نوال السّعداويّ والنسويّة العموميّة

السبت 2021/05/01
غرافيكس "الجديد"

إن أهمية اتصاف النسوية بالعمومية يعني أن تكون تطلعاتها وبرامجها أوسع من التموضع في حركة أو تيار، وأعمق من أن تختص بالمساواة. وبهذا النظر الكلياني لا تتقوقع النسوية في نظرية أو موجة أو مرحلة أو محطة توصف بأنها أدبية أو سياسية أو ما بعدية كما لن تنحصر في الأيديولوجيا أو الجمال أو الأخلاق أو الفلسفة، وبهذا يكون مرأى النسوية عموميا ككيان ومكوّن وتكوين وكينونة موصوفة فيها جميعا بأنها نظام مؤنث وأنثوي.

القسم الأول

ومن دون العمومية تظل النسوية موسومة بالتخصصية نظريا وعمليا، منفصلة عن نسويات سبقتها، منتقدة ما قبلها أو متطلعة إلى أن تسود على غيرها، وهو مما يصب في صالح عمومية الذكورية.

وأهم ما في النسوية العمومية أنها تضامنية وليست تقاطعية أحادية، وهي ذات نماذج منفتحة ومتواصلة، وليست متعالية أو منعزلة. وهي عقلانية تختص بجسد مؤنث الهوية واللغة من جهة ومتجذر بالشمول ككيان عام يحوي كيانات خاصة من جهة أخرى.

إنها نسوية الكليّة الأنثويّة ونسويّة الواحدة المؤنثة، وما القول بالاجتماع والأحادية مجرد تهويم وفنطزة؛ بل فرضية منطقية بها تتعدى النسوية منطقة نقد الذات ورفض الآخر فلا تتقاطع كينونة امرأة مع مجموع نسوي يماثلها عبر استراتيجية تنظم عمل مكونات هذا المجموع بلا صهر لفردية المرأة فيه أو إذابة لواحديتها التي تظل مستقلة وإن مثلتها نسوية الكل.

وإذا أردنا أن نستشهد بواحد من نماذج النسوية العمومية فلن نجد مثل نوال السعداوي أنموذجا فريدا، التقت عنده النسوية العمومية كنظام مستقل وهوية فردية.

ونوال السعداوي بفكرها الذي عبرت عنه كتبها ومقالاتها وبمواقفها التي شهدتها ميادين التحدي ومواقع الكفاح صاحبة منهج نسوي داومت على السير فيه مدة طويلة من الزمن جاوزت السبعة عقود من عمرها الذي كرسته بالمجمل لقضيتها المركزية قضية تحرير المرأة العربية التي هي معركة حياتية وقضية مصيرية بالنسبة إلى كل امرأة عربية ترى في نفسها خصوصية أنثوية وترى في غيرها من النساء كلية عمومية تماثلها وتدافع عنها وتتشارك معها وتناضل من أجلها قولا وفعلا.

ولا يعني تمثلنا بنوال السعداوي أننا نقصر العمومية على النسوية العربية وحدها؛ لأن العمومية هي طبيعة، وليست تطبعاً تحدده مقتضيات الزمان ومهيئات المكان ومستلزمات التعبير والتوصيل.

ولأجل التعمق في دلائل نسوية السعداوي العمومية سنقف عند بعض الرؤى والتفسيرات التي حملتها كتبها، مؤشرين على مزاياها ، ومتأملين مواقفها الثقافية، وكالاتي:

العمومية الأخلاقية

لا فرق في الرؤية الشاملة للكيان الكلي للإنسان بين أن يكون رجلا أو يكون امرأة، فلقد أثبتت الدراسات العلمية أن الفروق بين الرجل والمرأة هي فروق مكتسبة بفعل المجتمع وهي التي تجعل أحدهما يختلف عن الآخر. ذلك أن الشخصية الإنسانية تظل واحدة لكنها تتأثر بأربع قدرات تجسدها وهي: 1) الإرادة 2) الاقتناع 3) الذهن الخلاق 4)جسم القدر أي البيئة الفيزياوية والعقلية (ينظر: قلعة إكسل، إدمون ولسون، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 3، 1982، ص47 . بحسب نظرية الشاعر ييتس للشخصية الإنسانية).

وهذا الإيمان بالكلية الإنسانية جعل لنوال السعداوي رؤى أخلاقية تعمم على المرأة والرجل، ومنها رؤيتها للحرية بوصفها حقا من حقوق الإنسان، وهي عامة وليست منحة يعطيها الرجل للمرأة. فالمرأة تكتسب حريتها بمثل ما يكتسب الرجل حريته، ومن حقها أن يكون لها دور في مجالات الحياة المختلفة العلمية منها والسياسة كما أن من حقها أن تكون قوانين العمل وقوانين الزواج والطلاق والنسب مناسبة لها. وما فقدان المرأة لحريتها إلا بسبب النظام الأبوي الذي يعزل النساء عن الحياة العامة مفرقا بين الرجل والمرأة في القوانين.

وبهذا يكون قهر النساء في العالم واحداً، وإن تعددت أشكاله أو تنوعت أسبابه التي لا تراها نوال السعداوي نابعة من الدين الإسلامي أو المسيحي أو غيرهما؛ بل هي نابعة من مجتمعات العبودية في الشرق والغرب على حد سواء (عن المرأة والدين والأخلاق، نوال السعداوي، ص 55). ولا تختلف مسيرة النساء العربيات نحو التحرر عن مسيرتها في بلاد أخرى خاضعة لنظام دولي يقوم على التفرقة الجنسية والعنصرية (المصدر السابق، ص80).

