نعومي شهاب ناي..الطوفان والذاكرة

الأربعاء 2015/07/01

ولدت لأب فلسطينيّ مهاجر وأمّ أميركية ذات أصول ألمانية وسويسرية، وقضيت معظم يفاعتك في القدس وبسان أنطونيو في تكساس. كانت هذه الحياة بين الحدود/الفجوات/الوقفات/الخلائط ذات الثقافات المتعدّدة محورًا أساسيًّا في أعمالك، ليست بوصفها “تحديقًا، وإجالة في الخاطر، وتسكّعًا”، أو بوصفها “احتماليّة ثرّة لملاحظة المزيد” فحسب، كما قلت ذات مرّة، بل من حيث هي كشف: تأمّل واستبصار عميق في “الأنا”، ليس عن طريق الشكّ -وفق النزعة الديكارتيّة لمفهوم الهوية- وإنما عن طريق اللقاءات/المواجهات العشوائية؛ ليس فقط مع الآخر و”الوفرة المحيطة بنا، والتي تواصل النضوب بطريقتها الخاصة”، بل مع “سلالتنا وهي تهبط علينا، منخّلة، عبر أعمال يومية ضرورية صغيرة”. إلى أيّ مدى تعتقدين أن تلك الحدود، أو مناطق الإتصال الثقافي، تلك، قد أثّرت في تشكيل هويتك كشاعرة أميركية من أصول عربية تكتب من “هناك”؟

إن سؤالك أكثر أناقة من أيّ جواب يمكن أن أمنحه. قضيت أول أربع عشرة سنة حاسمة من حياتي بفيرغسن، في ميزوري، حيث كان المواطنون السّود يعيشون، بدرجة أساسية، خلف “خطّ” -خط مسكوت عنه، غامض، ولكنّه حقيقي على أيّ حال- في حارتهم بِكنلوش. وكان الأطفال في حارتنا، حارة البيض، ذات الثقافات المتعدّدة (كان أبي العربي الوحيد في فيرغسن ذلك الوقت) لا يستطيعون إدراك ذلك. ولم تتوحد فيرغسن إلاّ بعد أن رحلنا عنها. وعلى الرغم من ذلك، مثلما نستطيع أن نرى جميعًا، فإنّ بنى القوّة، هناك، لم تتوحّد فعليًّا حتى يومنا هذا. من المسيطر؟ ومن الذي يعاني أكثر؟ إننا مدركون على الدوام للأُخرويّة والانتماء، في حيواتنا -أين نشعر بالأُلفة إلى حد بعيد، وماذا نستطيع أن نفعل حيال أيّ شيء من ذلك؟ لقد قبلت الوقوف على الحوافّ، أراقب، غير منتمية البتّة إلى أيّ مكان على نحو ما، أسأل أسئلة، وأشعر بالفضول والحزن تجاه أسرار العزلة الكامنة في مجتمع آخر/مجتمع أنتمي إليه- ولم تسفر مراقبة الظروف الجائرة لثنائيّة العدالة/الجَور التي تحكم فلسطين وإسرائيل، من بعيد، وطيلة هذه السنين، إلاّ عن تعميق الشعور المحيّر، هذا، وتعاظمه. ماذا يستطيع الناس فعله على نحو أفضل؟ أعتقد بأنه سؤال مركزي في أعمالي، بدون أيّ إجابة واحدة.

