبون مع من انسحبوا نحو هذه الثقافة الجديدة، وإلا سيكونون خارج التاريخ؛ فهذه التقنية الجديدة بالتأكيد ستفيد تخصصاتهم وتسهل أعمالهم، وتفتح لهم آفاقاً جديدة، وتتجاوز حواجز التواصل مع مجايليهم من مثقفين وممارسين، أو حتى مع قراء. فما عاد البحث صعباً، فمن الموبايل يمكن البحث عما يريدون، ويجدون الإجابة في لحظتها، ولم تعد الكتب ورقاً، بل يمكن أن يحمل موبايلهم الذي يضعونه في جيوبهم آلافاً من الكتب التي قد لا تسعها غرف مكتباتهم.
صارت الصحف قريبة والتلفزيونات أقرب، والكم الهائل من الصور والفيديوهات في جهاز واحد. فأي عالم يختصره هذا الجهاز؟ عدا عن هذا، صار متاحاً للمثقف أن يحضر أمسية شعرية وهو في بيته، وصار قادراً على متابعة افتتاح معرض تشكيلي، أو متابعة مهرجان فني. فأي تقنية أتاحت له كل هذا عدا عن الموبايل؟
وبعيداً عن الخوف الطبيعي مما كل ما هو جديد، يبدو متواتراً ذلك الخوف من الموبايل واكتساحه حياتنا، وتغييره توجهاتنا، وتغييره أيضاً نمط حيواتنا، خاصة تلك المتعلقة بالجانب الثقافي. لكن يبدو فعلياً أن هناك أثراً على الجانب الاجتماعي لهذه الموبايلات، فلم يعد التواصل الفعلي موجوداً ما دام الموبايل سهل التواصل الافتراضي، صرنا نميل إلى نقاشات الواتساب أكثر من نقاشات المقهى، النقاشات التي نُعمِلُ فيها كل حواسنا، فنحن نسمع ونرى لندرك ما تعنيه دلالات وإشارات الجسد التي تعضد النقاش.
فالواتساب أفقدنا هذا الإدراك وصرنا نقرأ ما يكتبه البعض دون أن ندرك كيف قيل الكلام وأي إحساس وصلنا. الحالة الاجتماعية فقدناها بفعل هذا الموبايل، فبمجرد الدخول إلى عوالمه نتغير، نتبدل، نشعر أننا مقيدون بوجوده، ويصل الأمر بنا إلى أننا لا نشعر بوجودنا الواقعي إلا به إلى درجة أن بعضنا مصاب بما يعرف بالنوموفوبيا وهو رهاب فقدان الجوال، صرنا نشعر بالفزع لو أننا فقدنا التغطية أو فقدنا هذا الجهاز الذي قيدنا.
رغم كل ما أعطانا، إلا أنه أفقدنا الكثير؛ أفقدنا متعة القراءة المتأملة، القراءة العميقة، فنحن ننشغل بالإشعارات التي تأتينا كل لحظة، فننفصل عن تأملنا. أفقدنا حياتنا الاجتماعية والتواصل الواقعي، أفقدنا صفاء الذهن والمزاج للكتابة، فالإشعارات تلاحقنا وتفسد مزاجنا كلما رحنا في تعمقنا. الجوالات، رغم كل ما منحتنا من فرص التواصل، وسهلت علينا أمورنا، إلا أنها تأخذنا إلى السطح، فصرنا نبحث عن الجاهز والسطحي والسريع، ولم يعد طعامنا سريعاً وجاهزاً فقط، بل حتى ثقافتنا ومعرفتنا سريعة وجاهزة. صار البعض يستمد ثقافته ووعيه من تطبيقات كالتويتر والواتساب والفيسبوك، من الإعلام الجديد الذي لم يعد من السهل التفريق فيه بين ما هو حقيقي وما هو مزيف.
الثقافة الجديدة التي أدخلها الموبايل علينا جعلت من السطحيين والفارغين مشاهير ومؤثرين، وكل ما يقدمونه موجه للأطفال والفتيان، فأي ثقافة يمكن أن تبنيها مثلاً مقاطع اليوتيوب التي لا تحمل محتوى يعول عليه، لجيل اعتادها وأدمنها وصارت حاضرة في يومياته؟ أي ثقافة ستنشأ من مقاطع التحديات اليوتيوبية التي تملك ملايين المتابعين؟ هل يمكن أن نتصور عمقاً ومعرفة حقيقية يمكن أن يخلقهما هذا الجهاز الذي بين أيدينا وأيدي الناشئة، وهو على ما هو عليه؟ لست متشائماً، لكني أحمل بعض الخوف مما سيكون عليه العالم بعد سنوات، ونحن نمر بمرحلة الموبايل، مرحلة الجاهز والسريع، ونحن غير قادرين على كسر قيد التعلق به وإدمانه والعودة إلى حالة الصفاء الذهني.