وبسبب هذه العمومية في النظر الأخلاقي للكلية الإنسانية أطلقت نوال السعداوي على جمعيتها التي أسستها في ثمانينات القرن الماضي اسم “تضامن المرأة”.

وإذ لم تقصر السعداوي الحركة النسوية العربية على النساء وحدهن، فكانت نسبة الرجال المنتمين إلى جمعيتها 25 في المئة؛ فإنها في الوقت نفسه أخذت على الرجال بالعموم رغبتهم في أن يكونوا المتحدثين باسم المرأة، غير قابلين التنازل عن مكانتهم؛ بل إن تجاهل كتابات النساء التنويرية والتحررية هي ظاهرة مستمرة تفسرها نوال السعداوي ـ التي هي نفسها تجاهلت ما ألفته رائدات النهضة النسوية من كتب حول تحرر المرأة وحجابها وتعليمها وعملها ـ بأنها محاولة لوأد الكاتبة وهي على قيد الحياة، مؤكدة في هذا الصدد على مسألتين مهمتين:

الأولى: أن تحرير النساء لن يتحقق أساسا إلا بجهود النساء أنفسهن، وتساعدهن في ذلك الثورة التكنولوجية وشبكات الإنترنيت التي يسّرت التواصل بين الناس.

 الثانية: أن مستقبل المرأة العربية في يد النساء العربيات وإن ساعدهن بعض الرجال فإن وجود النساء ضروري كقوى سياسية واجتماعية (المصدر السابق، ص ص 75 ـ 76).

وتظل النزعة في الهيمنة مع غياب الديمقراطية أو الحرية السياسية أهم عقبة أمام النسوية العربية. أما التمثيل النسوي النيابي في البرلمانات والمجالس النيابية فلا تعترف به نوال السعداوي لمحدودية فاعلية النساء فيه، ونضيف أيضا أن هذه المؤسسات في بعض البلدان العربية لا علاقة لها بقضية تحرير المرأة.

----

وإذ تحض نوال السعداوي النساء العربيات على أهمية أن تتجاوز قضية المرأة العربية حدود الأحوال الشخصية والشؤون الاجتماعية لتشمل شؤون السياسة والاقتصاد والقانون مع الإفادة من متاحات القرن الحادي والعشرين الرقمية التي تزيد من التواصل بين النسويات؛ فإن هذا التوجه يأتي متعارضا مع ما أخذته على النظام العالمي الجديد من مآخذ وأنه جعل في العولمة والاندماج مزيدا من الاستغلال والاستعباد، حتى أن” كلمات عولمة وكونية وإنسانية عالمية من الكلمات الغامضة الساحرة لكثير من المثقفين في الغرب والشرق على حد سواء إلا أن نتائجها على الفقراء والنساء من شعوب العالم ليست إلا مزيدا من الفقر والأزمات الاجتماعية والاقتصادية” (المصدر السابق، ص40).

ولا ينفي هذا التوجس من العولمة ما لنوال السعداوي من رؤية كلية للحركات النسوية العالمية، فلم تفصل بينها وبين الحركة النسوية العربية كونها جميعا تناضل كي تعيد نصف المجتمع من النساء إلى الحياة العامة السياسية والفكرية والدين والأخلاق. وهي في نضالها الفكري هذا كانت وما زالت تتلقى الضربات من الداخل والخارج من أجل إجهاضها بالرقابة على النشر وبتصاعد القوى الرأسمالية الدولية وموجات الردة في الفكر النسوي في الولايات المتحدة وأوروبا.

وتتجلى عمومية السعداوي أيضا في تأكيدها أهمية الاتحاد والتضامن كأساس يجعل الشعوب المقهورة ــ وبصرف النظر عن الحدود التي تضعها القلة الحاكمة في كل مكان ــ تكسر الحواجز المصنوعة بين البشر بسبب اللون والعرق والجنس والجنسية والعقيدة، مدركة أن هذه الفروق بين البشر مصيرها إلى الزوال وسوف تبقى القيم الإنسانية الكبيرة القائمة على العدالة والمساواة والحرية والوعي.

أما الحركة النسوية المعاصرة في بلادنا العربية فإنها بحسب السعداوي أكثر نضجا ووعيا وهي تتجمع وتتضامن في نضالها الشعبي الذي هو جزء لا يتجزأ من التضامن العالمي الشعبي (المصدر السابق، ص 67).

ومن إنجازات الحركة النسوية في العالم العربي ما رصدته السعداوي في هذا المجال من أمثلة فيها استطاعت المرأة في الكويت والجزائر والسودان والسعودية كسر بعض الحواجز، وما عرفته بعض البلدان من أشكال جديدة في الزواج وإقبال بعض النساء المستقلات اقتصاديا عليها، مع تزايد أعداد النساء أو الفتيات غير المتزوجات المستقلات ماليا في مصر ودول الخليج وما ينجم عن ذلك من تغيرات كبيرة على أساس “أن التغير الاجتماعي والاقتصادي يؤدي إلى التغير الأخلاقي” (المصدر السابق، ص 69)

وبالعمومية التي بها تميز فكر نوال السعداوي النسوي تمكنت أيضا من الوقوف على كثير من الظواهر السلبية في المجتمع المصري خاصة والعربي عامة وحذرت من خطرها. ومن تلك الظواهر “الازدواجية الأخلاقية” فماذا قصدت بها؟

الازدواجية الأخلاقية هي كل سلوك يتظاهر المرء فيه بالأخذ بكل ما هو صحيح ومنطقي قولا ولكن يعمل بضده فعليا، وبما يؤدي إلى تضاد المقاييس التي يفترض أنها واحدة تسري على جميع البشر دون تفرقة طبقية تكيل بمكالين وإلا انعدمت الأخلاق التي جوهرها عقل المرأة والرجل. ومن ثم يكون شيوع القيم الصالحة في سلوكهما دليلا على مسؤولية كل واحد عن سلوكه الخاص والعام دون تفرقة (المصدر السابق، ص 34).