خط الأغلبية والأقلية ونقطة التحوّل

لم يكن “الخطّ” الذي تحدثت عنه في حارة السود بفيرغسن طفولتك فحسب، وإنما في مكان آخر بعيد جدًا-مكان لم ترينه إلّا وأنت في الرابعة عشرة. في تلك السن المبكرة، انتقلت مع العائلة للعيش في فلسطين. هناك، قمت بأول زيارة لك إلى جدّتك الفلسطينية، خضره ناي، في قرية سَنجل التي كانت تحدّها المستوطنة الإسرائيلية شيلو. ولم يكن “الخطّ” الذي شاهدته في الضفة الغربية مختلفًا البتّة عن ذاك الذي في فيرغسن- فهناك، في فيرغسن، كنت جزءًا من “أغلبيّة” تراقب “أقليّة” مسوّرة من وراء “خطّ”، بينما كنت في فلسطين جزءًا من “أغلبيّة” مسوّرة تراقبها “أقليّة” من وراء “خط” ما. لقد تحدثت عن هذه التجربة من حيث أنها قد غيّرت حياتك. بأيّ معنى تعتقدين بأنّ تلك الزيارة كانت انعطافة، نقطة تحوّل، ليس على صعيد تشكيل هويتك الثقافية، وإعادة تشكيلها، فحسب، وإنما من حيث تأثيرها القوي على وجهات نظرك السياسية التي أصبحت جزءًا من الرسالة الإنسانية التي تحاول قصائد التعبير عنها؟

كان اسم جدتي هو خضره شهاب الزّير. (اسم عائلة زوجي الأميركي/الدنماركي هو ناي). حسنًا، تذكرنا الخطوط على الدوام بأنّ البعض مدموجون، (مندرجين في الدائرة)، والبعض الآخر مطرودون ومبعدون. تطوّق البعضَ العدالةُ والقوة والسيطرة والبعضُ الآخر منبوذون، مراقبون، لاجئون، في المنفى، مفصولون عن الحياة التي يستحقونها. إنّ توسيع الإدراك هو ربّما مسألة جيّدة على الدوام بالنسبة إلى الكتّاب والفنانين إيجاد تعاطف واسع النطاق، وتماثُل بليغ ثاقب، وقلق واهتمام متعاظمين: إيجاد أفق أكبر على نحو جوهريّ. إلى أين ننتمي؟ إلى كل مكان. إلى اللّامكان. ومن الذي دُعِي ليدخل؟

خطوت خارج باب بيتي أكثر من السابق، فكان كل شيء رأيته، تقريباً، يتناقض مع ما تبثه الميديا المسيطرة، على نحو مستمر يومياً. ولو طفت في شوارع أميركا، وتكلمت مع الأميركيين العاديين، ستدرك مدى سوء الوضع

منافي الأنا وتماثُل الانتماء

بين هذا “التّماثُل البليغ الثاقب” لِـ”إلى أين ننتمي؟” و”التعاطف واسع النطاق” لِـ”من الذي (دعانا) لندخل؟” يكمن إدراك الشاعر للأنا، بمنافيها الداخلية والخارجية، ضد العالم بأقنعة عنفه/ وجَوْره/ وسطوته/ وسيطرته الكثيرة. يذكّرني هذا بالأسئلة الأخيرة التي أنهيت بها قصديتك “دم” (من مجموعتك “كلمات تحت الكلمات”) “مَن يدعو أيّ امرئ متحضّرًا؟/ أين يستطيع القلب الباكي أن يرعى؟/ وما الذي يفعله العربي الحقّ الآن؟”. بالمناسبة، ما الذي يفعله العربي الحقّ الآن، في هذه اللحظة، حيث كل شيء من حوله ينهار، ملطّخًا بلا شيء سوى الدم؟ هل ثمة ما هو مقدّر له غير أن “يعرف كيف يلتقط الذبابة في يديه”؟ وماذا عن ذلك الفلسطينيّ، ذلك “الفلسطينيّ الصغير” الذي يُدلّي شاحنة-دمية في الصفحة الأولى”؟ هل ثمة نهاية لهذه المأساة-مأساة “التّين المشرّد” الذي “جذوره الرهيبة كبيرة جدًّا علينا”؟ أيّ راية يمكن لنا، نحن الفلسطينيّين” أن نلوّح بها غير “راية الحجر والبذرة (الوحيدة)”؟.

