نوستالجيا الأوطان المفقودة
«ولكني أنا المنفِيُّ خلف السّور والباب
خذيني تحت عينيك
خذيني، أينما كنت
خذيني، كيفما كنت.
أردّ إلىّ لون الوجه والبدن
وضوء القلب والعين
وملح الخبز واللحن
وطعم الأرض والأوطان!»
(محمود درويش)
يُجسِّد محمود درويش في قصيدة «عاشق من فلسطين» التي اجتزأنا المقتطف السّابق منها (مع أنه كتبها في مرحلة مبكرة سابقة للمنْفَى) السِّياق الأنطولوجي للمنْفَى، الذي يعكس حالة دائمة من العزلة والغربة والابتعاد والتشرُّد...إلخ. بما أن الشرخ المفروض الذي لا التئام له، بين كائن بشري ومكانه الأصلي بين الذات وموطنها الحقيقي؛ فلا يمكن البتة التغلب على ما يولّده من شجن أساسي".
المعروف أن المَنْفَى هو نِتاج شرط تاريخي مُحدّد، يتبعه "انسحاب نرجسي من العالم إلى شرنقة الذات" كما في تصوُّر فرانز فانون، أو "عزلة تعاش خارج الجماعة بإحساس بالغ الحدّة " كما في تصوّر إدوارد سعيد. وقد واكب المفهوم بعض التحولات والتغيّرات في خلال الربع الأخير من القرن العشرين، كما يقول الدكتور عبد الله إبراهيم "حيث غَادر معناه اللغوي الذي جعل منه دالاً على أدب الغربة والهجرة والاقتلاع والتشرّد، فأصبح تجربة أولا مُحَفِّزة للكتابة في إنتاج سرديات المنفى، وثانيًا: أضحت تجربة مجازية تدلُّ على النظر بعيون جديدة إلى العالم وتجارب البشر وتفاعل الثقافات ومفهوم الحرية والرؤية غير المتحيّزة، والابتعاد عن مفهوم الهُوية المغلقة، وطرح مفاهيم مثل الأصل والقومية والآداب الوطنية على بساط البحث مُجدّدًا".
ومع الرّحابة التي طرحها المفهوم التي تتيح توسيع دائرة التناول في التجربة، إلا أن العجيب أن الروائيين في تعاملهم مع تجربة المنْفَى نقلوها إلى المجاز، استجابة لميراث عريض يُحرِّض المقموعين (وهنا يتوازون مع المنفيين) على المواربة والتعريض والتورية، وبصورة أجمل إلى التقيَّة كما نبّه ابن وهب قارئه على التقية ومجازات السلوك والفعل، وقبله حضّ ابن دُريد المُجْبر والمضطهد على اتباع استراتيجيات المجاز.
علاقة المنفي بالمجاز، وارتباطهما معًا بجوهر فكرة العودة، صاغها محمود درويش في واحدة من مقالاته كما يقول محمد الشحات. ومن ثمّ يُحلِّون المَنْفيون الكتابة محل الوطن، وفق المفهوم الذي يتوافق مع استعادة هذه الأوطان المفقودة، ومنها استعادة الهُوية سردًا عبر المجازات، حسب تعبير بول ريكور في معرض حديثه عن الرواية التاريخية في كتابه «الزّمان والسّرد»، وهي تلك الأطروحات التي بَنى عليها الناقد البحريني نادر كاظم المتخصِّص في السَّرديات مفاهيمه عن "سَرد الهُويات" والذي يعتبره "ليس قَصًّا مُحايدًا للوقائع والشّخصيات، وانما هو قصٌّ متوَّرِط في قلبِ الصِّراع، ذلك أن سيادة أيّة هُوية أو سردية أو حبكة ثقافية تأتي على حساب انحسار هوية أو سردية أخرى"، بل يذهب إلى أن "الصراع الدائر في العالم الآن" ما هو إلا "صورة من صُور صراع السّرديات".
وقد انتهى إلى «أن الهُوية لا تتحقّق إلّا بالسّرد وبواسطته»، أثناء قراءته للمشاريع الثقافيّة التي أجرى عليها تساؤلاته ومقارباته النقدية. لكن مع كثرة الاستراتيجيات أو الطرائق التي يتبعها المنفيون في كتاباتهم التي تؤكّد وعيهم بمفاهيم الكتابة والوجود والوطن والهوية، إلّا أنها مع تنوّعها وقدرتها على التعبير عن حالة الانقسام (أو الانشراخ) الحادّ التي يقع فيها المَنْفِيّ بين مطارادات هويات متعدّدة؛ هوية وطن الَنَّفْى وهوية الشَّتات والتيه في المنفَى، أو حتى التي يُقدم عليها متاجسرًا على عواطفه، بالانسلاخ عن هوية وطن الَنَّفْى، والانصهار في البديل، هوية المَنْفَى أو هوية الشّتات، فالحقيقة الرّاسخة كما يقول محمد الشحّات أنها جميعها تؤكّد فكرة جوهرية تلخص الوجع المُستمر وتنبئ عن «لا استقرار الهوية».
بقدر ما تُمثله تجربة المَنْفَى من ضرواةٍ وقسوةٍ على المنفيين فإنّها على الجانب المُقابل تمنح المنْفيين الكثير من الخصائص المُتضافِرة، ما بين السّلب والإيجاب، فكما يقول محمد الشحّات فالمنْفَى "يكثِّفُ من شعور المنْفِيّ بأهميته الشخصية فتتضخّم ذاته، ويتحوّل منزله الأسرة المتواضعة على مستوى الواقع إلى ضيعة مترامية الأطراف، وعلى مستويي الذاكّرة والمخيّلة؛ فالمنْفَى "يُعمِّق من رومانسية الشخص المنْفِيّ".
الحقيقة التي كشفت عنها قطاعات عريضة من المرويات الحدثية على تعدُّدها، أن ثيمة المنْفَى صارت محورًا رئيسيًّا في هذه المرويات، بل يمكن اعتبار (الآن) كتابات الكثير من العراقيين الهاربين مما حاق بالعراق (وبالمثل يدخل في هذه الدائرة السّوريين اللاجئين في أصقاع الأرض) إلى بلاد اللجوء والشتات، تهيمن على أجوائها الاغتراب والنفي والتشرُّد، وحالة من الحسرة لما آلت إليه أوطانهم. وهذا نِتاج التغيُّرات السياسيَّة التي حلَّت على المنطقة العربيّة من بعد حرب العراق الأخيرة وإزاحة نظام الرئيس صدام حسين عن سدّة الحكم عام 2003، في مشهد كان فارقًا لما حدث بعده مِن تحولات في منطقة الشرق الأوسط؛ فقد شهدت المنطقة توترات عديدة، لم يكن أهمها حرب الخليج، وإنما كانت عاملاً مهمًّا لهذه التغيرات التي حدثت في المنطقة، وكان أكثرها كارثيّة في تغيير ديموغرافية المكان بسبب الإثنية العرقيّة والإيديولوجيّة الطائفيّة، والنعرات المذهبيّة التي ظهرت على السطح وصارت المهيمن على القوى السياسية، وهو ما انتهى بالتهجير القصري لكثير من السُّكان كما حدث مع الإيزيديين في العراق، عندما اضطرتهم داعش إلى ترك المكان.