ومما عرضته من أمثلة على الازدواج هو سفر المرأة بإذن زوجها وأباحت له ذلك على أساس سعيه للعمل والجهاد، متسائلة: ألم تحارب النساء مع الرجال ضد الكفار؟ ولماذا الفلاحة تعمل ولا يعتبر عملها سعيا للرزق؟ ولماذا لا تكون التقوى أساس التفضيل بين الرجال والنساء؟ (المصدر السابق، ص27).

ومما عرضته أيضا من ازدواج مسألة الفصل بين تحرير المرأة وتحرير الوطن، وكأنما النساء لسن نصف المجتمع، متسائلة “هل يمكن تحرير الأرض والاقتصاد والسياسة في بلادنا العربية دون تحرير النساء؟” (المصدر السابق، ص 45). وبالطبع لا يمكن ذلك لأن القضية النسوية ليست قضية خاصة بالنساء؛ بل هي قضية عامة باسم الوطن كله.

وبذلك الربط بين المرأة والوطن دللت نوال السعداوي بشكل غير مباشر على أهمية التضامن مع القضية النسوية، لا بوصف هذه القضية إنسانية أكثر منها وطنية؛ وإنما أيضا بوصفها قضية أخلاقية بها تنفي الذات ازدواجها وتؤكد صدقها مع الآخر.

وبإجمالي الأمثلة التي عرضتها السعداوي لهذه الازدواجية تكون المرأة هي الضحية دوما، وما رفض السعداوي اتخاذ شهرزاد مثلا أعلى لها في الحياة إلا بسبب هذه الرغبة في الصدق وعدم الازدواج، تقول “.. منذ طفولتي لم احترم وسائل المكر والحيلة”( المصدر السابق، ص24 )، ولم تتخذ شهرزاد نموذجا للنسوية لأنها لم تغير شيئا من سلطة زوجها المطلقة في الدولة. ولهذا السبب عدها الشهرياريون نموذجا للمرأة الصالحة. وافترضت الباحثة أن لو خرجت شهرزاد من البيت وكان لها دور في الحياة الاجتماعية والسياسية العامة لما صارت في نظرهم صالحة، ولحكموا عليها بالمرض النفسي كما حكموا على مي زيادة لأنها لم تلعب الدور الأمومي نفسه.

وتستوقفنا هنا نظرة السعداوي إلى مي زيادة وما شابها من بعض التناقض؛ فهي تارة لا ترى في مي نموذجا نسويا لأنها “فتحت صالونها الأدبي لعدد من الرجال يزيد على العشرين ولا أدري لماذا تفتح مي زيادة صالونها للنساء أيضا؟ ألم يكن في عصرها نساء أديبات أو على الأقل هاويات للأدب” (المصدر السابق، ص 25). وتارة أخرى ترى في مي زيادة نموذجا نسويا تنويريا، لأنها تجاهلت الدور الشهرزادي، بل تفوقت على شهرزاد في الشجاعة والإقدام فرفضت العبودية للأنوثة والأمومة حتى تركت وراءها ثروة أدبية أكثر أهمية من أن تلد ثلاثة من الذكور (المصدر السابق، ص 26).

فلماذا عدت نوال السعداوي شهرزاد ومي زيادة ذكوريتين في هيمنتهما على شهريار واحد أو أكثر من شهريار؟ وأيهما أفضل أخلاقيا للمرأة أن تكون ضحية أم أن تكون جلادا؟ ثم أليس في هذا التناقض الذي وقعت فيه السعداوي بعض الازدواجية كونها ناصرت الهيمنة النسوية نظريا ولكنها أنكرتها عمليا؟

لا نريد أن نقول إن وراء ازدواجية السعداوي رغبة خفية في جعل نفسها النموذج النسوي المعادي للذكورية؛ لكننا نقول إن تركيزها على البعد النفسي هو السبب في هذه الازدواجية، لذا وجهت جل اهتمامها نحو تحليل أزمة مي زيادة تحليلا نفسيا، مبينة أن الوحدة جعلت مي زيادة في محنة حتى أنها ـ حين عادت إلى مصر واستعادت دورها الأدبي ولم تلتق بهؤلاء الذين تخلوا عنها وقت المحنة ـ لم تستطع تجاوز محنتها فماتت وحيدة.

وتجدر الإشارة إلى أن موقف نوال السعداوي من مي زيادة يشابهه موقفها من نبوية موسى التي تجاهلت دورها النسوي وهي التي كانت مديرة مدرستها الثانوية وذكرت في مذكراتها أن الطالبات كن يلقبن نبوية بعبع أفندي، وقالت “لم أعرف شيئا عن نبوية موسى واحدة من رائدات تعليم البنات أيّ ريادة وأيّ تعليم. لم تكن رائدتي ولا مثلي الأعلى في حياتي. عضلات وجهها دائما متقلصة في تكشيرة آشد كآبة من تكشيرة جدي. لم أرها مرة واحدة تبتسم، لم ،سمعها مرة واحدة تقول صباح الخير. تقلد الناظرات الإنجليزيات والناظرات الألمانيات في عصر هتلر” (أوراقي حياتي، نوال السعداوي، الجزء الأول، ص119).