لا أعرف. هذه أسئلة تطاردني في كل يوم. ما عسى المرء أن يفعل أكثر؟ أيّ شيء آخر يمكن أن ينفع؟ التعليم، التواصل، الفنون، إدامة الثقافة، “قَصّ الحكايات” -هذه أشياء نواصل القيام بها دومًا. بيد أن السياسيّين والناس الذين يتحكّمون في مقاليد الأمور- لا أعرف. لا أدّعى بأنني أمتلك إجابات، إجابات شافية. لذلك، يحتوي كثير من قصائدي على أسئلة. إننا، جميعًا، متعبون من رؤية المعاناة القديمة ذاتها وهي تكرّر نفسها في حيوات عديدة، وعبر أجيال كثيرة جدًا. كم يستطيع الناس أن يكونوا قادرين على العيش والحفاظ على أنفسهم داخل المشاهد الكبرى للكارثة والعناوين الرئيسة المرعبة التي تحجب الكثير من الجهود الصغيرة، الجديرة بالاحترام، والتي تبذل نحو الحياة؟ ثمة الكثير ممّا لا نراه البتّة.

الشاعرة الجوّالة

قضيت معظم حياتك ترتحلين في العالم، ودائمًا ما كنت تشيرين إلى نفسك بوصفك “شاعرة جوّالة”. ما الذي تبحثين عنه؟

لست أبحث. إنني أجد فحسب. الإنسانيّة في كل مكان. الجمال في كل مكان. العلاقات والروابط (الإنسانية) والناس المهتمّون في كل مكان. فلماذا كلّ هذه الحرب؟ (ولأنني بقيت “كاتبة حرّة”، فقد دعيت لإنجاز أعمال كثيرة قصيرة الأمد في كل مكان. هكذا بدأ الأمر ثمّ استمرّ على هذا المنوال). ولكنني أدعم كليًّا أيّ شخص يرغب في البقاء في حديقة منزله الخلفية ولا يذهب إلى أيّ مكان البتّة. النّظر بإمعان وتبصُّر هو التذكرة.

الطوفان وفقدان الذاكرة

فلماذا كل هذه الحرب، إذن؟ ماذا تستطيع “الإنسانيّة التي في كل مكان” و”الجمال الذي في كل مكان” أن يفعلا في زمن “فقدان الذاكرة” هذا، حيث لم يعُد البشر –وذاكرتهم- يطلّون إلّا على صور الحرب والدمار؛ على “الطوفان” الذي يأتي على كل شيء؟

فاجعة -(تلك) التبريرات اللانهائية لجرائم الحرب ضدّ الفلسطينيين. غاشمة، ومأساويّة تمامًا، ويصعب فهمها- كيف يتواصل هذا الأمر منذ أمد بعيد. أين الاحترام المتبادل، أين كل الشرائع الدينيّة والأخلاقيّة التي تحضّ على عدم القتل، وأين التثقيف والحوار واحتمالية (ذلك)؟ الحرب تخون جميع النوايا الطيّبة. ويبدو بأن العنف مُعدٍ على نحو مخيف. تعوّدت جدتي الفلسطينيّة أن تقول “إنهم لا يعرفون حكاياتنا، ليس إلاّ”. فمن يقصّها إذن؟ إنّ البعض يحاول ذلك -فنانون وكتاب ومعلّمون- لا أعرف لمَ هي الحرب مغرية جدًا بالنسبة إلى كثير من الناس. الجشع؟ المال؟ الوهم والضّلال؟ السيطرة؟

الربيع العربي

وماذا عن “الربيع العربي”؟ هل تعتقدين بأنّ العرب سوف يشاهدون أحلامهم في الحريّة حقيقةً واقعة؟

بالطبع، نأمل أن يرى مزيد من الناس ربيعات أحلامهم حقيقةً واقعة. نأمل أن يحظوا بفرصة إلى ذلك، يعمل الفنانون والكتاب صوب (تحقيق) ذلك في كل يوم، وبطرائق مختلفة. يأخذ الدفاع عن العدالة أشكالًا متعدّدة.