لا تسعى هذه الدراسة بحال من الأحوال إلى تكرار ما قاله نُقاد سابقون حول مفهوم المنفَى وأنواع النفي؛ الطوعي والإجباري، أو حتى التفرقة بين النفي والهجرة، ورواية المَنْفَى ورواية الغربة، أو الاغتراب وغيرها من مفاهيم جميعها تتصل بهذه التجربة الأليمة، فالدراسة غير معنية بفضّ الاشتباكات بين هذه المفاهيم، أو حتى محاولة التقريب بينها، لا لعدم جدوى هذه التفرقة، بل على العكس تمامًا، وإنما مرجع هذا هو أن ثمّة أعمالًا مهمّة وجادّة سعت إلى فضّ هذه الاشتباكات من ناحية، والحديث فيه لا يقدم جديدًا، بل يصبح من مكرور القول، وترديد أقوال سابقة، ومن ناحية أخرى اعتنت بدراسة هذه الإشكاليات بالدرس المستفيض إجرائيًّا وتطبيقيًّا كما في دراسة الدكتور محمد الشحّات عن «سرديات المنفى»، والتي صدرت عام 2006، وبالمثل دراسة حليم بركات في مجلة فصول عن«رواية الغربة والمنفَى»، وقد صدرت صيف 1998، وهي أسبق من دراسة الشحات.
وبالمثل لا تقف الدراسة عند أسباب هذا النفي بكافة أشكاله أو الاغتراب بنوعيه أيضًا داخل الأوطان أو في بلاد المهجر، فمثل هذه الأسباب وإن كانت متغيّرة من كاتب إلى آخر ومن مروية إلى أخرى، فهي أيضًا نوقشت باستفاضة في دراسات سابقة. الدراسة بقدر ما هي معنية بكل ما سبق وتحتويه في متنها إلا أنّها لا تقف عنده باستفاضة وسوف أكتفي بالإحالات إلى المراجع المهمّة التي تناولت هذه الإشكالية. فما يجب الإشارة إليه هنا أن الدراسة معنية بتتبع التحولات التي طرأت على «مفهوم الوطن في مرويات المنْفَى» وكيف استطاعت المرويات التي عالجت هذه الثيمة سواء أكانت متصلة اتصالاً وثيقًا بروايات المنْفَى أو حتى تنتمي إلى روايات الغربة أن تُقدِّم تمثيلات مختلفة للأوطان المفقودة، وفي المقابل تكشف عن التحولات التي حلّت على مفهوم المَنْفَى الذي كان سائدًا في أدبيات المنْفَى السّابقة، وكيف أنّ الغرب لم يَعُدْ الجرثومة التي «يتنزى به جسم الكون» كما وصفها الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال: الرواية ص: 128)، بل صار الملجأ والملاذ.
لكن الشيء المهم الذي يجب التأكيد عليه في هذا المدخل، هو أن المرويات الخاضعة للدراسة هي جميعها صدرت في الألفية الثالثة، وهي حديثة نسبية وإن كانت تتقاطع بشكل أو بآخر من خلال الاستداعات التي تستدعيها مع مرويات صدرت قبل الزمن المرجعي للدراسة، ومن ثم تأتي الدراسة متجاوزة للدراسات السَّابقة التي توقفت عند عام 2000 كما فعلت دراسة محمد الشحّات، التي جعلت زمنية ما بعد النكسة حتى نهاية الألفية إطارًا مرجعيًّا لها. كما أن هذه الدراسة لا تضع شرط النفي معيارًا أساسيًّا لتمثيل الروايات موضوع الدراسة، فثمة روايات لم يحدث النفي لكتابها، ولكنها تحدثت عن منفيين كما في روايات وحيد الطويلة «باب الليل»، فالرواية ليست ثيمتها الكلية النفي، وإنما ثمّة أشخاص عانوا من النفي كما هو حال الفلسطينيي "أبو شندي". وبالمثل رواية حجّي جابر«مرسى فاطمة» وجنى الحسن «طابق 99» وإن كان في حالة جنى الحسن، تتماس تجربة المؤلفة مع مرويات الغربة، قد انتقلت إلى أمريكا للعيش بعد صدور روايتها، نفس الشيء ممكن أن يُقال على رواية ميرال الطحاوي «بروكلين هايتس» التي لا تشملها الدراسة وإن كانت تتماس معها في بعض مساراتها؛ حيث البطلة هند تعيش مع ابنها تجربة الاغتراب كاملة، وحالة الاغتراب التي تعيشها تستدعى قريتها تلال فرعون في شمال الدلتا، وهو ما يتماس مع مقصد دراستنا حيث يحلّ الوطن المفقود، ويهيمن على الشخصية في الوطن البديل، وتنشط الذاكرة في الاستدعاءات التي تميل كلها إلى الوطن والشخصيات المفقتدة، ومن ضمن ما تستدعيه داخل مرويتها، هو تجارب آخرين سعوا إلى البحث عن «تفاحة العالم» حيث طافت بأحوال الضعفاء والمهمشين من اللاجئين الذين بحثوا عن الأمان والملاذ في بلاد ظنوها ـــ حسب تعبيرات الشخصيات في الرواية ـــ «تفاحة العالم» بيد أنها لم تكسبهم غير الخوف وفقدان الذات ويقرون – أنفسهم - بأنّها «مدينة تخلق كل التعاسة البشرية»، ولما لا وهي «مدينة ظالمة مثل كل مدن التاريخ التي تحولت إلى غبار، بعد أن استبعدت أُناسها» كما تقول السَّارِدة نفسها.
ـ 1 ـ
فكرة الوطن المـُـستعاد سردًا ورديفها الهُوية، كانت حاضرة عند أديب نوبل «أورهان باموق» في خطابه أمام الأكاديمية السويدية المعنوّن بـ"حقيبة أبي" وهي التي استعادها سردًا في روايته «إسطنبول مدينة الذكريات»، حيث يقول في خطابه النوبليّ «ما أحسُّ به الآن هو نقيض ما شعرتُ به طفلاً وشابًا: لقد صار مركز العالم بالنسبة إليّ هو إسطنبول. وهذا ليس لأني عشتُ هناك حياتي كلها، وإنما لأنّني على مدى الثلاث والثلاثين سنة الماضية كنتُ أروي شوارعها، جسورها، ناسها، كلابها، بيوتها، مساجدها، ينابيعها، أبطالها الغريبين، دكاكينها، شخصياتها الشهيرة، نقاطها المظلمة، أيامها ولياليها، جاعلاً هذه كلها جزءًا مني، مُحْتَضِنًا إيّاها كلها.
لقد وصلتُ إلى نقطة صَار فيها العالم الذي صنعتُه بيدي، هذا العالم الذي كان موجودًا في رأسي فحسب، أكثر حقيقية من المدينة التي عشتُ فيها فعلاً. كان ذلك حين بدا كل هؤلاء الناس والشوارع، والأشياء والبنايات وكأنهم يتحدّثون إلى بعضهم بعضا، حين بدوا كما لو كانوا يتفاعلون فيما بينهم بِطُرقٍ لم أتخيّلْهُا، كما لو أنهم لم يعيشوا فقط في خيالي أو في كتبي، وإنما لأُنَفّسهم. هذا العالم الذي خلقتُه مثل رجل يحفر بئرًا بإبرة سيبدو عندئذٍ أكثر حقيقية من أي شيء آخر»، وقد ظلت هاجسًا يسطير عليه حتى عاد إليه مجدّدًا في روايته الجديدة «Kafamda Bir Tuhaflık» "غرابة في عقلي" التي صدرت مطلع عام 2016.
