نقاش قاهري

قراءة عربية في رومانتيكية وليم بليك
السبت 2020/08/01
الفنان الشاعر "وليم بليك"

رغم أني عادة لا أزور معرض القاهرة الدولي للكتاب كل عام إلا مرة واحدة إلا أنني زرته هذا العام ثلاث مرات. إحدى هذه المرات كانت لاشتراكي في إحدى الندوات الثقافية. ولأنني أحرص دائماً على الذهاب مبكراً فقد دلفت إلى قاعة الندوات لأجد ندوة معقودة تسبق ندوتنا. شدني رغماً عني أحد المتحدثين شداً لعمق أفكاره المطروحة وسلاسة العرض في الوقت نفسه. وتعارفنا بعد الندوة ومن يومها وأنا أتابع نشاطه الفكري لأتأكد مع الأيام أن حدسي لم يخطئ حينما حكمت على أفكاره بالعمق وسلاسة العرض. إنه الناقد الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية 2016 والذي يبشر بخير كثير الدكتور حاتم الجوهري.

ولأن مجلة “أدب ونقد” من المجلات التي أحرص على متابعة ما ينشر فيها وقراءتها قراءة جادة- لجدية الشاعر الملهِم والملهَم الأستاذ عيد عبدالحليم في انتقاء المواد المنشورة وإخراجها بالشكل الذي يليق بها- فلقد أسعدني أن أجد في العدد الذي مع الباعة هذه الأيام (مارس وأبريل 2020) دراسة للدكتور حاتم الجوهري عن أحد الشعراء الإنجليز ذائعي الصيت ويليم بلاك (1757 – 1827) وإن لم يذع هذا الصيت إلا بعد وفاته. قرأت الدراسة قراءة متأنية، فوجدتني مشدوداً إلى جهاز الحاسوب الخاص بي أكتب هذا المقال.

قسّم الجوهري دراسته إلى مدخل طويل نسبياً وثلاث نقاط رئيسية. في المدخل حرص على تعريف القارئ بالمدرسة الرومانتيكية التي ظهرت في القرن الثامن عشر – التي ينتمي إليها ويليم بلاك – وكيف أنها جاءت على أنقاض المدرسة الكلاسيكية لتمثل تمرداً أدبياً في تاريخ الآداب الأوروبية، وتمهيداً للثورات الأوروبية ومعاصرة لها. لينتقل بعدها إلى التعريف بالشاعر، ولادته ثم اهتماماته الفكرية التي تخطت الاهتمام بالشعر والتي يمكن وصفها عموماً بأنها اهتمام بالفن. بدأ بالرسم الذي درسه دراسة أكاديمية ثم الشعر. ثم يقدم الجوهري أخيراً في المدخل عرضاً موجزاً لديوان بلاك الشهير “أغنيات البراءة وأغنيات التجربة”.

وليم بليك

يرى الناقد أن حب الأصيل (الخالق سبحانه وتعالى) وكراهية الوصول إليه من خلال الوكيل أو (الكنيسة) يمثل أحد ظواهر ديوان ويليم بلاك. ففي أكثر من قصيدة عبّر بلاك عن سخطه من هذا الوكيل أو الوسيط الذي يعطي نفسه الحق في التحليل والتحريم أحياناً، مثلما جاء في قصيدة “لندن”، والحق في تقييد العقل ومطالبة الناس بالانصياع لمجرد الانصياع، مثلما جاء في قصيدة “ضياع ولد صغير”.

أبرز الجوهري حب ويليم بلاك لقيم الحرية والإنسانية والتعايش ودعاويه لها ضد كل أشكال الاستبداد – السياسي منه والديني – من خلال مقتطفات من بعض أشعار بلاك. ففي قصيدة “الطفل الأسود الصغير” وقصيدة “ضياع البنت الصغيرة” رفض واضح للتمييز الإنساني العنصري والنظرة الاستعمارية التي رسخت قيمتي الدونية والأفضلية، وفي قصيدة “في محنة الآخر” إبراز لأبرز مظهر من مظاهر الإنسانية وهو ضرورة تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان ومشاركته مشاعره وتقديم العون له. كما اهتم بإبراز سخرية بلاك من الرأسمالية التي تصنع الفقر ثم تحاول القضاء عليه وذلك من خلال قصيدتي “الخلاصة الإنسانية” و”الخميس المقدس”.

ولأن بلاك قد عنون ديوانه بـ”أغاني البراءة والتجربة” فقد مهدنا هذا العنوان لتوقع تلقي رأي بلاك في البراءة وحصيلة خبراته. يرى الدكتور حاتم أن بلاك يعبّر في قصيدة “أغنية مريبة” عن لحظات الضعف والاستسلام وهزيمة البراءة أمام العالم. ولما كانت الخبرة والتجربة قد علّمتاه أن الخير والشر يعيشان كل منهما إلى جوار الآخر، لم يحسم بلاك رأيه لأيّ صف ينحاز عندما عرض وجهة نظر التضحية والفداء في مقابل وجهة نظر الأنانية.