العاديُّ ونهر الحياة الخفيّ

طرحت قصائد وليام ستافورد ظلالًا عميقة في كتاباتك -أسلوبه اليوميّ الذي يركّز على العاديّ والتفاصيل الأرضيّة، في شاكلة شديدة القُرب من الكلام اليوميّ المتداول. كان شاعرًا “يتبع نهرَ حياته الخفيَّ”، مثلما قال ذات مرّة. هل هذه هي الأمثولة التي تعلّمتها من قراءة شعره: أن تتبعي نهر حياتك الخفيّ- فلا صنعةَ (في بناء القصيدة) أو براعة، ولا تفكير مسبقًا أيضًا . . يتبع الشاعر سليقته وحدوسه، ليس إلّا.. يتدفق إيقاع القصيدة (وحالاتها المتعاظمة) من النهر نفسه؟

نعومي أتّفق مع (مقولتيّ) “لا صنعة” و”لا براعة” بالنسبة إلى قصائد ستنافورد، أو بالنسبة إلى كل مَن يكتب بوتيرة منتظمة وعلى نحو عضويّ. ويبدو لي بأن هاته المسألة قد كانت الصنعة الأعمق والأكثر جوهريّة. كما أنه كان مدافعًا عن العدالة واللاعنف طيلة حياته. هل تعرف “لكلّ حربٍ خاسران”، العمل الذي نشر بعد وفاته؟ لقد اهتمّ، وبأكثر الطرائق عمقًا وتبحّرًا، بويلات الحرب والعنف، وكان دائمًا يسأل: ماذا نستطيع أن نفعل أكثر؟

لكل حرب خاسران

ولكنّ ستنافورد -في ذلك العمل، “لكلّ حرب خاسران”- يقول “لو صدف أن استيقظت والحرب الفانية (Armageddon) دائرة، فالزم مكانك، ولا تتحرّك”. هل تعتقدين بأن هذه هي الطريقة، أن نلزم أمكنتنا ولا نتحرك؟ أن نحمل دائمًا لافتة “ماذا نستطيع أن نفعل؟”.

كلّا، لا يتوجب أن نلزم أمكنتنا، وأن لا نتحرك. ولا يتوجب أن نحمل لافتة بعينها البتّة -ينبغي للافتة أن تحض على التغيير. ولكن، أن نعمل على الدفع باتجاه الاحترام المتبادل وتعزيزه، دائمًا، وبأيّ وسيلة نستطيعها.

الاحترام المتبادل! حتى مع أعدائنا؟

من الصعب العمل لتحقيقه. أنظر (قصيدة) “انتقام” لطه محمد علي. بل هو شبه مستحيل، في أحايين أخرى. ولعله من المفيد ذكر بأنّ الناس يكتبون القصائد والحكايات لأننّا نواجه أسئلة كثيرة لم تجد إجاباتها بعد. لا أجوبة برّاقة بارعة! تخمينات لا تنتهي. إننا لا نعرف ونحاول أن نتخيّل، ولكن، ألّا نلزم أمكنتنا، على أيّ حال.

أَنسنة الأعداء

ولكن طه محمد علي، في قصيدة “انتقام”، يتحدث عن “عدوّه” بوصفه إنسانًا (حتى لو قتل هذا العدو والده وهدم بيته)، وأن الانتقام الوحيد الذي يمكن أن يلحقه بأعدائه هو عدم الاكتراث بهم البتّة، وتجاهلهم أبدًا! أهذا ما تحاولين قوله: أن نسعى إلى السلام مع أعدائنا على الرغم من جرائمهم، وعلى الرغم من حقيقة أنّ دمنا اليوميّ يسيل (مذ ذّاك والآن) من أياديهم؟ الضحايا يسعون إلى السلام مع جلّاديهم؟ الضحايا بوصفهم هنودًا حمرًا يعيشون في ظلال قاتليهم؟