وتتضح عمومية نوال السعداوي النسوية أكثر حين تتجاوز نطاق المجتمع والدراسة الاجتماعية وتدخل في مناطق أخرى محاذية ومنها منطقة السياسة والسياسة الدولية، فانتقدت التفرقة بين رئيس الدولة وعامة الشعب، وكشفت عن موقف الأمم المتحدة والفاتيكان حول إسقاط الاتحاد السوفييتي وتقارير الأمم المتحدة في رفض الإجهاض من جهة والموافقة على إزهاق أرواح نصف مليون رجل في حرب الخليج 1991 من جهة أخرى. وكتطبيق حقوق الإنسان التي لا تشمل حقوق النساء محليا أو حقوق الشعب الفلسطيني دوليا (المصدر السابق، ص 42). وكموقف التيارات الإسلامية الأصولية والمسيحية من المرأة وأنها كائن ناقص الأهلية أو غير قادر على اتخاذ القرار وكموقف الرئيس الأميركي من الفقر والجوع في العالم وعدهما نتيجة خصوبة النساء أو الزيادة السكانية وليس نتيجة السياسة الرأسمالية الطبقية القائمة على الجشع والاستغلال (السابق، ص ص38 ـ 39).

ومما يصب في نسوية نوال السعداوي العمومية أيضا مقدرتها السردية التي مكنتها بحثيا من الدفاع عن المرأة العربية وكيف أن الازدواج في الأخلاق هو الذي سلبها حقوقها وجعلها ضحية. والذي يقرأ قصصها ورواياتها سيجد أن أغلب بطلاتها نساء محرومات ومغتصبات ومطرودات ونادمات ومقرعات وخائنات ومستكينات ففي قصة “ليس لها مكان في الجنة” صورت السعداوي بطلتها امرأة ميتة داخل قبر والسارد العليم يستبطن لنا دواخلها الحية “ببطن الكف تحسست الأرض من تحتها ولم تجد التراب، فارتفع الجفنان من فوق العنين الضيقتين ومدت عنقها نحو الضوء وظهر وجهها طويلا نحيلا اسمر البشرة إلى حد السواد” (أدب أم قلة أدب، مجموعة قصصية، نوال السعداوي ، ص 53).

ويتبين في نهاية القصة وبمفارقة ساخرة أن هذه المرأة التي ذهبت إلى الجنة، قررت العودة إلى الأرض لأنها وجدت مع زوجها امرأة أخرى فعرفت أنها ذات بشرة سوداء. ويبدو أن الدافع وراء هذا التركيز على إسناد دور الضحية إلى المرأة هو إظهار قسوة المجتمع الذكوري. ولذلك لا تعتد نوال السعداوي بأيّ دفاع يأتي من جانب الرجل لنصرة قضية تحرير المرأة، لأنه يظل دفاعا ظاهريا، الرجل فيه هو الأقوى.

----

في دلائل نسوية السعداوي العمومية

القسم الثاني

العمومية العلمية

انطلقت نوال السعداوي في رؤيتها للنسوية من عمومية التداخل والاندماج بين مختلف فروع المعرفة التي فيها الإنسان وحدة واحدة فلا فاصل بين العقل والجسم أو العقل والنفس أو التفكير والشعور كما أن لا فروق موضوعية بين العلم والفن لأن كليهما يهدفان” إلى كشف الحقيقة وكلاهما يتطلب القدرة على الخلق” (الأنثى هي الأصل، ص 14).

وهذه الرؤية العمومية في الدمج بين الفروع المعرفية جعلت السعداوي باحثة نسوية تؤمن بضرورة ربط المقدس الديني بالمقدس السياسي غير عازلة النظام الطبقي عن الفلسفة القديمة التي أسست للعبودية، فنظرت إلى الإنسان عقلا وجسما وروحا وكيانا واحدا هو الرجل بينما رفضت أن تعطي المرأة مثله. وبهذا تشكلت القيم الدينية والأخلاقية المزدوجة التي نعيشها حتى اليوم (المصدر السابق، ص 21).

وكثيرا ما ربطت الباحثة التاريخ الأسطوري بتاريخ الحضارات والأديان التي “كانت ولا تزال جزءا من الصراع السياسي حول النفوذ والمال والتحكم في العقول وأجسام المحرومين من الفقراء والنساء” (المصدر السابق، ص 49). لكنها اعتمدت بشكل أكثر على التاريخ الأسطوري في تلمس طبيعة الأدوار النسوية التي غيّبها التاريخ الرسمي أو حرّفها، مؤكدة أننا “ما زلنا نجهل الكثير عن نضال النساء في الحضارات القديمة وبداية الحضارات الحديثة وهناك جهود جديدة في هذا المجال لكشف التجاهل أو التزوير الذي حدث من قبل المؤرخين والملوك والحكام الأجانب والمحليين” (عن المرأة والدين والأخلاق، ص64).

