نزار قباني الحداثي المدينيّ

 بمناسبة مرور عشرين عاما على رحيل الشاعر نزار قباني (1923 – 1998) خصصت مجلة “الجديد” اللندنية، العدد 40 كاملا للشّاعر الرّاحل، فقدمت مقاربات نقدية عن شعره، وتساؤلات عن سرّ حالة ديمومة التلقي والاستقبال، التي ما زالت مهيمنة رغم هذا الغياب.
الأحد 2018/07/01
تصوير‭ :‬همبار‭ ‬نركيزيان

بالمثل قدمت شهادات عن الشاعر وحوارات معه أظهرت جانبا من حياة الشاعر الحافلة والثرية، إضافة إلى قراءات متنوِّعة في سيرته الشّعريّة والذاتيّة، تناولتْ مفهومه للشعر، ورؤيته الخاصّة له، التي كانت حجر عثرة أمام نُقاد اليمين واليسار -على حدٍّ سواء- من شعره. العنوان البارز للملف هو الشاعر الحداثي بما احتوته صفة الحداثة من تمرد وتجديد وخروج عن نسق القصيدة العربية المعروفة حتى عند أبرز مُعاصريه. لكن السّؤال المهمّ: كيف رأت هذه المقاربات -على اختلافها- حداثة نزار قباني؟ وهل بالفعل تحقّقت الحداثة في شعر نزار قباني أم مجرد تسطيح لمفهومها؟ وما هي أبرز تجلياتها على مستوى التشكيل وكذلك الموضوعات الشعرية؟ هل تمثلات المرأة في شعر نزار، تجاوزت الإطار السطحي إلى قضايا أبعد وأهم؟

 توقفت بعض المقالات عند الرؤية الحداثية في شعر نزار، فتارة بحثت عنها في ثورة نزار على الأنساق الاجتماعية والسلطوية، وتارة أخرى تجلَّت عبر اللغة التي ميزت شعر نزار، وجعلت منه شاعرا شعبويا، وتارة ثالثة اتخذت من المكان دلالة على هذه الحداثة. بداية جاءت كلمة الاستهلال التي تصدرت الملف بتوقيع الشاعر نوري الجرّاح بعنوان “الحداثي المديني: نزار قباني أو الاسم الحركي للشعر” لتقدِّم ملمحا عاما لهذه الحداثة، والصعوبات التي واجهتها على مستوى الاستقبال من ناحية الشعراء أنفسهم وكذلك من ناحية النقاد على اختلاف أيديولوجياتهم المنتمية إلى اليمين أو اليسار. ومن ثمّ لا تنفصل هذه الكلمة بأيّ حال من الأحوال عن هذه الرؤية الاستقرائية عن الحداثة ومفرداتها داخل شعر نزار، الذي يعزو الجراح إليه تأسيس شعر المرأة بلا منازع، أو عبر ما استحدثه نزار على مستوى المفردات اللغوية التي فارقت دلالتها الواقعية أو الشعبوية، وبالمثل جمالياتها التي أسّستها عبر بلاغة تمثّلت في استخدام لغة الحديث اليوميّ في الشّعر، ومن ثم وصلت الشّعر بالجمهور، وهو ما جعله متربعا على عرش الجمهور فترة طويلة حتى بعد رحيله.

