نظريات مفعمة بالعنصرية

الثلاثاء 2015/12/01
غزلان وشخصان: موقع هيلي- العين- الإمارات، العصر البرونزي (الآكادي)

منذ اكتشاف الألواح السومرية والأكادية، والمسلات الآشورية في بلاد الرافدين وتحليلها وقراءتها، انشغل الباحثون بتحديد مواقع دلمون وملوخا ومجان. فهذه الأقاليم الثلاثة، التي تشكل أرض البحر بالنسبة إلى العالم السومري- الأكادي، حسب الكثير من الدراسات الآثارية، أُلحقت بأسماء بعض ملوك بلاد الرافدين عند الحديث عن سعة ممتلكاتهم وعظمتها.

فهذا سرجون الآكادي (حكم منذ عام 2334 حتى 2279 ق.م) أعظم ملوك وادي الرافدين، يصفه نقش على تمثال نُحت بعد موته على الأرجح بأنه “سرجون ملك كيش انتصر في أربع وثلاثين حملة، وهدم المدن جميعها حتى شاطئ البحر، وعلى أرصفة آكاد أرسى السفن من ملوخا (Meluhha) وسفناً من مجان وسفناً من دلمون..”.

وها هو ملك من ملوك آشور، هو توكولتي نينورتا الأول، والذي حكم منذ عام 1242 – 1206 قبل الميلاد، يسمي نفسه “ملك سبار وبابل.. ملك دلمون وبلاد ملوخا (Melukhkha).. ملك البحار العليا والسفلى.. ملك جميع الجبال والصحارى..”.

وكانت ملوخا ومجان مكانين أساسيين في أساطير سومر إلى جانب دلمون. ففي أسطورة “انكي ونينخورساج” نرى سفن ملوخا التي تسمى ماكيليوم تنقل الذهب والفضة إلى معبد الإيكور، معبد الإله أنليل في نفر. ثم تذكر الأسطورة كيف أن الإله انكي نزل إلى أرض ملوخا وباركها، ثم عاد إلى دلمون وطهّر أرضها.

ومع توالي أحداث الأسطورة ومرض أنكي في أعضائه الثمانية، تخلق نينخورساج من أجل أنكي الإلهين نينتوللا إلهاً لمجان، وإنشاك (انزاك) إلهاً لدلمو.

وقد تباينت آراء الباحثين وعلماء الآثار حول مواقع ملوخا ومجان ودلمون تبايناً كبيراً، وكلٌ من زاويته. فقد جعل كريمر دلمون في إيران ثم في وادي السند، وجعل آخرون ملوخا، التي تقرن على الدوام مع مجان ودلمون، عند مصب وادي السند ، أو في الحبشة والصومال.

نظرية إيران وبلاد السند

أشهر من حدد بلاد السند كموقع محتمل لأرض دلمون عالم السومريات صموئيل كريمر فقد وضعها بداية جنوبي غربي إيران، ثم عدل عن ذلك وجعلها في وادي السند؛ مستنداً إلى أن دلمون هي مكان سكن بطل الطوفان السومري زيوسودرا الخالد، وحيث تشرق الشمس، ولذلك لا بد أن تكون بحسب رأيه واقعه إلى الشرق من سومر، واستند كريمر على نصوص عثر عليها ليونارد وولي في موقع أور في جنوب العراق، توضح أن دلمون مصدر للعاج الخام والعاج المشغول، بالإضافة إلى جملة قرائن حول قنوات الماء وطقوسه في وادي السند، تجعلها محببة إلى الإله أنكي، الذي جعلها طاهرة وباركها، بحسب أسطورة أنكي ونينخورساج.