ومن هنا جاءت دعوتها المهمة إلى إعادة قراءة التاريخ، متماشية بذلك مع التوجهات ما بعد الحداثية التي تسعى إلى دمج العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية، وأيّ فصل بينهما هو عقبة بحثية بتعبير السعداوي التي رأت أن أهمية التاريخ تتأتى من دوره المهم في إدراك الترابط بين الأمراض الجسدية والنفسية والأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعلاقة ذلك كله بالموروث المقدس الذي يتغلغل إلى أعماق العقل والجسد والروح، فيمزق الإنسان ككيان واحد إلى ثلاثة أجزاء متنافرة متصارعة تحت اسم الجسد والعقل والروح. وهو ما يجعل أجسام الناس وعقولهم وأرواحهم عرضة للأمراض والمشاكل على اختلاف أنواعها.

وعلى الرغم من أن الباحثة قصرت قراءاتها على التاريخ المصري القديم، فبينت كيف لعبت المرأة المصرية القديمة دورا في الثورات الشعبية والنسائية ضد بطش الفراعنة والسلطة المطلقة للحاكم في الدولة والعائلة (المصدر السابق، ص20)؛ فأنها بالتأكيد تركت الباب مشرعا للباحثات من بعدها لأن يقدمن قراءات أخرى لتواريخ بلدانهن، مشيدة بمحاولات مشابهة قامت بها بعض الباحثات الغربيات وهن يعدن قراءة الكتب السماوية وكتب التاريخ القديم لأجل الكشف عن الحركات النسوية التي تم فصلها بقوة السلاح أو بقوة القانون، ورجت أن لو كانت لدينا نزعات بحثية لمثل هكذا قراءات.

وكثيرا ما أكدت نوال السعداوي في كتبها على قناعتها بأن النسوية قاعدة تاريخية وأرضية منها انطلق التشييد الحضاري للوجود البشري مستندة في إثبات هذه الحقيقة إلى التاريخ الأسطوري الذي “وجدت فيه تفسيرا لكثير من الظواهر.. فالتاريخ يصل الماضي بالحاضر.. والحاضر سيشكل المستقبل” (الأنثى هي الأصل، ص 52)، مركزة في رصدها الميثولوجي هذا على الحضارة المصرية القديمة مع أن هناك حضارات أخرى ومنها حضارة وادي الرافدين، ففيها من الأساطير والملاحم ما يكشف بجلاء عن مكانة المرأة في تدشين الحضارة.

وإذا كانت الأساطير تمثل مرحلة شفاهية من تاريخ البشرية لم تدون تاريخيا أو دونت لكن مع تحريف بعض جوانبها الأسطورية؛ فإن الذاكرة الجمعية ظلت تحفظ جينالوجيا بعض هذه الأساطير في شكل حكايات تتناقلها الأجيال تحكي هذا التحول الكبير في النظام الإنساني من الأمومية إلى الأبوية التي معها تم الاستغناء عن دور المرأة في إنجاب الإلهة (عن المرأة والدين والأخلاق، ص 18) واستحكمت السيطرة الذكورية داخل العائلة والدولة، ونشب منذ ذلك الحين الصراع الطبقي، فسادت روح الاستحواذ وحب التملك.

وعمومية السعداوي في دمج التاريخ بالمجتمع والدين بالميثولوجيا جعلتها تنكر على من يدعي أن الحركات النسوية التحريرية عندنا ليس لها تاريخ أو أنها مستوردة من الغرب، مؤكدة أن النسوية ليست حركة غريبة أو أوربية أو أميركية كما يتصورها بعضهم وهي لم تنشأ خلال القرن العشرين (المصدر السابق، ص46) بل الحقيقة أنها حركات تضرب بجذورها متصلة بالتاريخ، وهكذا راحت الباحثة تتبع هذا التاريخ منذ العصر القديم إلى العصر الحديث، مندهشة من أنواع العقاب والتعذيب الذي تعرضت له أذكى نساء تلك العصور(الأنثى هي الأصل، ص ص 20 ـ 44).

لكن الغريب حقا أنها حين أرادت أن تحدد تاريخ النهضة النسوية العربية، فإنها حددتها بسبعينات القرن العشرين غير معترفة ببواكير هذه النهضة في منتصف القرن التاسع والذي هو تاريخ قريب من تاريخ النهضة النسوية الحديثة في الغرب. ولعل عدم اعترافها عائد إلى ما اعتقدته من أن هذه البواكير ضُربت “بواسطة القوى السياسية المتصاعدة تحت اسم الدين أو الأخلاق أو احترام الأصوليات العرقية أو الاختلافات النوعية والجنسية ” (عن المرأة والدين والأخلاق، ص 47) وقد يكون السبب أيضا شعورها بأن نسويات تلك النهضة لم يمثلن العموم النسوي وإنما كن يمثلن طبقاتهن البرجوازية، وبالطبع لا نؤيدها في رأيها هذا.

وعن تداخل الدراسة التاريخية بالدراسة النفسية، أظهرت نوال السعداوي براعة بحثية وهي تمارس التحليل النفسي بطرائق تدلل على عموميتها النسوية فكانت في كتابها (المرأة والصراع النفسي) باحثة نفسية فصّلت القول في صحة المرأة النفسية. هذه الصحة التي على أهميتها لا تفطن إليها الأغلبية الساحقة من الأسرة المصرية إلا في حالة واحدة وهي حالة جنون المرأة الواضح (المرأة والصراع النفسي، نوال السعداوي، ص 16).

وحللت سلوكيات المرأة من خلال معلومات جمعتها من فتيات ونساء قامت بفحص دواخلهن النفسية والاجتماعية، متتبعة تاريخ الطفولة والمراهقة والعمل والزواج.