 سمات الحداثة

 يعود الجرّاح في بحثه عن جذور الحداثة عند نزار قباني، إلى مقالة قديمة سابقة تناول فيها حداثة نزار، أشار فيها إلى «أن نزار قباني ليس فقط أشهر شاعر عربيّ حيّ، وإنما أحد أبرز وجوه الحداثة الشعرية العربية التي دأب نزار نفسه على هجائها، وهذه مفارقة طريفة لا تصلح للاستعمال الصّحافي بمقدار ما تصلح للتأمُّل النقدي العميق». وما تبعها من جدل وحجاج نقدي وقتذاك، أظهرا حالة من الرفض القطعي ممّن نعتوا بأنهم حداثيون لهذا الوصف، واعتبروه نوعا من المبالغة، ومنهم مَنْ ذهب إلى إشعار الكاتب بأنها “إحدى سقطاته”. تتجلّى سمات الحداثة كما رآها الجرّاح عبر اللغة التي كانت «لغة شعرية بسيطة، حارة، ونضرة، والأهم من كل هذا، مبتكرة، فهي لغة ذات إغراء جمالي وتعبيري غير مسبوق». وقد حقّقها الشاعر عبر مراحل مُتعدِّدة حيث «تتمثّل في لهجة هذا الشّاعر ونبرته، ولغته التي تتوسّطُ “اللّغات” الشّعرية الحديثة كلها، وتتوسّط بعلاقاتها السلسة وتشكيلاتها الرشيقة وجمالياتها الخاصّة المنجز الشعري الحديث برمته»، كما أنّه الشّاعر العربي الذي أسّس عمارة المرأة في الكتابة الشّعرية، فقد أسّس تمثُّلا رجاليّا جديدا لصورة المرأة وصوتها، هو درجة وسطى بين صوت المرأة وصوت الرجل على حدّ قول الجرّاح. قابلت هذه الحداثة البادية في شعره والمغايرة لمعاصريه، عراقيل وقفت ضدّ تقبُّلها، ومن هذه -كما يقول الجرّاح- أيديولوجيتان حاربتا نزارا، الأولى تمثلها «التقليدية المحافظة» التي وجدت في عمارة نزار من صور وأفكار ورؤى وقول يدعو المرأة إلى التحرّر، والمجتمع إلى تجاوز الماضي والثورة على الحاضر، ضربا من التهديد المباشر للقيم التي تحرسها. والأيديولوجيا الثانية تمثلها «الحداثة البدوية» أحادية الجانب ذات الخطاب الاستعلائي المرضي، والتي لم تستطع استيعاب فكرة أن يكون الشعر شعبيّا وحديثا معا، ولكونها أيضا لم تتمكّن من حلّ معضلة أن تنطوي وتقوم تجربة شعرية كبيرة كتجربة نزار، على عناصر ورؤى متضادة ومتناقضة إلى أقصى حدود التضاد والتناقض، بما يشكّله ذلك من تحدٍّ مربك لشخصيتها البسيطة القائمة على مانوية تبسط العالم إلى ثنائيات.

نزار قباني بعدسة همبار نركزيان، لندن 1997
نزار قباني بعدسة همبار نركزيان، لندن 1997

 قابلت هذه الثنائية الجدلية (العداوة الظاهرة من صراع بين ما هو تقليدي وحداثي) مقاومة من قبل الشاعر وصلت إلى التمرد والثورة. فصارت هذه الثنائية سمة من سمات شعره، علاوة على ما تميزت به عناوين كتبه من إثارة. مع هذه الحداثة التي تبناها نزار في شعره أو “الأرض الثالثة” بتعبير الجرّاح التي شقها لنفسه وأنزلته موقعا فريدا، كانت بمثابة عقبة لعدم استجابة نزار للنقد بصورته المانوية السائدة، والتي تقسم العالم وفق أيديولوجيتين تقليدية متزمته، وحداثية استعلائية.