ـ 2 ـ
قدّمت السّردية العربيّة ـــ في الفترة الأخيرة ــــ نماذج متعدِّدة تستحضِرُ فكرة الاستعادة، وتمثّل ذلك في مرويات جاءت جميعها، لأُدباء ـ بعضهم ـ لم يُهاجروا وبالأحرى لم يُنْفوا أيًّا كان هذا النفِيّ طَواعيًا أم اختياريًّا، بل مازالوا يعيشون في أوطانهم بوصفهم مَنْفِيين مِن الداخل، وقدّموا هذه الصّورة الضّافيّة للأوطان المفقودَة، مع آخرين اختاروا المنفَى ملاذًا للفرار من جحيم الأوطان كما هو الحال لدى الكاتبة العراقية إنعام كجه جي في جلّ نتاجها، والروائية عالية ممدوح في "الأجنبية" ... وغيرهما.
قد يميل النقادُ إلى اعتبار المنفَى هو السّبب الرئيسي الذي دَفَعَ الروائيين إلى استعادة الأوطان سردًا، ومن ثمّ حاجة المنَفِي إلى وطن بديل يجترُّ عليه الذكريات والأحزان، كما في أطروحات إدوارد سعيد الذي يرى أن «النفي أساسًا يعتمد على وجود حبّ الوطن الأصل، وارتباط حقيقيّ به، إذْ هو غربة فُرضت على الإنسان ولا يمكن الخلاص منها، فالمنفِى مُقْتلَع مِن جذوره وتربته، وماضيه»، وفي ضوء هذا يرى أن الإنسان لا يستطيع معرفة ذاته إلا بالآخر، وهذا الآخر لا يتوفر إلا «بالبُعْد المكاني»، وهو ما يتفق فيه مع قول محمد ديب بأنه "لا يمكننا اكتشاف ذواتنا إلا عبر الترحال"، وإن كان إدوارد سعيد عاد وَوَصفَ المنفَى بأنّه «من أكثر المصائر إثارة للحزن»، لكن إضافة إلى هذا العامل المهم، ثمة عوامل أخرى تتمثّل في الحرب كما فعل بطل «طابق 99» الذي ما إن غادر بلده مجبورًا ومحمّلاً بذكريات أليمة حتى راحَ يستعيدها على مهل في غربته، وبالمثل بطل «مرسى فاطمة» لحجّي جابر، ومنها أيضًا التغريب الذي أحالَ المدنَ إلى مَنافٍ، ودفع أهلها إلى البحث عن الهجرة منها، كما صوّر الحبيب السّالمي في روايته «نساء البساتين» وعبد الخالق الركابي في «ليل علي بابا الحزين». ومنها أيضًا ما تمثّل في سَلْب الهُوية ذاتها كما أوضح إسماعيل فهد إسماعيل في مروية «في حضرة العنقاء والخل الوفي»، وسعود السنعوسي في «ساق البامبو» وتناولهما لقضية البدون في الكويت، في إشارة للمنفَى الداخلي في الأوطان التي لم تعترف بهم. لذا لم يَعُدْ الإقصاء والطرد أو حتى الاستعمار كما كان من قبل الأسباب الوحيدة للنفِي عن الأوطان، بل شملت المواضعات الاجتماعية أيضًا، والقمع وتكبيل الحريات، لدرجة أن الأوطان صارت ذاتها أشبه بالمنافي للأحرار.
ستشتغل هذه المقاربة النقدية على نماذج دالّة من هذه الكتابات التي انهكها الحنين والبحث عن أوطان بديلة، وأيضًا الذين يعيشون في أوطانهم (المنفيون في الداخل) وثمة مسافة زمكانية تفصلهم عنها، وتجعلهم يشعرون بالحنين إليها، ومن ثمّ صَارت صورة الوطن تتراوح بين مجرد حُلم، وبين مجرد كذبة بيضاء. أو حتى بين مجرد سؤال لا جواب له كتساؤل "عيسى" بطل ساق البامبو »مِن أين لي أنْ أقترب من الوطن وهو يملك وجوهاً عديدة.. كلما اقتربتُ من أحدها أشاح بنظره بعيداً».
ـ 3 ـ
ضياع الوطن ... الحبيبة
يتخذ حجِّي جابر من قصةُ الحُبِّ التي بدأَ بها روايته «مرسى فاطمة» (المركز الثقافي العربي، 2013) بين البطل مجهول الاسم، ثمَّ المعرَّف برقم في معسكر تدريب ساوا وهو ما يتكرّر في سجن الشجراب، وسلمى معذبته، طالبة الصف الثانوي التي يَقتفى أَثرها بعدما علم أنها رُحِّلَتْ إلى ساوا لرسوبها المتكرّر في دراستها، وإن كانت في الحقيقة مُختبئةً في أسمرا، دون أن تعلم بأنه هام في رحلةٍ مُوجِعَةٍ بحثًا عنها، مجالاً ليكشف لنا فيه معالم التغريب، التي مُنِىَ بها وطنه إرتيريا منذ وقع قديمًا فريسة للاستعمار الإيطالي، ثمّ وقوعه تحت تأثير الجماعات الوهابية التي غزت البلاد مع وفود الطّلاب الذين درسوا في جامعات المدينة، وما قابله من حركة قمعية مارستها الأجهزة الأمنية للتنكيل بهذه الجماعات التي انتشرت في القرى في صورة المدرسين الذين كانوا يقومون بالتدريس داخل المعاهد. ورغم القمع السلطوي إلا أن ثمة حلمًا بالثورة ماثل في شخصية كداني المثقف والمؤمن بحتمية التغيير، وعمله ضمن جماعة تنشد العدالة، وتناضل لتغيير البلاد نحو الأفضل، ومع هذا يعترف بأن «الوطن كذبة بيضاء، يروج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة»، وهي كذبة يتذكرها البطل في رحلته أثناء مشاهداته لعذابات الآخرين من أجل حلم الانعتاق والهروب من جحيم هذا الوطن، فيقعون ضحايا لعصابات التهريب التي تتاجر بأجسادهم وترسلها إلى إسرائيل مرروًا بسيناء في مصر، وصولاً إلى مخيمات اللاجئين وحالة الاستغلال والضغط عليهم من قبل عصابات التهريب بحرق خيامهم أو بخطف فتياتهم كنوع من الترهيب يدفعهم لقبول فكرة الهروب.