وذهب بعض الباحثين إلى وضع مجان في إيران، إلى الشرق من عيلام والتي تمتد إلى جبال الهملايا، بسبب الحديث عن أنها مصدر أخشاب الميسو. ودعموا وجهة نظرهم بأن النحاس الذي كانت تشتهر به مجان مصدره تلك المنطقة، حيث عثر على ورشات تصنيع البرونز في لورستان. أما ملوخا، فبحسب وجهة النظر هذه، فتقع إلى الشرق من مدينة جاسك على الخليج، وربما شملت جانبار وكوادار وباسني الواقعة في نهايتها الشرقية. إلى جانب كون منتجات ملوخا، التي وردت في الألواح السومرية والآكادية، مشابهة لمنتجات مجان وهي النحاس وخشب الميسو والبصل وطير أسمته المصادر المسمارية دارملوخا، وهو في الغالب الطاووس الذي نراه على فخار هرابيا من وادي السند في شبه الجزيرة الهندية.

ومثل هذه الدراسات والاستنتاجات؛ شجعت باحثة هندية تدعى روميلا ثابار على دراسة مواقع دلمون ومجان وملوخا من وجهة نظر المصادر الهندية، وتوصلت إلى نتيجة أن هذه الأسماء ليست سومرية أو آكادية وليست لها أيّ علاقة باللغة السومرية وأعطتها معاني من اللغة ما قبل الدرافيدية. واعتمدت أيضاً على أن فكرة المواد التي تتحدث عنها المصادر السومرية كالحجر الصابوني من موقع تبة يحيى، تشير إلى علاقة مع حضارة هرابيا من وادي السند. وكذلك النحاس وغيره من الأدوات التي عثر عليها في العراق في طبقات العصر الآكادي.


منحوتة برونزية من موقع "الدور" في أم القوين- الإمارات

وتسترسل الباحثة الهندية في تعداد البضائع التي كانت تصل من ملوخا وتحدد مصادرها بدقة من المناطق الهندية كالعقيق واللازورد، إلى أن تصل إلى الاستنتاج بأن اسم ملوخا هو اسم شبه درافيدي (Proto – Dravidian) وهو بالأصل ميلو كوكو أي النهاية القصوى والغرب، وبناء على ذلك، فإن ملوخا تقع، بحسب وجهة النظر هذه، إما إلى الشمال أو الشمال الغربي لوادي السند، مستبعدة أن تكون المنطقة الساحلية لغرب الهند، أما مجان، فتضعها في جنوب الهند اعتماداً على المواد التي كانت تتاجر بها مع العراق، مشيرة إلى أن اسمها باللغة ما قبل الدرافيدية مكون من مقطعين: “ما” الذي يعني حيوان شبيه بالفيل، و”كان” الذي يعني المكان، وبذلك يصبح المعنى مكان الفيلة.

كما ناقشت ثابار كون دلمون تقع في السند أيضاً مستشهدة بمبادلاتها التجارية مع العراق وبوصفها بلد العبور، ثم ناقشت معنى اسم دلمون باللغة ما قبل الدرافيدية والمكون من مقطعين “تيل” أي الأرض و “مان” الطاهرة، أي الأرض الطيبة الطاهرة.

ولكي تثبت ثابار وجهة نظرها بشأن هوية شعب ملوخا الدرافيدية أو ما قبل الدرافيدية، زعمت أن نصوص سومر وآكاد تصف شعب ملوخا بأنه شعب أسود اللون يشبه سكان أستراليا.. وهذا بحد ذاته تزوير للنصوص التي تصف أرض ملوخا ومجان بأنها أرض الجبال السوداء (أو الداكنة)، وهو لون جبال عمان والإمارات، المطلة على خليج عمان ومضيق هرمز، ولا مجال للاجتهاد هنا بالزعم أن المقصود هو الرؤوس السوداء، أو الأشخاص ذوو البشرة السوداء!، وكذلك يبدو مستهجناً اعتبار البضائع التي يتاجر بها شعب ملوخا ومجان ودلمون هي من منتجات ملوخا ومجان ودلمون، كما تحاول ثابار أن تؤكد حتى من الناحية اللغوية!