 الإرهاق الجمالي

 على ضوء هذه الحداثة التي استجلاها الجرّاح في كلمة الاستهلال، تأتي عدة مقالات تستكشف هذه الحداثة، منها مقالة خلدون الشمعة بعنوان “نزار قباني: الحديث لا الحداثي”. وقد اعترف في بدايتها أنه لم يكن يُكِنّ إعجابا خاصّا بشعر نزار قباني. كما يصف تجربة نزار بأنها تنتمي إلى الحديث وليس الحداثة، دون أنْ يُفرِّق بين دلالتي المصطلحين، أو لماذا رجّح الحديث على الحداثة. فالحداثة مفهوم حضاري أشمل أمّا مفهوم الحديث فيتماثل مع العصري الذي هو بمثابة دعوة شكلية تتعلُّق بمظاهر الأشياء، وفي ظني نزار يقترب من الحداثة بمفهومها الحضاري من حيث هي “تصور جديد تماما للكون وللإنسان والمجتمع″ على حدّ تعبير غالي شكري. فنزار عبر تجربته الشعرية العريضة كان يقذف بخياله وشعوره خارج كل طريق مرسوم، كما كان يتمثَّل للإنسان العربي في ثورته الحضارية. ومن ثم كانت ثورته على كافة الأنساق التي عرقلت التحرّر، سواء الأنساق القبلية التي قيّدت المرأة وقزمتها فجعلتها تابعا للرجل، وكذلك الأنساق السُّلطوية التي قيّدت هي الأخرى حركات التحرّر، فأصيبت المجتمعات بالتكلُّس والجمود. أهم ما يلفت إليه الشَّمعة في مقالته، هو عامل البثّ والاستقبال الذي جعل دواوين نزار توزّع بنسبة عالية لدى قرّاء محدودي الثقافة، وهو ما يكشف عن شعبية استقبال نزار قباني، وهذا ما كان أثره فادحا على نزار نفسه، حيث كانت أداة جُوبه بها “مِن قِبل النظام المعرفيّ والسُّلطوي المهيمن”. يربط الشّمعة بين ذروة ما أسماه “الإرهاق الجمالي” التي وصل إليها الشعر الكلاسيكي كنموذج مثال ومقوّم للشعر العربي، والتحوُّل الكبير في الحداثة الطبيعية التي كان نزار قباني أحد أقطابها المميزين، والذي يعتمد على بثّ في الأداء لا يخلُّ بالاستقبال. وقد أسهم هذا الإرهاق الجمالي في ظهور نوعين من التغيير: الحداثة الشعرية ذات الأمشاج الاقتصادية والاجتماعية، الحداثة النزارية، والحداثية (المودرنزم التي يفصِلُها عن الحداثة برزخٌ معرفيٌّ لا يمكن إغفاله) وإن كان يرى الشمعة أن الحداثة كانت كردِ فعلٍ مقصود حينا، وغير مقصود حينا آخر، على أيديولوجيات الأدب، كالواقعية الاشتراكية، وواقعية الأدب الإسلامي التي حذت حذوها. وإن كان ما يقوله الشمعة صحيحا، إلّا أنّه نسي أن يضع الشرط التاريخي والثقافي الذي كان لاعبا مهمّا في بروز هذه الحداثة التي وجدت المهاد لها في تلك الفترة حيث الرغبة في التحديث، استجابة أولا، لجهود حركات التمرد التي قادتها نازك الملائكة برفضها أن “نكون أسرى القواعد التي وضعها الأسلاف في الجاهلية وصدر الإسلام”. وثانيا، نتاجا لانفتاح الشعرية العربية على الاتجاهات الحديثة في الشعر الغربي وتفاعلها معها، كما هي حاضرة عند علي أحمد سعيد. فنزار وهو يتمرد على الأنماط السابقة يخلق من الشعر مفهوما قريبا من هذا التصور الذي صاغه أدونيس عند تعريفه الشعر الحديث؛ ومفاده أنه “فن جعل اللغة تقول ما لم تتعلم أن تقوله، أي هو صورة عن حياتنا المعاصرة في عبثها وخللها”

 يستنكر مفيد نجم في مقالته “جدل الذات والمكان والمرأة: نزار قباني شاعرا حداثيا” حالة الإغفال التي واكبت القراءات النقدية في مشروع الحداثة لأثر المكان في ظهور هذه الحداثة “ودوره في تشكيل الوعي الجمالي، المفارق للسائد والقارّ في الثقافة العربية” وإنما اكتفت “بالنظر إلى هذا المشروع بوصفه مغامرة في اللغة وبها، أو انعكاسا لتحوّلات اجتماعية وطبقية، أسهمت في تحقيق هذا التحوّل، وتكريس قيمه الجماليّة والفكرية، في المشهد الثقافي العربي” ومن ثمّ يبحث عن هذه الحداثة عبر المكان الذي تتشكّل فيه العلاقة بين اللغة والذات، وبين الذات والعالم. يرفض نجم هذه القراءات التي وصفها بأنها متعالية في اللغة، بانتزاعها من سياقها الاجتماعيّ والثقافيّ، وهو ما يجعل من الشّاعر مجرد كائن لغوي يعيش خارج سياقه. ومع إشادته بتجربة الحداثة وما شكلته من لحظة فارقة في تجاوزها السّائد والمألوف بل الصدام معه، إلا أنّ ما يعيبها على حدِّ قوله هو الإفراط في التأثّر بالثقافة الغربيّة، وَسعي الشعراء لأن يتماهوا مع منطلقاتها النظرية والجمالية والفكرية. ومن ثمّ يقرّ بأنّ اسم نزار اقترن بدمشق لدرجة “يصعب قراءة منجزه بمعزل عن هذه العلاقة”. فظلّ المكان الدمشقي بجماله وفتنته، هو العالم الذي يستمد منه قيم الجمال ويعيشها في شعره، حتى تحوّل هذا الجمال إلى هاجس دائم الحضور لغة وتشكيلا ومجازا في شعره على مدار سنوات تجربته الطويلة. كما أن الحداثة الشعرية لا يمكن قراءتها بمعزل عن حداثة الوعي الاجتماعي ومسألة الحرية، والتي “عبّرت عنها تحولات الكتابة الشعرية الجديدة بوصفها نزوعا نحو التحرّر من سلطة ثقافة لم تعد قابلة للحياة، في ضوء تحوّلات العصر وقيمه الجديدة”. وكانت قصيدة نزار قباني الشهيرة “خبز وحشيش وقمر” تجسيدا لهذه الثورة على الواقع وعلى ثقافته. الواقع  الذي كان غارقا في “الجهل والغيبيات والبؤس″. وقد اعتبرها حاتم الصكر إلى جانب بعض القصائد الأخرى “استفزازا لتلك الثوابت التي تشبه الجدران العازلة بوجه التجديد في الحياة والفن”.