يوازى سَارد مرسى فاطمة بين الوطن الضائع وبين فَقْده لحبيبته سلمى، في موازاةٍ تجعلُ منهما شيئًا واحدًا فهي جذوره ولغته ووعيه واحتياجاته، وهي بالنسبة إليه «حُلم بحجم الوطن» تارة وتارة أخرى «يداها وطن دفء ينهي صقيع اغترابي» (ص، 212 ) على حدّ وصفه لها. حتَّى أنه يَتساءلُ في تعجُّبٍ «أولا يَستحقُّ هذا الوطن أن ألهثَ خلفه» (ص، 68)، ومع الإصرار على البحث عنها يكتشفُ محنة هذا الوطن الذي راحَ هو الآخر يتبدّد ويتلاشى مِن قلوب أبنائه الذين اكتشفوا أنّ «الوطن كذبة بيضاء»، يروّج لها هؤلاء المنتفعون من خيراته وباستبداد أبنائه.
ومع أن فرصة الهرب جاءته ليغادره تمامًا بعد أنَّ اعترفَ بأنَّه «هُزِمَ فيه»، ويجب أنْ يَبْحَثَ له عن «وطن بديل» كما أخبره أمير، إلا أنه كان يُدرك دائرية المصير عبر تساؤله «لماذا نهرب من الوجع إليه» (ص، 179) ومن ثم، فقد بدت حياته كما يقول «كدائرة كبيرة، لا تتيح الالتقاء بمن أريد، طالما أننا نتبع الاتجاه ذاته، والقدر نفسه والشوق والاحتياج، بدا كل شيء خلفي وأنا الذي قضيت العمر كله في انتظار ما سيأتي» (ص، 252)، ومن فرط هذه الدائرية والتكرارية يخال أن كل شيء دائري بما في ذلك «الطريق والمحال والبيوت» (ص،253) الشيء الوحيد الذي ربما خفّف من هزائمه هو رؤيته جلاده "منجوس" وقد خلع ملامحه القاسية المتغطرسة وارتدى ملامح المغلوبين بعد أن فقد سوطه وسلّم ظهره لجلادين آخرين، وهو ما جعله يشعرُ بالإشفاق عليه، لذا كان القرار النهائي بالعودة إلى مَرسى فاطمة نقطة البداية، والتي عندها تتكشّف بعض الحقائق الأكثر إيلامًا، وكلاهما يبدأ رحلة البحث من جديد في إشارة إلى عدم جدوى الأحلام والآمال مادام الحال كما هو لم يتغير «هنا في مَرسى فاطمة ... حيث تبدأ كل المسارات، وإليه تنتهي» (ص 254)
رغم رحلة المعاناة التي تكبدها الراوي للعثور على محبوبته / وطنه، إلا أن الفشل كان قرينه في العثور على كليهما، لكن مع كلِّ هذا فلم يبقَ إلا الأمل، الذي تركه الراوي بعد تبعثُّر الآمال وتبدُّد الأحلام متمثلاً في العودة إلى مَرسى فاطمة مرّة ثانية، وإعادة البحث، فمع تواجد الوطن البديل والكل حثّه عليه إلا أنه يرى أنّ الوطن البديل «قد يُبْقيكَ حَيًّا، لكنَّه لا يَمْنَحُكَ الحياة» فعاد إلى مَرسى فاطمة طاردًا عن ذهنه فكرة الاستبدال خاصة أنها جاءت من ابنة الوطن المستعمِر الأول لهم كارلا الإيطالية التي كانت ماتزال تروِّج للفكر الكولونيالي، وهو بهذا يحثّ على مواصلة العمل لتحقيق الحُلْم الذي قد يأتي مِن تكرار المحاولة وهي الإيجابية الوحيدة في العالم السوداوي الذي وزّعه الكاتب في نصه، وهو ما جعل الهزائم لا تفارق معظم الشخصيات بلا استثناء.
باب الليل المقهى ذاكرة المنفِيّ
تحوّل مَقهى «لمـــّـة الأحباب» الذي اتّخذه وحيد الطويلة فضاءً مكانيًّا لروايته «باب الليل» الصادرة عن منشورات الاختلاف 2013، إلى حائط مَبكى يُسكب عنده الجميع الدموع على الأوطان، فتحتشد فيه تركيبة فريدة من البشر مختلفي الجنسيات؛ توانسة ولبنانيين وسودانيين وليبيين وأوروبيين، وإنْ كان ثمَّة فلسطينيون، أو ثوّار متقاعدون حاضرون بفجيعتهم، حتى صاروا بفعل عوامل عِدّة لا تبدأ من الخيانة ولا تنتهي بتبدُّد سراب الأحلام مجرد «بقايا بشر بدون أظافر، يلهثون وراء لقمة يومهم يحلمون ـ بيأس وافرـ بأىّ بلدٍ يَقْبَل أن يُرَحَّلُوا إليه ولو فى جزر الكاريبى، أو عن جواز سفر بأىّ اسم كان» (ص، 155).
فيصير هذا المقهى بهذه الوظيفة التي منحها النص له فضاءً زمكانيًا، كنقطة اتّصال الخارج بالداخل، أو العكس وهي تلك الصِّفَات اللَّصِيقة بتاريخ المقهى منذ نشأته، وما أضفته عليه النُّظم الديكتاتورية مِن وظائف المراقبة والتجسُّس، إلى كونه «فاعلية كونيِّة» باصطلاح غاستون باشلار، تُحقّق التجمُّع واللَّقاء لأصحاب الهزائم والانتكاسات العربيَّة، وفي ذات الوقت يوحِّدُ مصائرهم بعدما فرَّقتهم أوطانهم، فيضحي مكانًا بديلاً للبحث عن حلول ووضع الخطط حول قضايا مصيرية، كنوعٍ مِن السُّخرية مِن تلك المنظمات الشَّكْلِيَّة (التي تنتهي جميعها بصفة العربيّة) والتي لم تحقِّقْ على مستوى الواقع حلاً لأي مُشْكلة سياسيَّة، بل زادت الأمور تعقيدًا، فقام المقهى بهذا الدور البديل، حتى غدا لديهم بمثابة الأوطان البديلة يوحِّد ويذيب الهُويّات، وفي ذات الوقت الملجأ برجاله وبائعات الهَوى بعدما أَوْصدت الأوطان الحقيقية الأبواب وبات أمرُ العودة إليها مجرد وَهْم آَل.
فحقَّ بهذا أن يكونَ المقهى كما وصفه السَّارد الغائب «سِرَّه داخله، يطوي غرامه في أعمدته أو أثدائه المزروعة في كُلِّ مكانٍ، شواهد حيّة، أو في سقفه الذي يدفن الحكايات في ثنايا تموجاته، منطوٍ على نفسه، يكاد لحظةً ينطق بكل الأسرار» (ص،103)، وفي حضور هؤلاء المنفيين وبفضل مُنَاضِلاته وغزواتهن، يكتسب المقهى دلالة جديدة، فيصبح حائط مبكى للبوح والفضفضة والرِّثَاء لماضٍ تليدٍ، وهو ما يجعل لحضور الذَّاكِرة قوَّة السِّحر للتَّشبُّث بالأمجاد والبُعْدِ عن الجنون، فتتوسّد بالاسترجاعات التي تعود إلى أزمنة قديمة حيث ميادين النِّضال والثوَّرة، فيجترُ المـَـنْفِيّ أوجاعه وعذاباته أو صليبه، ويلقيها على الجالس بجواره، هكذا حكى أبو شندي أحزانه وآلامه وموت زوجته بسيارة مفخَّخة كان هو المقصود بها.
