نهاية الإنسان الكلاسيكي
لقد أصبحت مهيكلة ممنهجة مبرمجة مخبريا تلك الفكرة التي كانت تخمينا وإيمانا في ذهن ذلك الأستاذ الشاب الذي كنته. ولئن بات موضوع “الإنسان الجديد المعدّل” متداولا بطريقة أو بأخرى في كل أنحاء العالم المعاصر فإن فكرة العبور إلى إنسانية أخرى أو “الترونزومانيزم” لا تزال شبه غائبة أكاديميا عن مجال العلوم الدقيقة والإنسانية والفلسفية في كل بلدان المنطقة العربية مشرقا ومغربا، بل ويذهب بعض المثقفين في المنطقة العربية إلى اعتبار الأمر مجرد مزحة رغم التطور الكبير الذي يعرفه العلاج الجيني، التكنولوجيات الدقيقة، النانو تكنولوجيا المُرممّة، تهجين الإنسان والآلة.. فهل يحق للنقاد مهما كانوا بعد كل هذا المسار الاكتفاء بوصف هذا التيار بالتيار الطوباوي أم عليهم التهيؤ من الآن لكيفية التصدي لتلك المباراة القادمة حتما بين الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي؟
وإن كان صحيحا أن هذا “المبحث الجديد” يجمع بين مدارس متعددة وأفكار متنوعة إلى حد التناقض وشخصيات متباينة الرؤى وإن بات يتجاور تحت مظلته النظر العقلاني الجديّ والخيال المجنّح في آن واحد، فمن الخطأ تجاهله وعدم الاكتراث بما يهدف إليه.
فماذا يقترح هذا الاتجاه البحثي الجديد وما هي الأسئلة التي يطرحها العبر-إنسانيون على الفكر الفلسفي والسياسي والأخلاقي في بداية هذا القرن؟ وما هي أهم أفكارهم ومشاريعهم الحالية الهادفة إلى خلق نوع إنساني جديد؟
العَبر-إنسانوية حركة تقنية علمية عالمية -أيديولوجية في نظر البعض وطوباوية في نظر آخرين- تبتغي تحسين الوضع الإنساني جذريا عن طريق تطوير قدرات الإنسان البدنية والذهنية وتحسينها إلى ما لانهاية عن طريق العلم والتكنولوجيا.
ويعتبر عالم الكومبيوتر راي كورزويل، مؤسس جامعة “التفرد” الممولة من طرف شركة غوغل، من رواد هذا الاتجاه الراديكاليين، حيث يقول “من هنا إلى سنة 2029 سيتجاوز الذكاء الاصطناعي ذكاء الإنسان وستصبح أجسادنا أقل بيولوجية شيئا فشيئا. وحينها ستغدو مكوّناتنا البيولوجية بدون أهمية كبرى وقد يمكننا صب عقولنا في جهاز كومبيوتر”.
يتعاظم تطور التكنولوجيا يوما بعد يوم بشكل لم يسبق له نظير ويرى الكثير من العلماء أن يكون تقدم العلوم والتكنولوجيات في العشرين سنة الأولى من القرن الحادي والعشرين أهم بكثير مما كان عليه في القرن العشرين برمته ولا يتردد الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في وصف ما يجري بالثورة التكنولوجية الثالثة في كتابه “الثورة العبر-إنسانية”.
ففي غضون عشريّتين أو ثلاث مثلا يتنبأ العلماء أن يصلوا إلى تصميم نموذج كامل لدماغ الإنسان وسيكون جسمه رماميا أكثر مما هو بيولوجيا. وفي نفس الوقت سيصغر حجم الكومبيوتر أكثر فأكثر حتى يصل إلى مستوى مجهري. وأمام هذا التحول التكنولوجي العميق يعمل العبر-إنسانيون على ظهور كائن إنساني جديد نصفه ميكانيكي ونصفه الآخر بيولوجي يتمتع بدماغ-كومبيوتر يكون مجهزا بذاكرة واسعة جدا تضاعف سرعة التفكير بحوالي خمسة أو ستة آلاف مرة.
إن الزيادة في قدرات الإنسان البدنية والمعرفية والإطالة المعتبرة لمتوسط عمره وغيرها من الإضافات والتحسينات القادمة ستكون نتيجة لاستغلال ذلك التقارب الجديد غير المسبوق بين التكنولوجيات الجديدة: تكنولوجيا النانو، التكنولوجيا البيولوجية، علم الحاسوب والعلوم المعرفية. ولم نعد نتحدث فقط عن مستنسخات، روبوتات، سايبورغات وأعضاء بشرية اصطناعية بل أصبحنا نشاهدها بأم أعيننا.