ولا بأس من التذكير هنا بمسلّمة لا تؤخذ بنظر الاعتبار في وجهة النظر السابقة، وهي أن متاجرة شعوب دلمون وملوخا ومجان بمواد مستوردة من مواقع وادي السند الحضارية، هرابيا وموهنجو- دارو ولوثال، لا يعني بأيّ شكل من الأشكال أن أبناء هذه الشعوب ينتمون إلى تلك المناطق، فمن السذاجة بمكان اعتبار مواد التجارة التي يعمل بها شعب ما، دليل على انتمائه إلى مكان استخراج تلك المواد، وإلا جاز لنا أن نعتبر أن تدمر تقع في الصين كونها كانت أكبر متاجر بالحرير الصيني قبل 2000 عام!

نظرية مصر والحبشة

ثمّة نظرية أخرى ظهرت في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين تقول إن ملوخا ومجان تقعان في مصر والحبشة، اعتماداً على نصوص تعود للملك الآشوري آشور بانيبال (679 – 630 ق. م) التي قال فيها إنّ أخاه المتمرد ضده شمش شموكين ملك بابل ثارت معه على الحكم الآشوري شعوب آكاد والكلدانيين والآراميين وبلاد أرض البحر، من العقبة حتى مدينة باب ساليميتي وملوخا. كما ذكرت حوليات هذا الملك أنه قطع الصحراء هو وجيشه ووصل إلى مجان وملوخا بعد 57 يوماً في طريقه إليها.

وأدى اقتران ملوخا ومجان مع العقبة في شمال البحر الأحمر، وأخبار فتوحات آشور بانيبال في مصر إلى اعتقاد بعض الباحثين بأن ملوخا ومجان تقعان في مصر، وليس في الخليج.

ورأى موسل أن مدلول مجان قد توسع في الألف الأول قبل الميلاد فشمل منطقة كبيرة شملت مصر أيضا، فعنى هذا المدلول في النصوص الآشورية، التي ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد، أن مجان هي طور سيناء والأقسام المتاخمة لها من مصر، أما ملوخا، فقد قُصد بها الحبشة والسودان.

وأمام هذه التناقضات، ظهر بعض الباحثين فتحدثوا عن تغير مدلولات الأسماء مع الزمن، ففي العصر البرونزي كان مدلول مجان يشير إلى جنوبي الخليج العربي، أما مدلول ملوخا فكان يشير إلى الساحل الشرقي للخليج من إيران وبلوشستان إلى وادي السند، وفي العصر الحديدي تغير ليشمل سواحل البحر الأحمر الشرقية شاملاً الحبشة والسودان.

أدلة دامغة


منحوتتان من موقع "الدور" أم القوين- الإمارات

وبمعزل عن تلك النظريات، أتت المكتشفات الآثارية الحديثة لثبت أن دلمون أو تلمون هي جزيرة البحرين، بأدلة مادية مهمة، ونقش مسماري عثر عليه في الجزيرة جاء فيه ذكر لـ”قصر ريمون عبد أنزاك إله دلمون من قبيلة أكاروم”.

وربما كانت دراسة بطرس بروس كورنويل الأهم على هذا الصعيد. فبالاستناد إلى مسلة للملك الآشوري سرجون الثاني (722-705 ق. م)، ذكر فيها أن ملك دلمون أوفيري (أوبيري) يعيش على مسافة تقرب من 90 بيرو (أي 180 ساعة)، في وسط بحر شروق الشمس، أو البحر السفلي، قام كورنويل برحلة على سفينة شراعية من البصرة إلى البحرين، وتبين له من خلالها أن المسافة قريبة جداً مما ذكره سرجون الثاني.

والأمر نفسه يمكن أن يطبق على ملوخا، فالملك الآشوري نفسه قال في وثيقة أخرى، إن مملكته بلغت مسيرة 120 بيرو من سقي نهر الفرات في الخليج إلى ملوخا على ساحل البحر. وبما أن البيرو يعادل ساعة مضاعفة كما هو متفق عليه بين الباحثين بالآشوريات، فإن المسافة بين شط العرب عند البصرة وملوخا تعادل مسير 220 ساعة.