وبالمثل أبو جعفر الفلسطيني المقيم في العراق حكى عن صدمته بسقوط صدام، وهروبه مِن العراق، وبالمثل شادي الشَّاعر السُّوري، يحكي عن رحلته في الجهاد وصولاً إلى خيانة زوجته الشاعرة بانضمامها للحزب الحاكم، وكذلك مجيد أو خميس السَّفير السَّابق وذكرياته عن أيام قيرغيزستان. ولهذا تكون الذَّاكِرة البديل لمقاومة الواقع المزري بعد ضياعها بسبب الخيانة والنذالة، فلم يبقَ لهم سوى صدى الذِّكْرَى، بعد أن أصبحَ حُلم العودة مشكوكًا فيه.
هكذا صار المقهى «براحًا واسعًا وحفاوةً بالجميع» (ص 10) كما أرادته صاحبته "درّة للّا" وتارةً «مقهى الأجانب» في إشارة لهؤلاء اللاجئين، وقد يتداخل المقهى مع المنفَى، ليكونا معا شيئًا واحدًا بمثابة السجن كما هو الحال عند أبي شندي فعلى حدِّ قوله «إسرائيل حبستني داخل مترين، واحدٌ في الدار وواحدٌ في المقهى» (ص 55)، وفي بعض لحظات الصَّفَاء «يحب المقهى بثوّاره القادمين مِنْ كُلّ البلادِ شاهرين أسلحتهم، بمجاهداته القادمات». وإنْ كان أدركَ في قرارة ذاته أنّه في حيرةٍ ولا يدري «لأي وطنٍ سيعود» (ص73) ومن ثم استكان له المقام فيه يجتر ذكرياته وأوجاعه.
الوطن بين صندوق الذكريات والمقبرة الإلكترونية
لإنعام إكجه جي ثلاث روايات هي «سواقي القلوب» 2005 و«الحفيدة الأمريكية» 2008، و«طشّاري» دار الجديد لبنان (2013) القائمة القصيرة للبوكر 2014، تدخل جميعها في تيمة أدب الشتات العراقي بعد التغريبة التي حدثت منذ النظام السابق، وزادت حدتها بعد حرب الخليج الثالثة، فتشتت الناس في المنافي، دون أن يفارقهم الوطن الأوّل، وإن كانت تخايلهم العودة إليه حتى ولو في صورة جثامين «لأنَّهم لا يريدون أن يدفنوا في غير بلدانهم».
في روايتها الثالثة "طشّاري"، لا تنفصل هذه التجربة عن كافة التجارب السّردية العراقية التي نشأت في ظل حرية المنفي، بتعبير سلّام إبراهيم في تصويرها المآل العراقي والخراب الذي حلّ عليها، وهو ما لخصته مفردة العنوان الدّالة على حالة الشتات فـ«تطشّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزَّع في الاتجاهات» (ص،90). وهو العنوان الذي يكون الرديف الحقيقيّ لوطن اسمه العراق أنهك أبناءه فصاروا مثل طشّاري البندقيّة في جميع البلدان، مطاردين بهاجس الهُوية والباسبورتات والهجرات الدائمة إلى بلاد لا يعرفون لغاتها، يعيشون فيه بأجسادهم أما قلوبهم وأرواحهم فمُعلّقة صوب الوطن الأصلاني.
تستعيد البطلة العمة وردية هذا الوطن وهي على أهبة الرحيل والاغتراب إلى كندا عند ابنتها التي تعمل هي الأخرى طبيبة، والمصادفة أن الابنة تقوم الدور ذاته الذي كانت تقوم به الأم في الديوانية بمساعدة المدمنين وغيرهم من الحالات الإنسانية، تستعيد البطلة صورته الأولى التي كانها عندما كانت طبيبة توليد تعمل في قرية صغيرة في الموصل ثم الديوانية وصولاً إلى بغداد، فترصد لنا بعين الحسرة والألم كيف عاشت، وهي الطبيبة وسط مجتمع تغلب عليه الذكورية، كواحدة مثلهم دون النظر لهويتها الدينية (المسيحية) أو الجنسانية (كونها امرأة) لا لشيء سوى أنهم «كانوا جميعًا أخوة وأحبابًا، وأبناء وطن واحد» (ص170).
وما أن حدثت التحوّلات وعلت الطائفية والحزبية والتناحر، بعد أن اُختطف من قبل المرتمين في أحضان المحتل مِمّن «لا يشبهون العراقيين، نهّابون وقطّاعو رؤوس وعملاء ... طائفيون يسألونك عن مذهبك قبل السَّلام عليكم» (ص، 68)، أدق وصف لهم أنَّهم كما ذكرت السّاردة «خطفوا الوطن وتركونا نُعلِّق مفاتيح بيوت أهالينا على جدران هجرتنا نحلم بجسر العودة» (ص 68).
إذا كانت الدكتورة وردية لجأت في استعادتها للوطن إلى صندوق الذكريات، حيث تعود بذاكرتها وهي في باريس إلى الأماكن الأولى التي عملت فيها منذ أن تخرجت في كلية الطب كطبيبة توليد، وتعرُّفها بزوجها جرجس المناضل القادم من الحرب في فلسطين إلى أن يتحوّل الوطن إلى حُلم، حتى لو كان حُلم الموت في أرضه. أما الجيل الجديد الذي لم يعرفه، فلا يجد بديلاً إلى استدعائه عبر الفضاء الإلكتروني، كما فعل إسكندر في مقبرته الإلكترونية التي صارت أكثر تعبيرًا عن عراق اليوم الذي أشبه بالمقبرة، الفرق أن في هذه المقبرة يجتمع الأحباء معًا، أما في الواقع فالشتات هو قرينهم.
مَالَ السَّرد كنوعٍ من مقاومة أوجاع المنفى إلى سرد التفاصيل، فيتوقف عند حكايات إنسانيّة عن الدكتوره ورديّة في بداية عملها، وهو ما كرّرته ابنتها هنده في كندا، وهو ما كشف عن رحابة تقبُّل الآخر غير المسلم في الوقت ذاته في مقابل حالات الافتقاد التي يعاني منها المهاجرون أو المنفيون عندما يلتقون بذويهم في المحطات، أو حالات القهر المعنوي التي تعرَّضوا لها بسبب الباسبورتات وهم يقفون في الطوابير منتظرين مِنَّةَ البلد التي تطلبهم وهو ما شكّل فوبيا للجميع بالإضافة إلى عرض تنامي التيارات السّياسيّة، وما وصلت إليه مِن إقصاء الطرف المقابل.
لا تقصرُ السَّاردة الشَّتات على أسرتها وأسرة عمتها وردية وتوزعهم في أصقاع الأرض، بل توزِّع المأساة على كثيرين كالتونسية أم كلثوم صديقة ابنها إسكندر، فعندما مات زوجها باعت كل أشيائها، ثمّ أصرَّت على دفنه في تونس، وكأنها تهرب من قسوة المــنافِي؛ لتجعل مِن الشَّتات قضية عامة لا تحتكرها على وطنها العراق وإن كان عانى العراقيون منها على وجه الخصوص.
