نقد الشعر من المعيارية الى الوصفية
هل ثمة معيارية في النقد الشعري العربي اليوم؟ هو واحدٌ من الأسئلة الإشكالية المحرقة التي تواجه نقد الشعر، وخاصةً الحداثي وما بعد الحداثي منه، في الثقافة العربية اليوم. يخيل إليّ أن نقد الشعر قد تخلى عن أيّ نزعة معيارية شاملة في قراء ة النص الشعري، وتحول تدريجياً الى المقاربة الوصفية والتحليلية والقرائية.
لم يكن نقد الشعر وحده هو الذي تخلى عن المعيارية، بل إن معظم العلوم الاجتماعية والإنسانية واللسانية قد فعلت ذلك، ربما منذ ان كرّس فرديناند دوسوسور تقاليد المنهج الوصفي (Descriptive) أو ما أسماه بالمنهج السنكروني (Synchronic) في مقابل المنهج التاريخي (Diachronic) حيث انتقلت الدراسات اللسانية والإنسانية من المعيارية (Normative) التي تتطلب الالتزام بقواعد وشروط ومبادئ محددة، إلى الوصفية التي تميل إلى الوصف والتحليل والاستقراء، وتتجنب إصدار أحكام القيمة (Value Judgement ) أو أي حكم نقدي معياري مباشر، ولا تلزم نفسها بأيّ شروط أو قواعد مسبقة، مثل تلك التي وجدناها في النقد العربي الكلاسيكي ممثلةً في “عمود الشعر” الذي وضع قواعده وشروطه وآلياته عدد من النقاد العرب منهم الآمدي والمرزوقي والجرجاني وغيرهم.
إلّا أن الشعراء العرب لم يلتزموا دائماً بعمود الشعر هذا وشروطه الفنية والأخلاقية. وربما كان أبو تمام أبرز المتمردين على هذا العمود الذي راح يتفكك تدريجياً بمرور الزمن، بل إن حركة الإحياء الشعري العربية في مطلع القرن العشرين ذاتها، التي كان رائدها إحياء التقاليد الشعرية الكلاسيكية لم تلتزم به كليا، كما أن معظم شعراء العمود الشعري في القرن العشرين أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والزهاوي والرصافي والجواهري والبردوني وبدوي الجبل والشابي وعمر أبوريشة وعلي محمود طه المهندس لم يتقيدوا بقواعده وثوابته بشكل كامل، مما فتح الباب أمام حركات التجديد والحداثة في الشعرية العربية ممثلةً بقصيدة الشعر الحر وقصيدة النثر.
وكلنا نتذكر صرخة نازك الملائكة ضد عمود الشعر العربي في المقدمة التي كتبتها لديوانها “شظايا ورماد” الصادر عام 1949 والتي ترقى إلى مستوى البيان الشعري أو “المانيفستو” للحداثة الخمسينية.
وقد دعت الملائكة صراحة إلى التخلي عن أيّ نزعة معيارية وحرضت على نبذ القوالب الجامدة والاسترشاد بمقولة برناردشو “اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية“، ورفضت هيمنة الذائقة التقليدية “فنحن عموما ما زلنا أسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام. ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة” (ديوان نازك الملائكة – المجلد الثاني، منشورات دار العودة، بيروت، ط 1،1971، ص ص 5 – 6).
وجاءت قصيدة النثر في الستينات، وما بعدها، لتصفي الحساب مع ما تبقى من حضور لعمود الشعر العربي، من خلال التخلي عن الالتزام بشروط الوزن والقافية، التي التزم بها جزئياً شعراء قصيدة الشعر الحر.
وقد سبق لحركة الشعر الحر (Free Verse) وحركة قصيدة النثر (Prose Poem) في الشعر الإنجليزي والفرنسي أن تخلتا عن الكثير من العناصر المعيارية التي كانت تلتزم بها سابقاً ومنها التخلي عن وزن الأيامبي (Iambic) في الإنجليزية، والوزن الاسكندري (Alexandrine) في الفرنسية، وهي أوزان صارمة كانت تقيد الشعراء بالالتزام بها.
لقد تحول نقد الشعر إلى الوصفية والتحليلية وربما القرائية، وبشكل خاص في انعطافته على المناهج والمقاربات الداخلية (Intrinsic) أو النصية (Textual) بتعبير رينيه ويليك وأوستن واوين في “نظرية الادب”، وهذ المنهج أسقط كل معيارية في نقد الشعر وانهمك أساساً باستجلاء واستقراء البنيات والأنساق الداخلية للنص ذاته، ومستويات تشكله اللسانية والدلالية والسيميائية بحثاً عن أدبيته (Literariness) أو شعريته (Poetics) بمفهوم رومان جاكوبسن. كما أن الكثير من المناهج والمقاربات السياقية، أخذت هي الأخرى تعتمد الوصف والتحليل والاستقراء مجسات لفحص ودراسة الظاهرة الأدبية أو الثقافية، وإن كانت تركز في الأساس على مساجلة العناصر السياقية الخارجية، مثل المؤلف والتاريخ والقارئ والمحيط الاجتماعي والثقافي، والموقف الأيديولوجي، وعلاقة كل ذلك بتأثير” السلطة” بمفهوم ميشيل فوكو وألتوسير أو بمفهوم” العنف الرمزي” عند بيير بورديو.