 ثمّ يستعرض مفيد نجم كيف عبّر الشاعر عن رفضه للواقع وتمرده عليه أي ثورته كما أوضحت قصيدته، من خلال موقفه من المرأة، الذي جسّد استجابته لوعي مغاير يُعبر عن ذاته في هذه التحولات. وقد رأى في علاقة المرأة بهذا الواقع الذي كانت تشعر فيه بالظلم والاضطهاد وهو ما يعكس منظومة القيم الاجتماعية التقليدية التي تكبِّلُ المرأة بالقيود، وهو ما كان ضدّ الحرية والحداثة التي يؤمن بها. العامل الثاني الذي قامت عليه علاقته بالمرأة وهو معنى الجمال والحب الذي تمثله المرأة في الحياة والوجود الإنساني. لكن مع طموحات الدراسة التي تبنت الكشف عن أثر المكان في هذه التجربة الحداثية، يتوقف عند تجليات المرأة في شعر نزار. موضحا أنها كانت التجلّي الأهم منذ بداية هذه التجربة. في الحقيقة لم يقدّم مفيد نجم تمثلات لما طرحه في عنوان مقالته عن دور المكان في إبراز هذه الحداثة، فما عاب عليه النقاد، وقع فيه، التردد الوحيد لأثر المكان هو الجملة العابرة التي ساقها في حديثه عن فتنة دمشق التي استمد منها قيم الجمّال، دون أن يسترشد بشعر نزار على أثر المكان في إبراز حداثته كما تطلعت المقالة منذ عنوانها.

 الجدران العازلة

 يتوقف حاتم الصّكر عند المعوقات التي وقفت أمام تجربة نزار الحداثية أو ما اعتبرها بمثابة “الجدران العازلة”. وقد أبرزها في تحديات السلطة والمجتمع، حيث الأثر السَّلبي الذي مارسته السلطة السياسية بعد صدور قصيدته “خبز وحشيش وقمر” التي صدرت أوّل مرّة في مجلة الآداب عام 1954، وأثبتها في ديوانه “قصائد من نزار قباني” عام 1956. فيقول «كان ردّ الفعل على نشرها في “الآداب” محدودا لعدم اطلاع الجمهور عليها بشكل كافٍ، لطبيعة توزيع المجلة المحدود نسبيا بالقياس مع المطبوع الكتابي، لكن نشرها في الديوان أعاد قضيتها مجددا وبشكل مكثف حتى وصل الأمر إلى البرلمان؛ فطالب نواب سوريون بمعاقبة الشاعر ومقاضاته وطرده من السّلك الدبلوماسيّ الذي كان يعملُ موظفا فيه، كما نالها من الخطباء والمشتغلين في الفتاوى والمؤسّسات الدينيّة وبعض الكتّاب والصحافيين، أعنف هجوم على نص شعري وعلى الشاعر ومناصريه، ولم توفر الاتهامات التي جاءت في سياق تلك المعركة أي تهمّة ممكنة من المروق، وإيذاء الذوق العام والتقاليد، حتى الخيانة والعمالة!».