الوطن الندبة... الوطن المقبرة
في رواية جنى الحسن «طابق 99»، الصّادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف 2014، تُصدِّر المؤلفة مرويتها بمقولة جيمس بالدوين «ربما ليس الوطن مكانًا ولكن شرطًا لا يمكن إنكاره» المقولة تكاد تكون مفتاحًا لشخصيات النص الذين يبحثون عن هذا الوطن الذي يُضاهي في مكانته الأم، أو ينحصر في «تلك المساحة الصغيرة التي تسميها منزلك»، أو هو «ما يحفظ لك كرامتك وسيادتك»، وقد يحوي هذه المفاهيم جميعها حيث يكون «الوطن هو مساحتك وحريتك» (ص، 104). ومع أنه ماثل في ذاكرتهم إلا أنهم فقدوه بسبب الحرب والعدو؛ حيث «تهدم الحرب والمآسي فكرة الوطن أما الاحتلال يُغذّي حُبّه» 168 وهما معًا قضيا على آمال الأسرة في الاستقرار بتدمير منازلهم وتشتيتهم في المخيمات وصولاً إلى المنفَى كنجاة من أطلال الماضي، فسَعَى "مجد" لأن يكون فلسطينيًا مختلفًا «وينسى للحظات ما هو الوطن، الذي لم يكن يومًا فيه» (ص، 72) مع إنّه في الوقت ذاته احتفظ بهذه الندبة في وجهه دون أن يجري لها عملية تجميل، كدليل للانتساب لهذا الوطن، أو وسيلته للقول «أنا من هناك» كشهادة هُوية، أما «هيلدا» فقد هربت من أن تكون طفلة أبيها المدلّلة، التي لا تكبر.
وما أن وصلا هناك حتى يتغيّر الإحساس بالوطن، فهيلدا التي كانت تُمنِّي نفسها بأن وصولها سينكأ جراحها فيحدث لها العكس، حتى "بدا كل شيء غريبًا، كل الصور التي استعدتها كانت الإيجابية التي تربطني بهذا المكان، كأنّ البعد عنه ضرورة لإعادة اكتشافه، شعرت ُكأني أقوى من المكان، كأني لم أعدّ تلك الفتاة الضعيفة التي هجرته، "صرنا كأننا متساويان، الند للند" (ص، 46) كما تقول، وهذا المعنى يتماثل مع مقولة محمد ديب «في الترحال نكتشف ذواتنا أكثر» فكلّ شيء تغيّر حسبما قالت لمجد الذي كان هو الآخر يعاني من مشكلة لم يتجاوزها في بلاد الغربة مع النجاحات التي حقّقها في كيفية التصالح مع شعوره بالانسلاخ عن أرض تسكنه ولم يعش فيها أبدًا.
عندما حدث اللقاء بينهما كان الاثنان على طرفي النقيض، هيلدا تريد العودة إلى الوطن / بيروت الذي هربت منه من قبل، وقد صارت تتوق للعودة إليه خاصّة بعد صراعها المستمر بين الهنا والهناك، فهي تريد أن تواجه المكان بعد شعورها بالغربة؛ لتتمكن مِن أنْ تفهم أين تقف الآن، أما هو (مجد) فكان يقاوم العودة ويحاول أن يمحو الماضي من ذاكرته أو على حد قوله "أن أنسى هُويتي وبلادي التي لم أعرفها، وأن أنكر على نفسي أي انتماء لأي بقعة حغرافية كانت" وفي ظل هذا الصراع الداخلي كان يخال بأن احتلاله هذا الطابق 99 في مبنى "إمباير ستايت" العالي، يجعله «الهارب الأبدي إلى العظمة»، وأحياناً يتوهم نسيان الماضي أو تناسيه، وما أن ظهرت هليدا في حياته، حتى «تغيَّر كلّ شيءٍ، وكأنها وبكثير من الحبّ، كسرت كل تلك القشور (وتركته) عاريًا في غرفة تملؤها المرايا» (ص 26) وهو الذي كان نَسي أشياء كثيرة مثل "أسواق صبرا وشاتيلا ورائحة عرق المارة، والمنازل الضيقة"، فتصبح هيلدا بعد اللقاء الخيط الذي يعود عبره الراوي إلى فلسطين وإلى المخيم وإلى الوجع الذي مازال أثره على وجهه وفي ساقه، بعد اقتحام المخيم، ليقدِّمَ لنا صورة إنسان ما بعد الحرب، الإنسان المهزوم.
هنا يغدو المنفَى الاختياري، سجنًا لا تفارقه شخصيات الرواية المنفصلة ذواتها والحائرة بين الهُنا والهناك، ومن ثمّ تقف الشخصيات في مراوحة بين ما كان وما هو ماثل الآن، حتى تغدو عين السّارد الأنا متوترةً وهي تسرد عن الزمنين معًا وتمزّق الشخصيات بينهما: ماضيها المؤلم والمليء بالذكريات، وحاضرها الذي لم ينفصل عن هذا الماضي بالحنين له، فتقف في مواجهات مع الماضي وتستعيده بالذاكرة المكتظة بالندوب التي لاتقل وجعًا وألما عن ندوب الحرب التي أحدثتها في الأجساد والأرواح المشروخة. ومع أن هيلدا تستطيع العودة إلى وطنها خلافًا للكثيرين، لكن ما أن تنبش بأسئلتها الماضي لإعادة اكتشاف تفاصيله، حتى تفجع من الحقيقة الصادمة، فتقرّر بعد لحظة التعرية العودة إلى نيويورك مرّة ثانية، ولكنها هذه المرة عودة المهزومة، وقد صار الوطن لديها «أشبه بمقبرة جماعية طمرها الجميع وبنوا بيوتهم فوقها» (ص32)، أما هو فظل حالمــًا بالعودة كتحقيق لحُلم أبيه للعودة إلى "كفر ياسيف".
المنفَى الملاذ والملجأ
كان لحالة النفي الإجباري بسبب الحروب التي اضّطر إليها الكثيرون، دافعًا لأن تتغير صورة الوطن، فلم تعد الأوطان البديلة هي الفردوس المفقود التي يبحث عنها الإنسان المطرود أو المنفِي، بل صارت الأوطان البديلة ملاذًا اضطراريًّا هي الأخرى، وهي واحدة من المفارقات الغريبة بعد صعود تيارات الإسلام المتشدّد، فلم يعد الغرب كما ذكرت أدبيات أدب ما بعد الاستعمار بأنه المحرِّض على نهب خيرات ومقدرات الشرق أو حتى أنه أشبه بـ "جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل ....جرثومة مرض فتّاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام" (الرواية: ص 117) كما صوّر الطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال"، حيث قاد بطله مصطفى سعيد في رحلة انتصاف لهذه الإمبريالية الغربية بعدما أن تعلَّم لغتهم وإن كان نصب خيامه وأوتاده على أجساد النساء، وهو ما تأكّد في تلك الصيحة التي دوّت في المحكمة أثناء محاكمة مصطفى سعيد بعد قتله جين موريس " فصاح في المحكمة "أنني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السُّم الذي حقنتم به شرايين التاريخ، أنا لست عطيلا. عطيل كان أكذوبة" (الرواية: ص 117).