لقد تحول نقد الشعر في الكثير من الأحيان الي آلية للقراءة، وهي في الغالب قراءة استنطاقية مفتوحة تأخذ بنظر الاعتبار ردود أفعال القارئ واستجابته للنص. والقراءة هنا ليست عملية سلبية بسيطة وعابرة، خاصةً بعد أن تحول النص الشعري إلى نص “كتابي”، ولم يعد نصاً “قرائياً”. إذْ تتطلب هذه القراءة، قارئاً من نوع خاص يمتلك المقدرة على فك أسرار الشفرة التأويلية للنص الشعري، بالاحتكام الى سياقها اللساني والثقافي والاجتماعي.
لذا، فإن عملية القراءة الشعرية هنا ليست مجرد عملية تذوق (Tasting) جمالية أو معرفية، بل أصبحت عملية “استيلاد” للمعنى وللشفرات الثاوية داخل النص، تتطلب معرفة عميقة، بطبيعة التجربة الشعرية وإطارها وسياقها، فضلاً عن شفراتها. فالقراءة تنطوي على عملية مزدوجة: تلقي العلامة الأيقونية واللغوية والإشارية، وإعادة فك وتأويل هذه المستويات من خلال “موشور” القراءة الداخلي لدى القارئ، الذي يعيد “فلترة” أو تنقية كل ذلك وإكسابه خصوصيةً ومسحةً ذاتية من خلال تجربته الخاصة.
ومن هنا تفترض عملية القراءة حرية التأويل المتعدد، ما دامت ليست هناك قراءة واحدة نهائية، كما كانت تذهب الى ذلك مدرسة “التأويل الآبائي” في قراءتها لنصوص الكتب المقدسة، بل هناك تعدد لا نهائي للقراءات والتأويلات، وهذا التعدد يتضاعف عندما نكون أمام “نص مفتوح” بتعبير أمبرتو ايكو يستلزم بالضرورة سلسلة لا تنتهي من التأويلات التي لا تهدف إلى الوصول إلى الحقيقة أو المعنى بقدر ما تهدف الى تحقيق لذة جمالية، هي لذة قراءة النص التي بشّر بها رولان بارت.
لقد تحول نقد الشعر في بعض الأحيان إلى “خلطة” سرية ينتجها الناقد، الذي أصبح أشبه ما يكون بالخيميائي، في مختبره النقدي. وهذه الخلطة النقدية تتشكل من مجموعة مكونات ومقاربات متنوعة، عبر نسب خاصة بكل ناقد. فهذه “الخلطة” قد تنطوي على جذر انطباعي أو ذوقي، موغل في ذاتيته وخصوصيته، من خلال نزوع النقد الأدبي الى مضارعة النص الإبداعي وتحوله إلى لغة ثانية، أو لغة على لغة أو خطاب على خطاب، بتعبير رولان بارت لتحقيق لذة النص المقروء أو المكتوب.
لكن هذه الجذوة الانطباعية لن تكون هي المهيمنة. إذْ ستطل الكثير من المقاربات الوصفية الأخرى التي تفرض على الناقد أن يتفرغ لعملية تفكيك وتشريح وتحليل البنيات والأنساق والتمفصلات الداخلية للنص الشعري وتعالقه بالسياق الاجتماعي والتاريخي وأحيانا بشخصية المؤلف، بوصفه منتجاً للنص، يرفض الركون الي الغيبوبة أو الموت. وقد يجد الناقد نفسه في موضع شبيه بموضع الفيلسوف الألماني هيدجر وهو يتفحص شعر الشاعر الألماني هيلدرلين بلغة تزاوج بين النزعة الفلسفية والتأملية من جهة، والنزعة الجمالية او الشعرية من جهة أخرى، وهو يستنطق هذه النصوص من زوايا نظر جديدة. وقد يجد الناقد نفسه مدعوّاً إلى الجلوس في منصة كلود ليفي شتراوس، وهو يلاحق إنثيال العلامات والرموز الميثولوجية في البنية العميقة للنص الشعري، وقد يرحل الناقد إلى موقع النقد الأسطوري بحثا عن “الميثيمات” أو الوحدات الميثولوجية الصغرى، الثاوية داخل هذا النص الشعري أو ذاك.