أما مجان فقد بات هناك اتفاق على أنها تمثل أرض عمان بعد اكتشاف مناجم النحاس وورشات التعدين في جبالها، وكذلك بعض النوعيات المحددة من الأخشاب ومقالع الحجر الصابوني. ولم يعد هناك من يتحدث عن أن مجان أو دلمون يمكن أن تقعا خارج منطقة الخليج.

ومع ذلك بقيت مشكلة ملوخا المرتبطة بمجان ودلمون برباط عضوي، قائمة، مع إصرار بعض الأوساط الأكاديمية على إبقائها أسيرة وحيدة في وادي السند، على الرغم من أن الأسباب والقرائن التي سيقت لتدعم فكرة أنها تقع في إيران أو في وادي السند، هي الأسباب والقرائن نفسها التي سيقت حول دلمون ومجان، فكيف سقطت عن الأخيرتين وبقيت عالقة بالأولى؟

الأدلة المادية

يحاجج الكثير من الباحثين المتحمّسين لنظرية وقوع ملوخا في وادي السند في نفيهم لأي علاقة بين مليحة وملوخا، بأن آثار مليحة تنتمي إلى العصور الكلاسيكية، الهلنستية والرومانية، ولا علاقة لها بالعصر البرونزي الذي يمثل فترة ازدهار سومر وآكاد، والنصوص التي تذكر ملوخا ومجان ودلمون.

ومع أن هذه المحاججة التبسيطية يمكن أن تؤخذ بنظر الاعتبار أثناء النقاش العلمي، إلا أنها لا تبرر بأيّ شكل من الأشكال ضرورة الزعم بأن ملوخا ينبغي أن تقع في مكان قصي، في وادي السند أو الحبشة.

وهنا لا بد من الانتباه إلى أن الحديث عن ملوخا في العصرين البرونزي والحديدي، لا يعبر عن مدينة أو ميناء معين؛ بقدر ما يعبّر عن بلاد أو إقليم مترامي الأطراف.

والاعتقاد القديم الذي ساد في ستينات وسبعينات القرن العشرين؛ بخلوّ أو ندرة مواقع العصر البرونزي الموازية لفترة نشاط سومر وآكاد في جنوبي الخليج، أثبت بطلانه مع اكتشافات الثمانينات والتسعينات للمزيد من مواقع العصر البرونزي في المنطقة المحصورة بين قطر وعُمان، أي الإمارات العربية المتحدة الحالية، وهي الموقع المرجح، بحسب اعتقادنا لإقليم ملوخا.

فبالإضافة إلى المواقع الشهيرة المعبرة عن هذه الحقبة الطويلة، والتي سادت شبه جزيرة عمان في بداية العصر البرونزي (3000 ق.م)، كجزيرة أم النار وجبل حفيت وواحة هيلي في أبو ظبي، ووادي سوق بين مدينة صحار في عمان والعين في الإمارات، نجد في مليحة نفسها واحداً من أكبر قبور العصر البرونزي وأغناها باللقيات والفخاريات المنتجة محلياً أو المستوردة من جنوب شرق إيران أو بلوشستان، وهو ما يشير إلى أنه قبر أنموذجي من فترة أمّ النار المتأخرة، أي من الفترة 2300 – 2100 قبل الميلاد.

وهذا القبر لا يمكن أن يكون معزولاً عن سياقه السكني والحضاري، فلا بد أنه جزء من مستوطَن يعود للعصر البرونزي، ستكشف عنه معاول ومجسات المنقبين ولو بعد حين.

كما عزّزت الاكتشافات الجديدة في جبل بحيص جنوب مليحة، المنتمية لثقافة أمّ النار ووادي سوق، الانطباع القائم بأن ثقافة أمّ النار اتسمت بالتجانس النسبي عبر أرجاء شبه جزيرة عمان.