بين لحظة وضحاها صار المتأمر والقاتل كما تخيّله مصطفى سعيد، هو طوق النجاة والملاذ الآمن بعدما اشتعلت منطقة الشرق الأوسط خاصّة المنطقة العربية، فتبدّلت المواقع، فجاء الدعم كله من هذا الكافر كما وسمته الإيديولوجيّا الدينيّة في صراعهما المرير منذ حرب أفغانستان. وهذا التبدّل في مفاهيم الغرب لدى الشرقيّ الذي يُنسب له في كثير من الأحيان أنه السبب في المؤامرات التي تحاك بليل للبلاد العربية، صاحب تغير في هذه التمثلات كما عبرت عنه المرويات السردية.
في رواية العراقي على بدر «الكافرة» يقدّم لنا تغريبة جديدة، تجعل ذكرى الأوطان مضبّبة، ومشوبة بذكريات العنف والاغتصاب والإرهاب. الرواية تعيد صياغة صراعية العلاقة بين الشرق والغرب من جديد وفق المستجدات التي بدلّت المواقع، كما تجلّت في أدبيات سابقة، إلى صورة جديدة تنفي هذه الصراعيّة وتجعل من الغرب حاضنًا وملاذًا آمنًا للهاربين من ويلات الشرق الذي سخر أدريان من «الكتب التي تعد الشرق هو الجنة التي أضاعها الإنسان الأوروبي»، لأنه أدرك «أن هذا الشرق البعيد والمشمس هو سبب نكبته وحزنه» لذا يراه «قد فقد براءته وعذريته ونبله إنه امتداد للعصور المظلمة للعصور الوسطى بحروبها الدموية».
يُقدِّم المؤلِّف لبطلته فاطمة التي ستصبح صوفي كل أسباب الهجرة أو التغريبة بمعناها الأدق، فتقول في منولوج تستهل به السرد هكذا: «أنا هُنا، قادمة من بلاد الحروب التي لا تنتهي من الأرض الملعونة، من خضم أحداث القتل الغامضة، من عالم الشعوذة، من خنق الزوجات، وقتل الصبابا، وسائر الوقائع التي تدور، في إطار مرعب من بلاد فيها مقدار كبير من الأسى مقدار كبير من المرح». حالة القمع والاغتيال المعنوي والانتهاك التي تعرضت لها فاطمة وجسدها، جعلها تتمرد على هذا الوقاع إلى درجة التنكر لهويتها العربية، العجيب أن أدريان شاركها هذا التنكّر أيضًا.
تتخذ الراوية التي تجتر ماضيها وهي جالسة بجوار أدريان الملفوف بالشاش الأبيض، فتحكي له عن حكايتها وما تعرضت له، لكن أقسى ما تحكيه وهو ما كان باعثًا للهروب من هذا الواقع هو التحولات التي حدثت لمدينتها بعد أن وصلها المتشددون، عن التحولات التي حدثتْ في المدينة مع وصول المتشدّدين وما رافقها من تحولات في جسدها، ثمّ علاقتها برياض وزواجها منه إلى صدمتها فيه عندما فضّل السبعين حورية عليها واستشهد، إلى طمع أصحابه فيها ثمّ هروبها وما عانته من اغتصاب في رحلة الهروب وتشرُّد بعد أن وصلتْ بلجيكا إلى أن التقتْ بالحبِّ الذي كانت تبحثُ عنه منذ زمنٍ طويلٍ في صورة أدريان.
في مقابل حكاية فاطمة كانت ثمّة حكاية أخرى مروية عبر الذاكرة، ولكن هذه المرة الذاكرة المدونة بالأوارق وبشريط الفيديو، وهي الأحداث التي جاءت بلسان راوٍ غائب يرصد علاقة أدريان بصوفي منذ أن التقيا في أوستنده شمال بلجيكا، ثم رحلة بحثها عن هذا الذي يشبهها في هروبه من ماضٍ يخشى مواجهته وبالفعل تكتشف أنه ينتمي إلى ذات البقعة من بلاد الشرق، وإن كان تنصّل من هويته مبكرًا، فوالده لبناني وقد شهد مذبحة قام بها مُتشدِّدون على الحيّ المسيحي لم ينجُ منها إلا أبوه، ثمّ انتقامه وتكرار المذبحة الطائفيّة حتى انتحاره تأنيبًا لهذه الطفلة التي طاردته، وهي الطفلة التي بحث عنها أدريان وتزوجها تكفيرًا لجريمة لم يرتكبها.
جرّاء هذا الماضي الأليم سعت إلى نزع هويتها وموجعًا فما أن وصلتْ إلى بلجيكا حتى شعرت «كأني لست أنا، إنما واحدة غيري» وهو ما جعلها «تبحث عن نفسها في الألوان السّاطعة، في الأقمشة اللامعة في الفترينات». الفارق الوحيد بينهما أن صوفي بقدر ما تُعلن جسدها للحميع نكاية بالأعراف التي كبّلتها في بلادها حتى أنها ما أن وطأت أقدامها بروكسل، كان أول شيء فعلته، أنها تعرفت على جسدها الذي طالما أخفته ووأدته تحت ثياب سوداء، لتكتشف أنه جميل وهو ما استغلته لتسقط وتغوي الآخرين نكاية في زوجها رياض. أما أدريان فهو على العكس تمامًا يوراي جسده في شقته البعيدة.
الغريب أن هذه الشخصيات التي لاذت بجنة الغرب، فشلت في التصالح مع ماضيها، كما لا يُخفى أنّ الواقع هَزَمَ جميع الشخصيات على اختلافها، حتى أن فاطمة التي كانت تحمل جينات التمرد عندما اعترضت على ارتداء النقاب أمام أبيها ودخل الحوار بينهما لمنطقة شائكة حول مسائل عقائدية متعلقة بطبيعة الإله وجنسه، وفي وقت لاحق فتحدّتْ هذه الجماعات وخرجت لملاقاة رياض، إلا أنها انكسرت وهي ترى أمها تشعر بالخوف من الرجال إلى أن ماتتْ، بل إن محاولتها للانتقام من أنانية زوجها بالنوم مع سبعين شخصًا جلبتهم إلى غرفتها من البار، كان بمثابة الهزيمة لأنها لم تستطعْ أنْ تتجاوزَ أثر الماضي رغم بعدها عنه.
يربط عبد الله إبراهيم ببن الاعتراف والهوية، سواء أكانت هوية فردية أم جماعية، حيث يقول: "لا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعية والثقافية التي يشتبك بها؛ ذلك أن أدبه يقوم بمهمة تمثيل تلك الحاضنة، وبيان موقعه فيها" الاعتراف كان هو وسيلة الساردة في سرد حكاياتها، وبمعنى أدق استرجاع ماضيها، وهنا يحدث التحوُّل، فالوطن الذي تستحضره البطلة صوفي ليس الوطن الذي شكل مركزًا مهمًا في كتابة المنفي، حيث الحنين إليه، وانشطار الإنسان بين حالة الحنين الهوسي إلى المكان الأول بتعبير عبد الله إبراهيم، وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه.