أصبح علم الخيال الذي كان يبهر الصغار والكبار على شاشات السينما في ما مضى ماثلا كواقع أمامنا اليوم. وسنشهد في السنوات القريبة القادمة ظهور آلات ذكية يمكنها أن تحسّ وتتعرف على الوجوه، وستكون في المتناول عضلات اصطناعية قريبة الشبه من النسيج العضلي البشري وروبوتات (إنسان آلي) تربت مثل الأطفال وكومبيوترات يمكن التعامل معها دون لمسها إذ سيصبح بالإمكان التحكم فيها عن طريق الأمواج الدماغية فقط.
وقد بات الحديث يدور في السنوات الأخيرة عن “ما فوق الإنسان” وهو إشارة إلى ذلك الزمن غير البعيد الذي ستتشابك فيه البيولوجيا والتكنولوجيا بشكل متين لتنتجا معا نوعا “إنسانيا” جديدا يتمتع بمؤهلات محسّنة ومضاف عليها، وبات بعض العلماء والفلاسفة يطلق مصطلح “التفرد” على هذا “الإنسان الأعلى ودماغه العظيم.
ولا يمكن إيقاف هذا التحوّل النوعي الذي جاء نتيجة لتطور التكنولوجيات الحيوية وعلوم الأعصاب وغيرها مما ذكرنا سابقا والذي سيغير وبسرعة مفاجئة ما كان عليه الإنسان: جسمه، عقله، لغته، علاقته بالعالم وإرثه الطبيعي.
فبفضل عبقريته سيتولّى إنتاج نفسه بنفسه ولن يكون في حاجة لتحمله امرأة. وسوف لن يُعرف المرض إذا ما صدقنا تنبؤات علماء “السيليكون فالي” لأن الروبوتات الدقيقة جدا التي ستتجول في عضويته مستقبلا ستعيد بشكل دائم إصلاح ما عطب فيه. وقد لا يموت إلا إذا تم إراديا محو مضمون وعيه المعبأ في بطاقة ذاكرة!
ربما قد حان الأوان لتوديع ذلك الكائن البشري الذي كان يجب عليه أن يمارس الجنس ليكون له أولاد، والذي كان عليه أن يتمرن ويتعلم ليعرف، والذي كان يعاني ويموت ويتعلم كيف يبقى على قيد الحياة، ربما حان وقت اضمحلال ذلك الكائن الذي كان مفروضا عليه أن ينضبط ويهذّب جسده وينصت إلى روحه!
ألم يــتمنَ الفلاسفة العقلانيون وغير العقلانيين دوما انتصار العقل على الطبيعة وها هم العبر-إنسانيون يعلنون مجيء “ما بعد الإنسان” وهو التحقيق الملموس لما كان يأمله هؤلاء الفلاسفة! ألا تعني الحرية الإنسانية التحرر من قبضة الطبيعة؟ ألا تحقق التقنية الدقيقة الجديدة ذلك للإنسان بالفعل؟
سيجيب بالإيجاب المفتونون بالآلات والتكنولوجيا الذين لا يكتفون بكونهم بشرا فقط ويعتبرون كل ما يأتي من تطور هو في صالح الإنسان، وسيجيب بالسلب من يرفضون التقدم التقني باسم المثل الإنسانية ويرون ما يبشر به العبر-إنسانيون تشويها لجسم الإنسان وكرامته. وربما من أكثر الرافضين هو صاحب فكرة نهاية التاريخ والإنسان الأخير المفكر الأميركي الشهير فرانسيس فوكوياما الذي يرى مبالغا كعادته في العَبر-إنسانية “أخطر فكرة على وجه الأرض”.
وبغض النظر عن التحفظات التي يبديها بعض المفكرين إزاء هذا التيار الفكري المتصاعد، فالشيء الأكيد أنه يفصح عن بداية تغير جذري في تعريف الإنسان إذ بدأ يعاد النظر بجدية في الحدود التي قد تفصل مستقبلا بين الإنسان والحيوان، الإنسان والآلة، الجسد والعقل.
ولكن كيف سيعيش الإنسان الحالي -ولنطلق عليه نعت “الإنسان الكلاسيكي”- في عالم مثل هذا؟ وما هي الأخلاقية التي يمكنه بموجبها أن يعيش في انسجام مع إنسانية موسعة قادرة على إدراج الحيوانات والروبوتات والسايبورغات في رحابها؟ وهل سيكون لها من الحقوق ما يتمتع به البشر؟
تلك إشكاليات فلسفية جديدة بدأ يفرضها ما بعد-الإنسانيون وبات لزاما على النخب السياسية والفكرية التفكير فيها من اليوم استعدادا للتعامل والحوار مع هذا “الآخر الجديد” الذي كان بالأمس بربريا أو حيوانا والذي سيكون في مستقبل قريب آلة ذكية وإنسانا آليا وهجينا يجمع بين إنسان من دم ولحم وآلات تكنولوجية.