ولذا فالنقد الشعري يرفض الانصياع إلى “المساطر” المعيارية قديمها وحديثها، وراح يشق طريقه داخل أدغال النص الشعري بمجسات شخصية شكّلها، عبر تجربته الطويلة، ومعاينته الناقدة لمختلف المقاربات والمناهج النقدية والثقافية، الداخلية منها والخارجية على حد سواء.
مثل هذا النقد يظل يراوح بين المنهج واللامنهج، بين الوعي واللاوعي، بين المعلن والمسكوت عنه، بين البنية السطحية والبنية العميقة للنص الشعري، وأحيانا بين المعيار واللامعيار. فهو في كل ذلك سيد الموقف، وهو الذي يتحكم في قراءته ولغته وخطابه، ولم يعد مسيّراً بمعايير نقدية صارمة، عليه الالتزام بها، فهو قد يتلاعب بالدائرة الهيرمينوطيقية أو التأويلية التي بلورها ولهلم ديلثي، فيتحرك بين المركز والمحيط، وربما يبتكر محطاته وبؤره فيها، استجابةً لنداء النص ذاته ومحركاته وحمولاته وسياقاته المتنوعة.
وناقد الشعر الحداثي، وربما ما بعد الحداثي، لا يمكنه تجاهل اشتراطات أدبية النص أو شعريته التي يتعين عليه التعامل معها وتحيينها (Actualization)، كما لا يمكن له أن يتجاهل الأنساق المغيبة داخل النص الشعري التي سلط النقد الثقافي الضوء عليها، وهي ليست بالنسبة إليه، معيارية، بل وصفية وتحليلية واستنباطية. ومن خلال هذا الاستغوار يمكن للناقد أن يصل إلى الضفاف غير المرئية للنص الشعري، وإلى طبقات النص المنضدة بسرية ومهارة، مروراً بالتمفصلات البصرية والمقطعية لحركة القصيدة، ولوحاتها ومراياها ووحداتها الداخلية السائلة، لاستكناه البؤر الدلالية والسيميائية المشعة التي تحرك بنية المشهد الشعري بكامله، من خلال الإمساك بآليات توليد الصور والأشياء والمرئيات البصرية والاستعارات والكنايات والمرموزات والرموز على مختلف أنواعها. والناقد لا يقف عادة عند الجملة الشعرية الصغرى فقط، مهما كانت أهميتها بل يتحرك عموديا وافقيا داخل اللوحة الشعرية مقتنصاً اللآلئ المخبأة هنا وهناك، وراء المظهر الخادع للبنية اللسانية وتجلياتها الخطابية وإيقاعاتها الداخلية. وقد ينطلق النقد من موقف “النقد المزدوج” الذي اقترحه النقد الثقافي، والذي سبق وأن دافع عنه الناقد د. عبد الله الغذامي. ويذهب هذا المنظور إلى أن النتاج الإبداعي هو ثمرة تأليف مزدوج من قبل المؤلف التقليدي، الذي هو كائن بشري حقيقي، ومؤلف آخر غير مرئي هو الثقافة، وهو كما يرى الغذامي مؤلف نسقي، بوصفه ناتجاً ثقافياً مصطبغاً بصبغة الثقافة أولاً، وهذا المنظور، في تقديري، ليس بعيداً عن مفهوم “الهابيتوس” (Habitus) أو الحاضنة الثقافية والاجتماعية التي تتحكم بالنتاج الثقافي والأدبي لأي مبدع عند الفيلسوف بيير بورديو.
ومن هنا نرى أن النقد الشعري مشتبك بالنص الشعري، في محاولة لفك أبوابه المغلقة والتسلل إلى غرفه السرية ومتاهاته غير المعدودة. لكن هذا النقد لا يقتحم عزلة الشاعر عنوةً، بل برقة وشفافية ومحبة، ذلك أن الناقد يدرك أن الشاعر هو قناص اللحظة الهاربة، والعصية على الإمساك، وهو الذي يحرث في دهاليز الروح والكون والذاكرة، بحثاً وعن لقطة ضائعة جمدها الزمن وأودعها في خزانته السرية، ليصدم بها عند استحضارها، بصيرة الآخر، قارئاً او متلقيا، ويفجر بها كهنوت اللغة المتحجرة. والشاعر بعد كل هذا وذاك هو ساحر الكلمات والعلامات والرموز، وعرّاب الأخيلة المجنحة التي يقودها مثل قطيع بري في فلوات الأزمنة المتراكضة في حقول النرجس والعوسج والعاصفة، ليصنع باللغة مدناً فاضلة لا تطالها عواصف الخراب، وأن ناقد الشعر، هو صنو الشاعر وشقيقه الروحي، كلاهما، يصنعان من خلال العلامة واللغة لذة الجمال والوعي والإدراك.
ناقد من العراق