نحن والهاتف الذكي
لا شيء يبدو مغريا أكثر من هاتف جديد، بشاشة واسعة بالغة النقاء، دقيقة الألوان، سعة ذاكرة كبيرة تبتلع كل ما نرجو من صور، مقاطع فيديو وكتب، وملمس ناعم مصقول الحواف، ينزلق في كفك ليلائم أصابعك التي سيلتصق بها طوال اليوم، طوال بضع سنين حتى يهرم، وتهرم روحك معه.
ومن هواتف كانت الشركات تتنافس في تقليص حجمها إلى هواتف تتنافس الآن في زيادته، ليتسع لكل التطبيقات الجديدة، ويصير أداة الترفيه والاتصال الأولى، فها أنت تحمل مكتبك، ذكرياتك، أقاربك، أصدقاءك، كتبك، تسليتك أينما ذهبت.
ومن وسيلة للاتصال تطور الهاتف سريعا ليصبح جزءا من شخصية كل منا، وامتدادا لأفكارنا التي صار من السهل علينا التعبير عنها عبر التطبيقات المختلفة صورا، ثرثرة، مقاطع فيديو، خربشة، وصار مائدة لا نهاية لها تفتح شهية الباحث، وتغريه بدفق هائل من المعلومات التي قد تخرج عن سيطرته أحيانا، وتقوده إلى حالة من الضياع.
والآن صار الهاتف منبرا ثقافيا يمنح صاحبه القدرة على الوصول للجمهور رغما عن قوانين دور النشر، ويمكّنه من تلقي النقد المباشر، فيكفي أن تنشئ صفحة عن أحد مواقع التواصل، وتضيف الأصدقاء لتتسع الدائرة وتبدأ بالنشر لتتلقى الآراء، وتكتشف مدى قبولك لدى الجمهور، هذا على افتراض صدق الأصدقاء الافتراضيين، وجديتهم في قراءة ما ينشر.
على أن الهاتف أيضا مكّن أدعياء الثقافة من نشر ما يظنون أنه ينتمي إلى الأدب بكل سهولة، وأعطاهم القدرة على الثرثرة والدخول في سجالات لا منفعة منها، والتطفل على ساحة الأدب.
هذا ولا ننسى كمّ المعلومات العلمية والطبية الخاطئ الذي يتدفق يوميا عبر هواتفنا يبدو مريعا، إذ عليك أن تتأكد من كل معلومة تصل إليك عبر بحث طويل في الشبكة، حتى أن الزيف وصل إلى نشر الأحاديث النبوية الموضوعة، والأكاذيب السياسية وتزييف الحقائق بمهارة عجيبة تحتاج إلى جهد لكشفها.
ومن أهم التطبيقات التي يعتمد عليها الجميع، وأظنها أنفعها للمثقفين والكتاب، فيسبوك وتويتر كمنبر للنشر والقراءة والنقاش وتبادل الأفكار، كما أن تطبيقات القرّاء (جود ريدر) مثالا مكنت الكثير من القراء من تبادل الآراء حول الكتب وتقييمها.
وهناك أيضا منصة تيد التي تتناول مجموعة واسعة من المواضيع الثقافية والعلمية عبر بث حي للمحادثات، وأظنها تلبي حاجة كل مثقف وباحث للاطلاع والمشاركة والنقاش.
على أن الهواتف الذكية غيرت علاقاتنا الاجتماعية للأسوأ، فما عليك إلا أن تراقب الجالسين في مقهى على سبيل المثال، لترى كلا منهم مشغولا بهاتفه منسحبا إلى قوقعته المحمولة في جيبه، وحتى في العائلة، لم تعد الجلسات العائلية تعقد برضا وقبول من الجميع لانشغالهم بهواتفهم، وهوس الشباب –بالذات– في تأكيد هوياتهم وتقبل المجتمع لهم عبر مشاركة دقيقة لخصوصياتهم، ولذلك تبدو محاولة خلع الهواتف من أيديهم مستحيلة.