ولن نستغرب بعد ذلك إن عرفنا أن أول كتاب بحثي لها كان “المرأة والجنس” الذي حللت فيه صوراً نفسية كثيرة لحال المرأة وأحاسيسها ورغباتها رابطة بين علم النفس وعلم الاجتماع مؤكدة أن “الطبيعة لم تفرق بين الرجل والمرأة، فلكل منهما جنسية وطاقة لا بد أن تصرف في اتجاه ما، ومن خصائص الطاقة أنها تولد ثم تصرف ثم تولد ثم تصرف وهكذا تستمر الطاقة أو القوة التي تحرك الإنسان طالما هو يعيش” (المرأة والجنس، د. نوال السعداوي، ص 56).

ووجدت أن من الخطأ الفصل بين الجنس والمجتمع، فالجنس ليس وظيفة لا إرادية مستقلة بذاتها عن البيئة من حولها، لذا رفضت بعض مفاهيم فرويد، آخذة عليه وعلى أتباعه خطأهم في فهم نفسية المرأة، فلم يستطيعوا إدراك القوى الاجتماعية والضغوط وأثرها في نفس المرأة ولأنهم أيضا كانوا رجالا ولم يكونوا نساء (المصدر السابق، ص 54).

وهذا الربط بين الجنس والمجتمع جعلها تقف بواقعية على ممارسات اجتماعية فيها المرأة ضحية هذا الفهم الخاطئ للجنس. ومن ذلك إقرار المجتمع بعدم حق المرأة الحامل في جنينها “الذي ينمو في أحشائها ويتغذى بدمها ولحمها وإنما هو من حق الرجل وحده يمنحه اسمه فيصبح طفلا شرعيا ويعترف به المجتمع أو لا يمنحه اسمه فيحكم عليه المجتمع بالإعدام وهو لا زال وليدا يرضع” (المرأة والجنس، ص ص 40 ـ 41).

ومن الموضوعات النفسية الأخرى التي وقفت عندها نوال السعداوي وعالجتها معالجة اجتماعية موضوعة الشذوذ الجنسي الذي هو كالضعف الجنسي ظاهرة من الظواهر التي تُوقف نمو الشخصية بسبب ضغوط المجتمع، واجدة أن من الأفضل للعلماء أن يبحثوا داخل المجتمع عن أسباب الشذوذ أكثر من بحثهم داخل خلايا الإنسان. وبينت بالاستناد إلى أبحاث الشذوذ الجنسي وتقارير أزوالد شوارز أن “حالات الشذوذ الجنسي بين الذكور غير موجودة تقريبا في المدارس المختلطة التي تجمع بين الجنسين كما اتضح أيضا زيادة حالات الشذوذ.. في الظروف التي يفصل فيها بين الرجال والنساء”(المصدر السابق، ص 68) وبهذا التنوع العلمي والمعرفي والتعدد في مناهج الدراسة البحثية تكون نوال السعداوي باحثة نسوية عمومية.

العمومية العقلية

كثيرا ما نُظر إلى المرأة بمنظار جزئي يرى ناحية واحدة ولا يرى النواحي الأخرى، والمحصلة عد المرأة كائنا ضعيفا هو أدنى وأصغر من الرجل، مع إن الطبيعة البشرية في الرجل هي نفسها في المرأة.

وبالاستناد إلى هذه الطبيعة البشرية ناهضت نوال السعداوي فكرتين يراد بهما تحجيم الفعل النسوي، الفكرة الأولى التي ناهضتها أن الإنسان بطبيعته شرير، والفكرة الثانية أن عقل المرأة ناقص. ودللت على بطلانهما بما أدته النسويات من أدوار إبداعية على الصعيدين الفكري والفلسفي في كافة المجالات بما فيها المجال الديني، مؤكدة حاجة الناس نساء ورجالا إلى التفكير، متصورة أن “أغلب الناس في بلادنا تفكر بنصف عقل أو بعقل مزدوج لا يرى التناقض فيما يقولون.. أغلبهم رجال أعمتهم رغباتهم عن رؤية الحقيقة. إنهم يخافون على ضياع آخر القلاع في أملاكهم الخاصة وهو امتلاك الزوجة” (المصدر السابق، ص 32).

ودللت بعمومية فكرية على عدم نقاء النظرة الثقافية كتبعة من تبعات ما تصفه بالخطاب الثقافي الاستشراقي النسوي الجديد الذي هو صورة أصولية للوجه الآخر للفكر الليبرالي الرأسمالي الحديث وما بعد الحديث الذي تدعمه نظريات صدام الحضارات واقتصاديات السوق العالمية والنهب الاستعماري بأشكاله الجديدة، وكلها تريد “العودة بالمرأة العربية إلى الوراء تحت اسم احترام ثقافة الآخر” (عن المرأة والدين والأخلاق، ص 65). ولكن قبل هذا الخطاب هناك الخطاب الفلسفي المثالي الذي وضع العقل كأصل يناقض الجسد الذي هو فرع وصار الرجل هو العقل والمرأة هي الجسد.

ومن الصور التي مثلت بها نوال السعداوي على الخطاب الثقافي الاستشراقي النسوي الجديد ما يظهر من حركة واضحة نحو ترجمة كتب النساء الأميركيات عن المرأة والإسلام، ونضيف أيضا ما طرأ على المشهد النسوي من ظهور ما سمّي بالنسوية الإسلامية مع أن أغلب الممثلات لهذه النسوية يكتبن بليبرالية متحررة، وبعضهن معنّفات ومهجّرات وناقمات على أهلهن وأوطانهن.