ولعلّ في اكتشاف أكبر ورشات تعدين وصهر النحاس العائدة للعصر البرونزي في موقع وادي الحلو، بين مدينة كلباء ومليحة وشوكة، حيث عثر على عدد كبير من السبائك النحاسية والبرونزية، ومنها سبيكة تزن خمسة كيلوغرامات، أوضح تأكيد مادي على ما جاء في الوثائق السومرية والآكادية، التي تحدثت عن نحاس ملوخا ومجان.

أسئلة السلطة


رأس ثور نحاسي من النمط السومري، حضارة دلمون، 2000 قبل الميلاد، من بعد باربار، البحرين

لا ندري لماذا يستبعد علماء الآثار فكرة وجود مملكة أو ممالك ذات تراتب هرمي في هذه المنطقة، على الرغم من وجود نصوص تاريخية تشير تلميحاً أو تصريحاً إلى وجود ممالك مدن في الخليج تشبه ممالك المدن السومرية في جنوب بلاد الرافدين، وتعد امتدادا لها. فهذا سرجون الآكادي ذكر في إحدى وثائقه أنه وصل إلى البحر الأسفل (الخلیج العربي) وبلاد الجبال السوداء، وأخضع ميناء ندوكي ومیناء آخر، وقضى على مدن السومريين في البحر الأسفل وبلاد الرافدين وأنشأ على أنقاضها إمبراطوريته.

وفي وثيقة للملك ريموش ابنه وخليفته، نقرأ أنه غزا ملوخا. وتفيد وثيقة أخرى للملك الآكادي منشتوشو، الابن الثاني لسرجون، الذي تولّى السلطة بعد شقيقه الأكبر ريموش، أنه أرسل حملة عسكریة وصلت إلى البحر الأسفل، فتجمع لمقاومتھا اثنان وثلاثون ملكاً من حكام المدن الذين قرروا محاربته، ولكنه انتصر علیھم وأدخلھم في طاعته، وفرض علیھم القیود التي ارتضاھا، غیر أنه عجز عن إدخال مملكة مجان التي یحكمها ملك یدعى مانودانو ومملكة أبراك، التي لم يسمّ ملكها، تحت سلطة إمبراطوریته فعاد إلى مقر إقامته.

ولكن خلیفته وابنه نارام سین حقق له رغبته، حیث قام في أوائل سنيّ حكمه بغارات ناجحة على منطقة البحر الأسفل، واحتل مجان، وقضى على ملكھا مانودانو وأخذه أسیراً إلى عاصمته، كما، وتغلب على حلیفه ملك أبراك وفرض سیطرته علیه. وأن أهل ملوخا، شعب الجبال السوداء، يجلبون إليه جميع أنواع البضائع النادرة.

وفي نص لجوديا ملك لكش (2093- 2073 ق.م) ذكر أن ملوخا ومجان أرسلت جزية كبيرة من جبالها لبناء معبد نينكرزو.

وليس من المستبعد أن يكون موقع تل أبرق قرب الساحل بين الشارقة وأم القيوين، هو نفسه موقع مملكة أبراك، المذكورة في وثيقة نارام سين، خصوصاً أنه عثر فيه على أكبر حصن في عموم المنطقة يعود إلى العصر البرونزي المبكر، وهو ما قد يشير إلى مركزيته. بالإضافة إلى أن دفع جزية عن إقليم، كما ورد في وثيقة جوديا، تفترض وجود نوع من مركزية السلطة.

صحيح أن علم الآثار لم يقدم حتى الآن أدلة مادية حاسمة حول وجود سلطة مركزية تعود إلى عصور البرونز، في عموم شبه جزيرة عمان، ولكن ذلك ليس بمستبعد، طالما أن النصوص تدعم ذلك، ومواسم التنقيب في بعض المواقع لا تزال في بداياتها.