أرجو المعذرة، لست مخططة استراتيجية عسكرية ولا سياسيّة. ولست محاربة ولا منظّرة -ولهذا السبب فإنني أكتب قصائد وحكايات مادية وسرديّة في جوهرها، ووصفيّة وبسيطة في نبرتها. العنف من أجل العنف عبثيّ آن يحدث. دورات العنف دائرة منذ سنين، ولكنها لم تحقق شيئًا سوى مزيد من الحزن. “المعاملة بالمثل” فنتازيّة في الغالب. وثمّة جرائم لا تنال قصاصها العادل في كل بلد. إنّ معاناة الفلسطينيّين على يد الإسرائيليين فوق كل احتمال. بيد أن البحث عن السلام، على أيّ حال، رغبة تعتمل في قلوب كثيرة، وكيف لي -وأنا أعيش بعيدًا هنا- أن أجحد هذا الأمل النقيّ؟ صدّقني، لقد تفجّعت طيلة حياتي على “الضحايا من الهنود الحمر الذين يعيشون في ظلال قاتليهم”، ولا عبارات منمّقة لديَّ كي أحلّ (مسألة) هذه التركة المرعبة أيضًا. وإن أصدق شيء يمكن أن أقوله لك هو أنني لا أعرف كيف أجيب سؤالك. إنني أواصل أمل رؤية يوم أفضل بالنسبة إلى الشعب الفلسطينيّ، والذي يستحقّه كثيرًا. ما عاناه الفلسطينيّون طيلة سنوات النكبة مرعب، ولكنّ القوى الكبرى قد تجاهلت ذلك في أماكن عدة. بيد أنني، وفي الأسبوع الفائت، بـ”مركز الحوار” في بلفاست، شمال إرلندا، قابلت رجلًا إرلنديًّا كان يفعل من أجل الشبيبة الفلسطينيّين في مخيمات اللجوء أكثر ممّا فعتله أنا طيلة حياتي. ولقد تمنّيت أن أكون خادمته لأساعده على نحو متواضع.

حدود قصيدة النثر

آثرت الإشارة إلى قطعات النثر الموجزة التي كتبتها (في “كرة ثلج النعناع″، على سبيل المثال) بوصفها “فقرات”، على الرغم من احتماليّة “وقوع بعضها في خانة قصيدة النثر”. لِمَ “الفقرة” وليست “قصيدة النثر”؟ وهل تؤمنين بحد فاصل بين الشعر والنثر؟

بالتأكيد، ثمة حدّ فاصل -حدّ بصري على وجه الخصوص- ولكنه مساميّ وحميم. لا أبراج أمان عالية. أمّا بالنسبة إلى الفقرات وقصائد النثر، فإنني أحبهما معًا، بيد أنني أفكرّ في الفقرات بوصفها أكثر سرديّة، وفي قصائد النثر بوصفها أكثر صوريّة وغنائيّة. وإن تعليقي (المنشور على غلاف) “كرة ثلج النعناع″ محاولة لدعوة قرّاء كلا النوعين.

الكتابة إلى الأطفال

كما أنك تكتبين للأطفال، قصائد أو قصصا. فازت روايتك، “حبيبي”، بجائزة جين آدامز؛ وتم اختيارك في أكتوبر من العام 2012، لنيل جائزة نيوستاد لأدب الطفل. لِمَ اخترت الكتابة للأطفال؟ وهل تعتقدين بأنه من الصعب الكتابة للأطفال؟

الأطفال قرّاء رائعون، بكل ما في الكلمة من معنى، ويتوجب أن نأخذهم في الحسبان. وربّما لمعضلة نماء متوقّف كانت لديّ رغبة عميقة في البقاء في ذلك العالم البريء على نحو أكثر (إننا بالغون في الغالب أكثر ممّا نحن أطفال)، كما لديّ ذكرى واضحة عن الشعور الذي انتابني كقارئة نهمة وأنا طفلة (تنتقل إلى عوالم أخرى بانتظام)، أو شعوري بالإحباط من طرائق البالغين وأعرافهم. لطالما أفضّل البقاء مع الأطفال والكتابة لهم. وأما بالنسبة إلى الصعوبة، فإنّ الكتابة للأطفال مُغالبة في بعض الأحيان وسهلة على نحو مدهش في أحايين أخرى، إنها تعتمد على الموضوعة المعيّنة التي نتناولها، ليس إلّا. ومن حين إلى آخر، فإنّ “الوصول إلى عمر” الجمهور على نحو واضح في الذهن ومتناغم يمكن أن تكون مسألة ذات تحدّ كبير، وكان الأمر كذلك، بالنسبة إليّ، حين كتبت “سلحفاة عُمان”. قال المحرّر إنّ النص مكتوب بلغة الصغار، لستّ مسودات على الأقلّ.

