نقد كاشف للتسلط الذكوري
على مدار سنوات كان المطلوب من المرأة أن تصمت، فالرجل ملك القوة في التاريخ والأدب، وقد أثار احتمال ظهور ناقدات على الساحة الثقافية قدراً من القلق لديه، بل تراه قد توجّس خيفة من امرأة تتولى سلطة في جمهورية النقد العظمى، تتشجع من بعدها فتمارس ملكاتها النقدية على الأدباء الرجال، ومن ثم تفرض سطوتها في العالم الكبير خارج نطاق الكتابة، لذلك فإن الحديث عن الفكر النسوي لا بد من معالجته ضمن سياق عربي طويل عاشت فيه المرأة فترة من الإقصاء والتهميش، وكثيرا ما اختزل دور المرأة في دائرة أنماط معينة،عمدت إلى تأطير حركة المرأة تجاه الفكر والنقد، بل ونلمس حرصا على عزلها عن محيطها الاجتماعي وعن الاحتكاك المباشر في الحياة، مما أفقدها قدرتها وفعاليتها في اكتساب الوعي اللازم. وحتى وإن دخلت المرأة عالم النقد فإنك تجد من يتحدث عنها باعتبارها جسدا جميلا وليست عقلا جادا، كما فعل العقاد حين استخف بأدب مي زيادة جاعلا منه صالونا أنيقا وليس قلما كاتبا.
في حديثنا عن حاجة المرأة إلى مناخ صحي يحتضن مجمل الحالة الإبداعية للمرأة، أستحضر ما افترضته فيرجينيا وولف عن أخت عبقرية متخيلة لشكسبير، يقابل طموحها بالسخرية وينتهي بها الحال صديقة لرجل يصيبها بخيبة توصلها إلى اتخاذ القرار بالانتحار. لذلك فإن القول بأن الرجل مفكرا وناقدا يفضل المرأة يدخل في منطلقات جنسوية تحتفي بالرجل لأنه رجل. لذلك أعود وأؤكد على وقوع المرأة في الماضي تحت أعباء رقابة صارمة جعلتها في فكرها منضوية تحت حماية الرجل في إطار نظام من العادات والمفاهيم الاجتماعية الصارمة التي أدخلتها في حالة من الركود على صعيد أكثر من مسار ثقافي بما في ذلك الفكر والنقد.
واحدة من الأساليب المتبعة في خلق مناخات طاردة للمرأة الارتكاز على البعد البيولوجي الذي ينفيها كائنا قادرا على النتاج الفكري والنقدي، مع إغفال منظومة اجتماعية حرصت عبر سنوات على تأطير نتاج المرأة بكل السبل الممكنة. من هذه السبل، نذكر ما يشيع من قول بأن المرأة لها تكوين عاطفي خاص يصعب عليها الخوض في الأمور العقلانية كما يفعل الرجل، وهو خطأ شنيع ومرفوض يستغل الفروق البيولوجية ويحولها إلى فروق عقلية وفكرية ونفسية في الوقت ذاته، ويسوغ غياب المرأة عن الفكر والنقد اللذين يحتاجان عقلا، بينما ينسب إليها كتابة أدبية تنهل من العاطفة، وهو ما يشبه إلى حد بعيد أحكاما تقر بكل بساطة بأن النساء أقرب إلى الحساسية الوجدانية منهن إلى الحساسية النقدية، فهن يقرأن ويسمعن بروح نقدية أقل من الرجال، دون أن تكون لديهن اليقظة اللازمة لاكتشاف الأخطاء. وهو ما يدخل في إطار انطباعات مكرورة لا ركيزة علمية لها البتة.