مجلة

 الموقف المعادي والضدي الذي مارسته السُّلطة وأجهزتها على حداثة نزار، يكشف عن تزمت في التلقي، وهو عكس الخطاب التحديثي الاستفزازي الذي اعتمده نزار في شعره، والذي كان يتخذ وسيلته من حرية البناء الجديد، واللغة المباشرة التي تسمّي الأشياء بأسمائها دون تردد. وقد كشف أيضا عن عوار خطاب الحداثة الذي كان يتبناه الخطاب النقدي آنذاك، على نحو ما فعلت مجلة مصرية بتحريف عنوان ديوان “طفولة نهد” إلى “طفولة نهر”. لم يصطدم نزار فقط بحداثته التي يسعى إلى تمثلها عبر قصائده لمعارضة السائد فقط، بل كان أيضا يعيب على أنساق المجتمعات ولعها بالخرافة إلى حدِّ الهوس، حتى أنه كان يصف أهل المشرق كله بالتراخي والكسل وانتظار الغيب بلا عمل سوى الأحلام الواهمة بحدوث الخوارق التي ستغير حياتهم عبر الأساطير والخرافات. وكأن نزارا كما يقول الصكر “يصطدم في خطابه الشعري بالوهم الاجتماعي والتخلُّف كجدران عازلة للوعي الجديد” هذا من جانب، ومن جانب آخر يصطدم بالأنظمة “وبما تقترفه في بلدانها من قمع للحريات وتخاذلها وخسارة الحروب الوطنية، والتقهقر نحو الماضي”. ثم يتحدث الصكر إلى الضلع الثالث في خطاب نزار متمثلا في خطاب المرأة المتحرّرة، وقد قدمها “بخصوصية، ولكن بتعميم كثير. فهي ذات وجوه عدة” تجمع بين الحبيبة المشتهاة تارة، وتارة مُحبّة متمردة لا تقف أمام حبها حدود، وتارة ثالثة هي موضع للجنس والاشتهاء من حيث جماليات جسدها وامتلاكه، وخامسة هي متغطرسة ذات كبرياء زائف ونزوات وربما شاذة في عواطفها. وينتهي الصكر في نهاية المقالة إلى رأي عام، حيث يقول إن ما أعطى نزارا الشاعر الثوري مكانة جماهيرية ظلت له مع توالي المدارس والأساليب، أنه كان متعدد المراجع شعرا وفكرا. علاوة على حركة المجتمع البطيئة في التحرر والحداثة، وكذلك ثبات صورة المرأة المتوارثة في الوعي الجمعي. اللافت أن جميع المقالات تركت الفكرة الأساسية التي طرحتها في العنوان وراحت تبحث عن جماهرية الشاعر، متجاوزة حداثته التي كانت أحد أسباب هذه الجماهيرية.

 ثمّة ظاهرتان بارزتان بعد رحيل الشّاعر، الأولى تتمثّل في ما رصده الكاتب عبده وازن، من أن غياب الشاعر نزار أثر على شعره، حتى أن مبيعات كتبه بعد رحيله أخذت تتراجع، ولم تعد تحتل قائمة الكتب الأكثر مبيعا في المعارض العربية. وينتهي إلى أن هذا ليس مهمّا مقابل الظلم الذي لَحِقَ به من المؤسسات الرسميّة، فالظلم سيتسمر ما دام بلا بيت أو متحف في دمشق أو بيروت مدينته الثانية. والظاهرة الثانية تتمثل في غياب النقد على حد قول جمال مقابلة، حتى جاء وصف مقالته حادا “نزار شاعر بلا نقاد”. فيسرد موقف اليمين واليسار من شعر نزار، فاليسار لم يحتمل نزار الرومانسي أو البرجوزاي أو صاحب النزوع الأرستقراطي المنسجم مع السُّلطة، واليمين الذي نقد نزار، نقدا تراثيا في باب الفنّ، ونقدا أيديولوجيّا أخلاقيّا وتسطيحيّا دينيّا لحساسيّة تناوله موضوعة المرأة وتحريرها. كما أنّ النقد المحايث لفن نزار وإبداعه الإنساني الصادق، كان نقدا سلبيّا لهذا الإبداع الشّعري الرّاقي والأنيق والبسيط والعميق معا. فعبّر هذا النقد -في أغلبه- عن قصور كبير في وعي العلاقة ما بين قيمة الشَّاعر ومهمّته وروح الأمّة مُمثّلة في القدرة الهائلة لديه عند قبضه على مجمع الذوق العام والرُّوح الجماليّة التي يجب أن تسود حيال القضيّة التي ينذر فنّه لها؛ ليكون واحدا من كبار فنّانيها وصانعي روحها التاريخيّة الصادقة في التعبير عن لحظتها. ومع غياب النقد إلا أن نزارا “كان ظاهرة شعرية شعبية” وإن كان هذا الوصف يرفضه فاروق يوسف، ويعتبره “محاولة للحطّ من القيمة الفنية التي ينطوي عليها شعر نزار قباني”.