ما يضيع في الترجمة

حرّرت ثلاث أنثولوجيّات عن الشعر -“هذه السماء بعينها” (1992)، وهي أنثولوجيا تتناول 129 شاعرًا من ثمانية وستين بلدًا مختلفًا (من تومي أولفسن وتوماس ترانسترومر وأكتافيو باث وفاسكو بوبا ويانيس ريتسوس، إلى فدوى طوقان وفوزية أبوخالد ومحمد الماغوط وسليم بركات وفراد رفقة ويوسف الصايغ وناديه تويني)، و”هذه الشجرة أكبر من عمرك” (1995)، وهي أنثولوجيا ثنائية اللغة عن الشعر المكسيكي، و”الفضاء بين موطئ أقدامنا” (1998)، والتي تقدم 127 شاعرًا وفنانًا من الشرق الأوسط ينحدرون من 19 بلدًا مختلفًا. هل لك أن تحديثنا عن هذه التجرية؟ وعن الترجمة بوصفها عملية تبادل ثقافيّ- تعريف أنفسنا من خلال مرايا الآخر وكلماته. وهل توافقين بأنّ كثيرًا من الشعر يضيع في الترجمة؟

في الحقيقة، لقد حرّرت ثماني أنثولوجيّات- للقراء الصغار والكبار على حدّ سواء. الأخرى هي: “تمليح المحيط”، و”أشعر بأنني سريعة الاهتياج قليلًا من حولك”، و”الوقت حين أدخلتني”، و”ماذا خسرت؟”، و”هل هذا أبديّ أم ماذا؟”. لن أقدم على تحرير المزيد. المشاريع هائلة وتتطلب جهودًا مضنية في المراسلة والحصول على الإجازات المطلوبة والدفعات المالية، إلخ. أتّفق بأنّ كثيرًا من تحوّلات العبارات والإيقاعات والعناصر قد تضيع في الترجمة، ولكننا نعثر على جمهور جديد بالكامل، وهاته مسألة أكثر أهميّة بالنسبة إليّ على نحو أكبر. تنظيم أنثولوجيا وتحريرها عمليّة مرضية في المقام الأول، تستخدم قسمًا مختلفًا من الدماغ مختلفًا إلى حدّ ما عن ذاك الذي يستخدمه المرء في كتابه عمله هو، وهي مسألة تثقيفيّة وتحفيزيّة إلى حد بعيد. وربما يتوجب علينا تنظيم واحدة لأنفسنا كل سنة أو سنتين على الأقلّ- ما هي القصائد التي تعنينا أكثر في الوقت الراهن؟ وكانت مسألة جمع قصائد في طبقات روحيّة، وتخيّل القارئ وهو يكسب أصدقاء جددًا، مسألة في غاية الرضى دومًا. وحين ظهرت “هذه السماء بعينها”، كان كاتب هندي، ظهر عمله في الكتاب، قد كتب بأنه كان يعاني من مرض عضال لأكثر من سنة، بيد أنه، وآن أدرك أيّ عائلة كبيرة (من الشعراء والقراء) لديه، وثب من السرير، وقد تعافى.

الأدب العربيّ

هل أنت مطلة على الأدب العربيّ؟

أقرأ معظمه في الترجمة.

هل ثمة أعمال بعينها؟

كل شيء يقع بين يديّ، والكثير من خلال منشورات “إنترلينك” في مساتشوستس. قرأت نسخة من كتاب هشام بستاني القادم قبل نشره. لقد فرغت من قراءة “لن أكره” للدكتور عزالدين أبو العيش، و”رأيت رام الله” لمريد البرغوثي، و”كان لنا وطن” لسري نسيبه. كن قد قرأت هذه الكتب آن صدورها، ولكنني وجدت في نفسي حاجة إلى قراءتها من جديد

أجرى الحوار بالإنكليزية وترجمه إلى العربية تحسين الخطيب

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.