ويعدّ الحجاب من الموضوعات ذات الصلة بالعقل، والتي أولتها الباحثة اهتماما كبيرا بسبب تماس هذه الموضوعة المباشر مع الواقع الحياتي للمرأة العربية، وبسببها نالت السعداوي كثيرا من المعاداة ففصلت من عملها وسجنت ثم اتهمت فصودرت حقوقها وحُلت جمعيتها وأهدر دمها.

والحجاب الذي تعنيه السعداوي هو الحجاب الموضوع على العقول لأنه الأخطر، ولأنه يدمّر العقل ويؤدي بكثير من النساء إلى قبول الظلم، ويجعل المرأة تعمل ضد نفسها ومصلحتها. ورأت في هذا التدمير أحد الصعوبات التي تواجه الحركة النسوية التحريرية في العالم كله وفي بلادنا العربية خاصة بسبب وقوعها قرونا طويلة تحت سيطرة الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي.

ورأت أنّ الحجاب أصبح يحجب النساء عن الحياة والسياسة والدين والأخلاق، وهو نوعان حجاب يخفي جسد المرأة وعقلها وروحها وشخصيتها، وحجاب لا تراه العين تفرضه التربية في البيوت والمدارس والأحزاب السياسية التي يسيطر عليها الذكور، وقلة من النساء قدرن أن يخترقن هذا الحجاب العقلي.

وأكدت السعداوي أن أهمية الإبداع السياسي والفكري في التخصصات والاتجاهات كافة إنما يأتي من رفع الحجاب عن عقول الرجال والنساء التي دمرها الفكر الطبقي الأبوي في مجال السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الدين أو غيرها. ومن شأن هذا الإبداع أن يحقق الانتماء للإنسانية وقيم الحرية والعدالة والحب والسلام ويجعل التضامن حقيقيا بين الشعوب نساء ورجالا وشبابا بصرف النظر عن اللون والجنس أو الدين أو الطبقة أو القومية أو الجنسية أو غيرها (المصدر السابق، ص ص 118 ـ 123).

ولا فائدة في العقل والإبداع إن لم يرافقهما الانفتاح الذي أرادته نوال السعداوي سلوكا به تتمكن الحركات النسوية من التفاعل مع الحركات الأخرى فتصبح التعددية هي الأساس.

وإذا كانت في التفكير العقلي متعة كبيرة تُكسب للإنسان ذاتا مفكرة ومبدعة؛ فإن العقل بحسب السعداوي ليس ذاتاً مفكرة منفصلة عن الجسد والأرض والتاريخ؛ بل هو متعلق بحقوق الإنسان وعلى رأسها حقوق النساء وحقوق العمال والفلاحين والفقراء وهم أغلب سكان العالم. وبالعقل تظهر أهمية إدانة التمييز الجنسي والعنصري والسياسي والعقائدي ومن خلاله تنكشف أشكال السيطرة الرأسمالية الجديدة.

ومن منطلق عمومية العقل رفضت نوال السعداوي شعار تمكين المرأة الذي هو ليس بديلا عن تحريرها، لأنه يفصل بين التمرد السياسي والشخصي ولأن “الهيصة لتمكين المرأة لم تتمكن من ترجيح شخصية جديرة بثقة الشعب” (المصدر السابق، ص 168).

أما التفكير في فلسفة العولمة وحوار الحضارات والثقافات فتجد فيه نوال السعداوي مجادلات عقيمة تذهب بالأصالة والخصوصية الثقافية، مؤكدة ضرورة  تكريس المعرفة بصورة غير مجزأة ولا منفصلة عن الواقع، ولهذا عدت فلسفة دريدا نتاجا من نتاجات الفكر الرأسمالي الطبقي الأبوي الحديث لما فيها من دعوة إلى التخلي عن الهوية والقومية من أجل الإنسانية التي قد يمارس تحت اسمها أقصى أنواع القهر بحق الإنسان، فـ”مقتل جندي أميركي واحد أو جندي إسرائيلي قد يقيم الدنيا ولا يعقدها أما مقتل آلاف الفلسطينيين أو اللبنانيين أو العراقيين أو غيرهم فإنه يمر دون شيء يذكر” (المصدر السابق، ص 42).

والسعداوي دائمة التشجيع للمرأة على استعمال عقلها وأن تكون أكثر وعيا وقدرة على الدفاع عن حقها. ومن أجل ذلك أنشأت جمعيتها (جمعية تضامن المرأة) وجعلت شعارها رفع الحجاب عن العقل وتجميع النساء العربيات وتعميق الوعي النسوي عند المرأة المصرية والعربية، وهدفها “أن أنقي الجنس.. وأن أرفع شأن المرأة لتكون إنسانة لها عقل وليست مجرد جسد يعرى لترويج السلع في الإعلانات والفنون الرخيصة أو يغطى تحت النقاب إلا عين أو نصف عين لترويج شعارات سياسية أو دينية معينة” (معركة جديدة في قضية المرأة، د. نوال السعداوي، ص 22).