 في الحقيقة ثمّة ملاحظات على تناول هذه المقالات لظاهرة أو تجربة نزار قباني الحداثية، منها أن هذه المقالات اقتصرت على الوقوف على تجربة نزار قباني من الخارج دون التعمق في هذه التجربة ومراحلها المختلفة، وملاحظة التباين عبر التدرج الزمني لدواوين نزار قباني، حيث ثمة تركيز على قصيدة “خبز وحشيش وقمر” دون سائر قصائده اللاحقة. كما أن المقالات جميعها توقفت عند قضية واحدة هي “قضية المرأة”، دون أن تقف عند المراحل التي مرّت بها المرأة داخل القصيدة النزارية، فالمرأة ليست جسدا فحسب وإنما هناك المرأة كفكرة جمالية أو اجتماعية على نحو ما أشار محيي الدين صبحي من قبل، وهذه الصورة لم تتطرق إليها المقالات ولو حتى بالإشارة. كما لم يتمّ طرح كيف تعامل نزار معها، أو كيف تطور البناء الشعري عند نزار من الكلاسيكية إلى البناء الحديث. غلبت على هذه المقالات الانطباعات الشخصية ومن ثم أسرفت في الشرح لا التحليل والتفسير. ولم تتوقف هذه المقالات على كثرتها على العوامل التي أثرت في تجربة الشاعر، وكأن الأجدر الإشارة إلى الظروف الحضارية التي عانقت سوريا وقتها، ومن ثم كانت عاملا مهمّا في إنتاج هذا الشاعر.

 التطوُّر الذي رصدته المقالات كان مرتبطا بموضوعات شعره، واشتغاله على المرأة وتمثلاتها التي كانت بمثابة تحدٍّ للأنساق الاجتماعية. دون أن تتوقف هذه المقالات عند اتساع الرؤية كملمح مهمّ في تجربة نزار كلها، خاصة في قضية المرأة. أهم شيء أنَّ المقالات لم تقيّم تجربة نزار بما لها وما عليها، على الرغم من الدعوات التي جاءت مترافقة مع هذه المقالات عن غياب النقد وإهمال نزار. بل انحازت إلى نزار قباني الشخص ولا إلى نزار الشاعر ومن ثمّ جاءت المقالات أشبه بالمدح والتكريم، دون أن تقدم دراسة ترصد لملامح هذه الحداثة في شعر نزار منذ ديوانه الأوّل “قالت لي السمراء”، إلى آخر أعماله. شغلت قضية المرأة وتعامل نزار معها الكثير من المقالات، دون تحليل لهذا الانحياز من جانب نزار للمرأة، وأيضا دون إبراز لهذا التمثّل من خلال نصوصه الشعرية. ودلالة المفردات التي استخدمها نزار في سياق نصه، وعلاقتها بالواقع المرجعيّ. فمن قبل ذكر محيي الدين صبحي في دراسة عن نزار قباني بعنوان “نزار قباني شاعرا وإنسانا” صدرت عن دار الآداب عام 1964، أنه لم يتخذ من قضية المرأة كركيزة فنية لمناقشة أكبر. حتى أن غالي شكري اعتبر قصائد نزار عن المرأة على تعدّدها لم تتجاوز “الحلمة والفستان والعيون والقميص”. ومن ثم كان من الأَوْلى مناقشة هذين الرأيين خاصّة أنه ثمة هجوم على النقاد وتناولهم تجربة نزار قباني الشعرية. الملاحظة الأخيرة تتمثّل في أنه ثمة قضايا مهمّة في شعر نزار غابت عن المقالات كالضياع والتمرد والموت. وبالمثل غاب عن تجربة نزار أهم ملمح في هذه التجربة المتمثل في تطويع التعبير الشعري لمستوى جزئيات الحياة، وهو ما عبَّر عنه خلدون الشمعة بالشعبوية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.