كما أن الهواتف مكنتنا أيضا من تجنب البعض عبر الابتعاد عن أي نقاش معه، وجعلتنا نستطيع رسم الصورة المناسبة لنا لنقدمها للأصدقاء والمعارف الافتراضيين.
وكشفت التطبيقات أيضا عن الوجه الآخر للبعض، المساند للدكتاتوريات، المنافقين تحديدا، وبذلك مكنتنا من إقصائهم، وتحديد دائرة معارفنا الثقافية بما يناسب توجهاتنا.
ونستطيع القول إن الهاتف الذكي أتاح لنا الحصول على ثقافة أوسع، تتجاوز حدود الكتب الورقية والصحف والمجلات، إذ نستطيع أن نقرأ لكل كاتب على الأرض عبر صفحته دون الحاجة للبحث عن كتبه، ولا ننكر أن الكتب الإلكترونية انتشرت بسرعة وصارت نصيرة العاجزين عن شراء الكتب الورقية، الباحثين عن الكم الأكبر والأسرع من الثقافة والمعرفة.
ما يقلقني في الهاتف الذكي هو سرعة الوصول لصاحبه، تتبع خطواته، القدرة على اقتحام حياته الخاصة التي صارت هشة ومكشوفة عبره، والقدرة على سرقة كل ما حفظ على الهاتف الذي لا يخلو من ثغرات أمنية قد تدمر حياة صاحبه.
لقد اختلفت حياتنا بعد ظهور الهواتف الذكية، صرنا أكثر جرأة، وعلت أصواتنا، وأصابنا الغرور، استطعنا تزوير الكثير من الحقائق عنا، وتمكنا من خوض المعارك الكلامية، وتشويه صورة الآخر المختلف عنا، كما استطعنا الدفاع عن قضايانا أيضا، وحشد المؤيدين لها، وتتبعها طوال اليوم، وشتم ولعن المعارضين لها.
صار الهاتف جزءا أصيلا من حياتنا، يغرينا مطفأ بالكثير من الترفيه ليرضي فضولنا حول الآخرين، يشغلنا مضاء عن أبسط ما حولنا فننسى أهمية التواجد جسديا وذهنيا مع أحبائنا لنرضي الافتراضيين، لا يستطيع أغلبنا وضع الحدود التي تفصل بين هذا الجهاز والحياة الخاصة بنا، وقد يصل الأذى والدمار إلى عائلاتنا نتيجة علاقتنا المشوهة به وعبره.
ولكل ذلك يقلقني إلحاح طفلي لتملك هاتف ذكي، وأنا مصرة على تجاهل هذا الطلب، فلا أريده أن ينسحب من نشاطات اللعب مع رفاقه والقفز وراء الكرة، والتقوقع فوق هاتفه مذهولا بما قد يعرضه عليه، ملبيا كل فضول له حول هذا العالم المشوه.
أعتقد أن على مبتكري التطبيقات كلها منع الأطفال تحت الخامسة عشرة من التورط فيها، وعلى الحكومات وضع قوانين صارمة تعيد لهم حياتهم الطبيعية، لأنهم لا يمتلكون القدرة على مواجهة هذا العالم بوجوهه الحسنة والمشوهة، وقد يتعرضون إلى أشكال مختلفة من البلطجة والتشويه عبره، فيفقدون ثقتهم بأنفسهم، وتقبلهم لذواتهم وعائلاتهم، وقد يعرضهم لخطر حقيقي.
وأخيرا، أتمنى أن تعود الحياة إلى بساطتها، وأن يوضع الهاتف الذكي على الرفّ لبعض الوقت، ليحصل كل منا على أفكار نقية مصدرها مخيلته وحده، لا يشوهها خوف من الرأي الآخر، ولا تلوثها رغبة في الانخراط في تيار ما، ولا تنمطها حاجة إلى الشهرة والصيت، لنجمع حولنا الأحباء من جديد، ولا نعود إليه إلا عند الحاجة الحقيقية له.