يخصص حاتم الجوهري الجزء الأخير لتأكيد موقف بلاك من عالم الطبيعة. العالم المادي لدى بلاك عالم يشعر إزاءه بالغربة لقوانينه القاسية والعمياء. فلا مفر – إذان – سوى لعالم الفطرة – عالم الطبيعة. فجو الطبيعة – في قصيدة “الخضرة التي تكرر الصدى”- جو ساحر بشروق الشمس وبربيعها والطيور والسماوات. ومتى دبت الحياة في الطبيعة – في قصيدة “أغنية ضاحكة”- تضحك الغابات وتظهر جداول الماء غمزاته وتضحك الذاكرة الإنسانية مع النسيم. وفي قصيدة “الربيع” يطل طائر العندليب الذي يصمت أمام صوته العذب كل صنيعة بشرية كآلة الفلوت. هذه هي حالة البراءة التي لا يفسدها – وفقاً لبلاك – سوى العالم المادي. فالشمس لا تسطع والحقول جدباء والطرق مليئة بالشوك في قصيدة “الخميس المقدس” التي تعبر عن العالم المادي المرير. وتتمثل هزيمة العالم المادي لنا في موت “الوردة المريضة”. وكيف لم يُفسد العالم المادي عالم الطبيعة النقي والـ”شجرة سامة”؟

وفي ظن الناقد الجوهري أن بلاك ليس مثل غيره من شعراء زمنه أراد أن يُثَوّر القيم الإنسانية العليا وينادي بها من خلال أشعاره، فإلى أي مدى نجح؟ كثير من أهل الفكر والأدب فعلوا مثله، هل نجحوا؟ هل انتصروا؟ الإجابة واضحة إذ أن الشر محيط بنا في كل مكان وزمان. هل هذا يعني أن أصحاب القيم ودعاته فشلوا؟ وأن صوتهم لم يُسمع وفكرهم من خلال نثرهم وأشعارهم لم يؤثر؟ تأتي الإجابة الحكيمة التي تدرج الجوهري ضمن أهل الخبرة والتجربة مثله في ذلك مثل بلاك “ليس من انتصار حاسم ونهائي في تاريخ البشرية، فسوف تستمر حالة الصراع والجدل والتدافع بين أصحاب القيم الإنسانية الأعلى وبين دعاة الاستبداد والمصالح الفردية (قائمة) إلى أن يصل التاريخ البشري لمحطته الأخيرة، فهناك سنن للحياة وطبائع للأمور تجري عليها، وستظل تجري عليها، إنما على كل إنسان أن يحدد اختياره جيداً”. عندما قرأت هذه الكلمات شعرت أنني أقرأ نفسي.

نقطة أخيرة: أتساءل لِمَ لم يدرج الناقد الجوهري قصيدة “النمر” ضمن اختياراته التي قدم بلاك من خلالها، وهي القصيدة التي نشرت عام 1794 ضمن ديوان بلاك “أغاني الخبرة”، وعدّها بعض النقاد أشهر قصيدة من قصائد بلاك.

إن فكرة رؤية وملاحظة التناقضات من أهم الأفكار التي أسس عليها بلاك فلسفته. من هنا فقد رأى بعض النقاد أنه كتب قصيدته “النمر” في مقابل قصيدة “الحمل”. ما دلالة هذا؟ البعض يرى أن صراع الإنسانية قائم عنده على تصور الطبائع المتضادة للأشياء. من هنا كتب “أغاني البراءة” ثم تلاها بـ”أغاني الخبرة”، وهما الديوانان اللذان تم جمعهما معاً بعد ذلك في ديوان واحد ليبرز من خلالهما بلاك الطبيعتين المختلفتين للروح البشرية. والبعض يرى في تحليل قصيدة “النمر” تساؤلاً ذا مرجعية دينية في صلب العقيدة المسيحية قوامه أنه إذا كان الله خيراً محباً للجميع، لِم خلق مثل هذا الكائن المفترس والمرعب؟

لوحة

يؤكد هذا التحليل بيت الشعر الذي يتساءل فيه بلاك تساؤلاً استنكارياً: لماذا يا من خلقت “الحمل” تخلق هذا الكائن المتوحش؟ يمكن الامتداد بهذا التحليل إلى القول بأن ثنائية “الحمل” و “النمر” تمثل تصورين للإله في المسيحية وفقاً لأحد التفسيرات: الإله المنتقم الجبار (يهوه) المذكور في العهد القديم، والإله المتسامح الذي يصوره العهد الجديد (انظر: أوليفر تيرل في تحليل قصيدة “النمر”).

 ليس هذا التحليل هو التحليل الوحيد الذي تم تقديمه لهذه القصيدة. البعض يرى في تصوير النمر ككائن يشتعل ناراً استدعاء للأسطورة اليونانية القديمة لبروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر ليحررهم بها. يجد متبنو هذا التحليل دليلهم في بيت الشعر الذي يقول فيه “ماهي هذه اليد التي استطاعت أن تقبض على النار؟” في إشارة لبروميثيوس الذي قبض على النار وأخذها من الآلهة ليمنحها للبشر.

 وعلى كل تظل هذه القصيدة من أشهر قصائد ويليم بلاك التي أتمنى أن يمتعنا حاتم الجوهري بتحليل نقدي منفرد لها يضاف إلى إسهاماته المتميزة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.