والرؤية العمومية جعلت السعداوي تتناول تفاصيل الحياة النسوية في بعض البلدان العربية، فوقفت عند المرأة العراقية ووجدت أنها بالرغم مما بلغته من “درجة كبيرة نسبيا في التعليم والعمل بأجر لكنها ظلت هامشية فيما يخص القضايا السياسية الكبرى ومنها الحرب وقد عانت نساء العراق من حرب دامت ثماني سنوات ضد إيران فقدت فيها الآلاف من الأبناء والأزواج والآباء والأخوة أصبح عدد النساء في العراق أكثر من عدد الرجال وحدثت انتكاسة في قانون الأسرة العراقي الذي كان يمنع تعدد الزوجات فإذا بقانون جديد يبيح تعدد الزوجات بعد الحرب ضد إيران. أما نتائج حرب الخليج على نساء العراق وأطفالهن فأمر لا يمكن وصفه بكلمات فوق الورق ولسوف يكشف التاريخ حتما عن تلك القوى اللاإنسانية التي تحاصر شعب العراق تحت اسم الشرعية الدولية والأمم المتحدة” (المصدر السابق، ص 75).

وينطلق نضالها ضد تحجيم العقل وسجنه في منطقة التقليد والاتباع، من شعورها “أن وضع المرأة الأدنى ليس قانونا طبيعيا وليس من صنع الله وإنما هو قانون اجتماعي صنعه البشر” (المصدر السابق، ص 87).

ولا مناص من القول إن بعض أفكارها الليبرالية المتطرفة جعلتها تتصادم مع العقلية المتزمتة وأفكارها المحافظة التي لا تقبل بنقدها أو انتقادها، متسائلة “هل أصبح بعض المشايخ.. شخصيات مقدسة.. وغير قابلة للنقد؟ مبينة أن الرسول (ص) نفسه كان يشجع المسلمين على نقده وعمر بن الخطاب أعجب إعجابا شديدا بامرأة نقدته فقال قولته: أخطأ عمر وأصابت امرأة” (المصدر السابق، ص 78).

----

وما يجري من حركة نسوية في مجتمعنا العربي لم يكن ليرضي تطلعات نوال السعداوي:

أولا- لأنه ما زال يركز الاهتمام على تغيير القوانين التي تنظم العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة أو ما يسمى بقوانين الأحوال الشخصية.

ثانيا- أن التغيير المنشود يتطلب أن تتحول القوانين المجحفة إلى مفاهيم جديدة تشكل نسيج المجتمع.

ثالثا- أن عدم إيلاء الفكر اهتماماً هو السبب في جعل الحركات النسوية في الأعم الأغلب متلكئة، إن لم نقل فاشلة في فهم مكاسبها.

ولا شك أن ظهور التشدد الإيديولوجي بين بعض فصائل النسوية يجعل النسوية مثقلة أكثر بالدلالات الأيديولوجية” (النسوية وما بعد النسوية، ص 84). ومن ثم يكون من الضروري أن تتولى النسوية العربية النهوض بفكرها، مؤسسة فلسفة خاصة بها. وهو ما حاولته نوال السعداوي في ما كتبته من مقالات وما مارسته من أنشطة، بيد أن ضعف المعاضدة النسوية عربيا وعالميا جعل جهودها موضع تضاد واختلاف شدا وجذبا واتهاما وتبجيلا. والنتيجة أن تطلعاتها تظل في أكثرها بعيدة عن التطبيق ما لم يكن هناك تكاتف نسوي حقيقي وأصيل.

ولو عدنا إلى ما كُتب عنها لوجدنا انقساماً بحثياً واضحاً حول آرائها ومدى صدقها في تبني القضية النسوية، فالباحثة آمال عميرة ذهبت إلى أن الاستقبال الذي حظيت به السعداوي في الغرب كان استقبالا سياسيا كناشطة نسوية عربية، مشككة ـ أعني الباحثة ـ بحركية السعداوي العابرة للحدود والطريقة التي بها صار لها وجود عالمي خارج العالم العربي، وختمت الباحثة تشكيكها بالسؤال الكولونيالي: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ (تقاطعات الأمة والمجتمع والجنس، تحرير ليزا سهير مجج وبولا سندرمان ويرتزا صليبا، ترجمة فيصل بن خضراء، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2002، ص ص 79 ـ 83).

بيد أنّ هناك من يذهب إلى الضد من هذا التصور فيجد أن ما حملته كتبها من أفكار تحررية وما مرت به من تجارب وما عُرفت به من مواقف أدى إلى زيادة التأييد العام لها، وهو ما خدم قضيتها المركزية بينما يرى آخرون أن أفكارها المتطرفة ومواقفها السياسية زادت الاتهام لها بالعمالة والتخريب لاسيما حين ألفت كتابها “الوجه العاري للمرأة العربية” الذي أثار كثيراً من الجدل لأنها عند تأليفه كانت من المرحبين بالثورة الإيرانية وقبلها كانت معروفة بموقفها المعادي للإمبريالية والذي توضح أكثر في رفضها لاتفاقية كامب ديفيد 1981 ثم معارضتها لحرب الخليج 1991 فضلا عن موقف نوال السعداوي من برنامج جيهان السادات حول حقوق النساء وتحسين أوضاعهن، مقتنعة أن الإصلاح لن ينفع وإنما المطلوب هو التغيير الشامل.

وما دام كثير من أفكار نوال السعداوي غير مدروسة ولا موضوعة في إطار نسوي، فإن الاختلاف يظل قائماً حول شخصيتها وكتبها وآرائها وغاياتها، وهو ما يؤكد نسويتها العمومية التي هي محصلة وعيها وإخلاصها في تجسيد هذا الوعي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.