صحيح أن النتاج الروائي للمرأة أكثر غزارة من النقدي، ولكني أحيل هذا إلى ساحة ثقافية مكتظة بعدد كبير من روايات يكتبها الرجال كما النساء يفوق كتب الفكر والنقد بكثير، وإن كان هناك ميل باتجاه القول بتأثير تركته الرواية التي تكتبها المرأة يفوق ما كتبته في عالم النقد، فهي حالة عامة أيضا تنطبق على الجنسين، أضيف إلى ما سبق في تفسير أثر النقد على المتلقي العربي بوجود حالة نقدية عربية عامة تستند إلى نقد غربي يطبق ما هو غربي على المرأة العربية، وهنا يحق لي السؤال فيما إذا كانت النظرية النقدية الغربية قادرة على تمثل خصوصية المرأة في المجتمعات العربية؟ وجوابي أختزله بظني أن تبعية الناقدة لنظريات قادمة من الغرب لها محاذيرها التي تستدعي ضرورة صياغة النظريات القادرة على تمثل الوضعية العربية بما يتلاءم ومتطلبات مجتمعاتنا والتحديات التي تواجه المرأة العربية.
إن قسما من النتاج النقدي والفكري للمرأة العربية متمحور حول الوقوف على حالات الهيمنة الذكورية، بمعنى أنه نقد معني بالكشف عن علاقات التسلط والهيمنة ومواجهة أنماط سلوك ذكورية يمارسها مجتمع حريص على تثبيتها، وإعادة إنتاجها لصالح الرجل. من هنا يشيع في النقد الذي تكتبه المرأة تفكيك كل ما من شأنه إعادة إنتاج أنساق ثقافية تعمل لصالح جنس معين، على حساب الآخر. وهو ما يقتضي أسئلة من مثل: إلى أيّ حد يقع النص قيد الدراسة في مطب تنميط المرأة؟ وهل كانت صورة المرأة قريبة من واقعها؟ كما تحتفي المرأة الناقدة بنصوص سردية تحضر فيها النساء نماذج مغايرة للنمطي المتداول حول نساء بقين مرهونات في ثنائيات من مثل “القديسة قبالة الغانية”. وكثيرا ما تستنكر الناقدة المرأة نصوصا عمادها تنميط يحط من شأن المرأة، أمام تصعيد فاعل وإيجابي للرجل.
إن المتابع لنتاج المرأة النقدي لن يفوته نمط يحمل خصوصية تستدعي أساسا أيديولوجيا يطالب بتمثيل عالم المرأة على الصعيد البيولوجي والثقافي والنفسي، كما ينتصر لكتابة عارفة ومنخرطة بكيان الذات الأنثوية، علما أن كتابة نقدية على هذه الشاكلة التي ذكرت لا تعني البتة أن المرأة مهمومة بالخاص وحسب، فهناك علاقة متبادلة بين المجالين العام والخاص، وأقصد بذلك التأثير المتبادل بين ما هو داخل المنزل وخارجه. لذلك كان التركيز في الغرب على شعار “The Personal Is the Political” فالالتفات إلى السيطرة الذكورية له تجلياته في الحياة العامة، من هنا تستغل الناقدة ما هو خاص ليكون معبرا لأبعاد إنسانية سياسية واجتماعية ثرية.
جدير بالذكر أن هناك أكثر من ناقدة عربية لعبت بفكرها ونقدها دورا وطنياً وسياسياً، وكانت في الوقت ذاته وجهاً مشرقاً من وجوه إنجاز المرأة العربية، أذكر منهن يمنى العيد ولطيفة الزيات ونبيلة إبراهيم ورضوى عاشور وفاطمة المرنيسي، وكل منهن راهنت على كتابة تعترف بدور ضروري يمكن للفكر والنقد أن يلعباه في إحداث التغيير على المستويين الوطني والفردي، وإن كنت أميل في نهاية الأمر للقول بأن الناقد والمفكر رجلا كان أو امرأة يحلم بمجتمع قوامه الحرية والعدل والمساواة، وبالتالي فإن سؤال التغيير في إطار واقع ظالم غير مرتبط بجنس معين، فعموم الفكر والنقد يحملان بالضرورة رسائل رفض واحتجاج وإعادة بناء.