وفي هذا المجال ثمّة نظريتان يجري التداول حولهما في أوساط الآثاريين، تستبعدان فكرة وجود مملكة في العصور البرونزية. الأولى اقترحتها المؤرخة الهندية شيرين راتنغار في العام 2001، إذ قالت فيها “ربما قصد تجار وبحارة بلاد الرافدين وهرابيا شبه جزيرة عمان، ولكنهم لم يجدوا فيها شركاء تجاريين ولا احتاجوا إلى وثائق مختومة، ولا بلاطاً ملكياً يمثلون أمامه، بل كانوا يحصلون على المعادن بمبادراتهم الخاصة”.

وتعني هذه النظرية “المتطرفة” بأن منطقة شبه جزيرة عمان، أي الإمارات العربية المتحدة الحالية وسلطنة عمان، كانت مجرد معبر يضطر بحارة وادي السند وبلاد الرافدين إلى عبوره مرغمين، نظراً لخلوّه من أشكال الحضارة، وأن النحاس والمعادن الموجودة فيه؛ كان يستخرجها تجار السند وبلاد الرافدين بمبادراتهم الخاصة.

وتتجاهل هذه النظرية، التي تحاول أن تجد لشبه الجزيرة الهندية مكاناً بين منابع الحضارة البشرية في بلاد الرافدين ومصر، جملة من المكتشفات الأثرية المهمة في الإمارات خلال السنوات العشرين السابقة لبحثها، ومنها ختم أسطواني سوري، وأوزان بمعايير مدينة إيبلا العمورية شمال سوريا عثر عليه في مستودع جزيرة أم النار في أبو ظبي، وهو ما يدحض تلك النظرية، ويثبت أن تجارة هذه المنطقة كانت متشعبة ولا تقتصر على ثنائية هرابيا وسومر المزعومة.

ثم إن بقايا الحضارة المادية والممارسات الجنائزية في مواقع فترة أمّ النار ووادي سوق، أي مواقع العصر البرونزي، الموازية لسومر وآكاد في شبه جزيرة عمان، ثبت آثارياً أنها تنتمي إلى ثقافة المنطقة ولا يمكن نسبتها إلى أجانب.

وبالإضافة إلى نظرية راتنغار، طرح عدد من علماء الآثار والمؤرخون ومنهم الفرنسي سيرج كلوزيو نظرية “النظام القبلي العربي”. فبحسب وجهة النظر هذه، “لم يتطوّر الهيكل الاجتماعي في شبه الجزيرة العربية أبداً نحو التنظيم التراتبي الذي شهدته الدول القديمة في بلاد الرافدين ومصر، بل ظل متمسكاً بصلات النسب والمساواة القضائية بين الأفراد فيما يمكن تسميته “نظام قبلي عربي”، اتبعت فيه الثروة والقوة خطوطاً مختلفة؛ فتراكم الثروة لم يكن يعد إيجابياً وكان لا بد من تقاسمها مع الغير، أما القوة فكان ينظر إليها بريبة، ورفض إملاء أيّ أمر على الغير بالوسائل القسرية، وفي مثل هذه المجتمعات يعتمد أغلب العلاقات الاقتصادية على صلة القرابة”.


موقع هيلي- العين- الإمارات تنتمي للعصر البرونزي (الآكادي)

ولكن كلوزيو، وفي معرض مناقشته لهذه النظرية، يشير إلى أن هذا الكلام فيه تبسيط مفرط، فسواء أتى إلى مجان أشخاص بداعي الحرب، كما فعل منشتوشو ونارام سين، أم وصلوها في سبيل آخر، فقد حصلوا على النحاس من مجتمع جيد التنظيم ويرتب شؤونه التجارية بوسائله الخاصة، مقابل تشكيلة كبيرة من السلع التي تبادلوها معه، والتي عثر على بقاياها في جميع المواقع العائدة إلى تلك الحقب. ويشير كلوزيو إلى وجود أختام وأوزان مستوردة ومحلية في جميع المواقع المكتشفة في شبه جزيرة عمان، العائدة لذلك العصر.

ولكن نظرية كلوزيو هذه تصطدم بحقيقة وجود ثلاث شخصيات ملكية من مجان، ذكرت في نصوص بلاد الرافدين، اثنان وصفا بأنهما ملكان، والثالث وصف بأنه مبعوث ملكي.

فمانودانو (مانيوم) الذي هزمه نارام سين، وصف بأنه سيد (ملك) مجان، وهناك ندوب عل الذي أطلق عليه لقب إنسي مجان، وإنسي هي الصيغة السومرية-الآكادية للملوك الأجانب. أما الاسم الثالث فهو ودوم، مبعوث الملك ندوب عل إلى مدينة أور في عهد سلالة أور الثالثة السومرية (2111 – 2003 ق.م)، والذي سمح له بالمشاركة في الطقوس.

ولا يخفى معنى السماح لمندوب حاكم بالمشاركة في الطقوس الدينية، التي كان الملك شخصياً، بوصفه الكاهن الأكبر، يقوم بها، فمثل هذا السماح يشير إلى نوع من النديّة، بالإضافة إلى أنه تعبير عن وحدة المعتقد الديني الذي يجمع أور بمجان.

الإقليم والعاصمة

ويبقى لغز العلاقة بين مجان وملوخا، اللتين يندر أن يذكرا منفصلتين عن بعضهما البعض، قائماً دون حل، إذ أن آشور بانيبال يتحدث عن المسميين بوصفهما مكاناً واحداً وصل إليهما معاً في 57 يوماً من مسيره إليهما. وقد ورد اسم ملوخا في أكثر من نص بوصفه يعبّر عن بلاد وليس عن مدينة معينة. أما مجان، فثمة إشارات قوية إلى أنها كانت مدينة محددة.

ولعل ملحمة “أنكي ونينخورساج” النص الأكثر تحديداً على هذا الصعيد، إذ ذكر اسم الإله/ الإلهة “لت نينتولا” بوصفه إله مجان أو بوصفها إلهة مجان، ومن المتعارف عليه؛ أنه لكل مدينة معبوداً معيناً يحميها، نظراً لأن سومر لم تشهد ولادة الدولة المركزية، وبقيت “المدينة المملكة” هي الوحدة الأساسية في التنظيم السومري، قبل أن يأتي سرجون الآكادي ويؤسس أول دولة مركزية في التاريخ المعروف حتى الآن. وبالإضافة إلى ذلك، ورود اسمي ملكين لمجان هما مانودانو وندوب عل، مقابل عدم ورود اسم أيّ ملك أو حاكم أو إله يخص ملوخا. وربما يحمل هذا دليلاً إضافياً على أن ملوخا كانت بلاداً وإقليماً وليست مدينة.

وثمّة إشارة متأخرة نسبياً، تستحق الإشارة إليها، ربما تدعم وجهة نظرنا السابقة، فالجغرافي العربي الشهير شمس الدين المقدسي البشاري، الذي سبق أن أشرنا إليه، أكد في معرض حديثه عن المدن التي تحمل أكثر من اسم في الجزيرة العربية، أن مزون هو اسم آخر لميناء صحار، مما ينفي الاعتقاد السائد بأن مزون كانت تعني عموم بلاد عمان.

وهذا بدوره، يجعلنا نطرح فرضية تتعلق بمزون ومجان، اللتين ربما كانتا تعنيان شيئاً واحداً، لأن بعض اللغات تقلب الجيم زيناً وبالعكس.. خصوصاً إذا عرفنا أن صيغة مزون أتت من بلاد فارس التي حوَّرت اسم مجان بما يتناسب مع قواعد اللفظ الفارسية. يقول الشاعر:

إن كسرى سمى عُـمان مزونــا

ومزون يا صاح خير بلاد

بلدة ذات مزرع ونـخيل

ومراع ومـشرب غيـر صادي

فإذا كانت مجان مدينة، وملوخا (ملوحا) إقليماً، فلماذا لا نعيد التفكير بعلاقة ملوخا ومجان؟ فقد تكون الأخيرة عاصمة وميناءاً للأولى!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.