فمثلما تغيرت مفاهيم المنفَى بما تحملة في طياتها من عزلة وإبعاد، إلى مفاهيم جديدة وفق سياقات فُرضت على المنفيين، جعلت فكرة العودة إلى الوطن شبه مستحيلة، فلم يَعُد المكان الغريب أو الطارئ "الذي تتعذر فيه ممارسة الانتماء؛ لأنه مفتقر إلى العمق الحميم" إلى الملجأ والملاذ، أو حتى صار المنفي نفسه يشعر بالوحدة والاغتراب، ففيه صارت الذاكرة تتنكر لهويتها القديمة، وتسعى إلى فقد انتمائها كما حدث مع صوفي، وأدريان، كما أن ثنائية الرفعة والدونية، التي شكّلت هي الأخرى عاملاً مميزًا في سرديات المنفى تلاشت هي الأخرى ولم يعد لمثل هذه المقارنات حضور في ظل ما حقّقه الواقع الجديد من ملاذ آمن، واستعادة للهُوية المَسلوبة في الأوطان، حالة التوافق والتكيف كانت نتاجًا طبيعيًّا للتحولات التي حلت على الواقع، وهو ما مثلته المروية العربية بجدارة فلم تعد صورة المنفِيّ في المرويات الجديدة "ينظر إلى العالم أجمع باعتباره أرضًا غريبة".
ـ 4 ـ
كانت الذّاكِرة هي الفعلُ الحقيقيّ أو البطل للاستعادة، فالمنفِيّ "مقتلع من الوطن ومستقرٌ في الأزمنة الماضية، وهذا بدوره يؤدي إلى تطوّر في بنى ذهنية بعينها، وفي طرائق محاولة عبور المسافة وتجاوزها، فالمنفِيّ ذات لنوبة من النوستالجيا تكون فيها ذكريات الماضي أخصب من الحاضر الفْعلي. إن ضياع [أو خُسران] البيت يخلف الرغبة في استعادته، من خلال العودة أو التذكّر.
فالبيت يصبح أكثر قيمة من كونه مفقودًا وأعلى قيمة من خلال تملك المفقود إلى الأبد"، ومن ثم كانت بنية السرد في هذه المرويات تعود إلى أزمنة ماضية بعضها سحيق كنوع من الائتناس إلى ماضٍ مزهر كما هو في مروية باب الليل فالراوي يعود إلى زمن «أبو جعفر المنصور» الخليفة العباسي في القرن الثاني الهجري بانتصاراته، عبر استحضار اسمه واستبداله بالمهزوم بعد ضياع العراق لوصف أبي جعفر الثائر العراقي، إضافة إلى أزمنة تذكر بسبب محنة الشخصيات واضطرارها إلى المنفى، فتتردَّد داخل المتن الحكائي، أصداء زمانية تشير إلىٰ نهاية عصر بن عليّ، وقبلها زمن طرد الفلسطينين مِن لبنان إلىٰ تونس عام 1982، ثمّ اتفاقية الخيبة لا العودة (إن جاز الوصف) دون الموضوعة أسمائهم علىٰ قوائم الإبعاد الإسرائيلي، فضلاً عن وحدة مفردة العنوان «اللّيل» التي تشي بالظلام والسَّرمدية.
إلا أنَّ الملاحظ أن ثمة أزمنة متعرجة تركز على الهزائم السياسية الكبرى، وأهمها هزيمة 67 التي داست على أحلام شادي، وهو ما كان له أثره في إجهاض كافة أحلام الشَّخصيات التي تتنظر زمنها القادم أو بمعنى أدق غده / ربيعها، بما فيها الرئيس الذي يقرُّ الجميع بلا غضاضة أن مكانه ومقعده محجوزان إلىٰ القرن الحادي والعشرين، فيحل خريفه بربيع مُضبّب لم تنقشع غمامته بعد، دون أن يخوض في أحداث الثوَّرة، وإن كان ثمَّة تحقّقات لأسباب الثورة بين ثنايا السَّرد ماثلة في صورة الهجرة إلىٰ الشَّاطئ الآخر، والحلم بالثراء، بلا تفاصيل أو إسهابات.
في رواية «الكافرة» كانت الذاكرة بمثابة الوطن الذي تريد أن تهرب منه الشخصيات، وتتخلص من أوجاعها، فكان التداعي الحر، وما تطلبه من المراوحة بين زمنية الحاضر حيث مكان اللجوء، والماضي موطن (أو سبب) الهروب. فالساردة معنية بسرد الحكاية على مروي عليه وإن كان في الحقيقية لا يسمع. وهذه الوقائع (أو المآسي) التي تسردها بطلة الرواية عبر التداعيات أشبه بسجل دامٍ وَمُبرِّر للهجرة التي لجأت إليها، وكذلك ما أقدمت عليه من نزع هويتها القديمة؛ هروبًا من الحرب ومن الواقع الذي استجدّ بعد تمدُّد التيارات الإسلامية المتشدّدة؛ فتأتي حكاية صوفي عن فاطمة، في نوع من التغريب للذات القديمة الملتصقة بماض هي تسعى للتبرؤ منه بهذا الحكي، عبر تقسيمات أشبه باليوميات تبدأ من يوم 20 تموز وصولاً إلى 28 تموز، وهذه اليوميات التي ترويها صوفي بصيغة المتكلِّم لمخاطب / أدريان وهو«ملفوف بالشاش ويتنفس ببطء من خلال كمامة الأوكسجين» تأتي كنوعٍ من الهروب مِن هذا الواقع «بتذكّر أشياء وقعت في حياتها في الماضي وعبر استعادة طفولتها الحزينة»، حيث ثمّة إحساس راودها بأنها ضائعة ومبعدة مهجورة ولتتفادي هذا الإحساس أخذت تجلس إلى جواره بالقرب منه وتحكي وكأنه يستمع إليها، وهي ذات التقنية التي استخدمتها الكاتبة إيزابيل الليندي في مرويتها «باولا» بعد أن وقعت ابنتها في غيبوبة لمدة 7 أشهر.
فتعود فاطمة عبر هذا الحكي للمروي له، إلى ماضيها البعيد زمانيًا ومكانيًا وماضي أبيها وأمها وعلاقتها المتوترة بأبيها حتى مقتله، ثم زواجها من راضي إلى موتها بعدما فشلت في أن تعثر على أحلامها البسيطة منذ أن كانت شابه في أن تتزوج من «رجل محترم له وظيفة معروفة وعادات حميدة ويسار كافٍ لإعالتها» كما تحكي عن التحولات التي حدثتْ في المدينة مع وصول المتشدّدين وما رافقها من تحولات في جسدها، ثمّ علاقتها برياض وزواجها منه إلى صدمتها فيه عندما فضّل السبعين حورية عليها واستشهد، إلى طمع أصحابه فيها ثمّ هروبها وما عانته من اغتصاب في رحلة الهروب وتشرُّد بعد أن وصلتْ بلجيكا إلى أن التقتْ بالحبِّ الذي كانت تبحثُ عنه منذ زمنٍ طويلٍ في صورة أدريان.
في مقابل حكاية فاطمة كانت ثمّة حكاية أخرى مروية عبر الذاكرة ولكن هذه المرة الذاكرة المدونة بالأوارق وبشريط الفيديو، وهي الأحداث التي جاءت بلسان راوٍ غائب يرصد علاقة أدريان بصوفي منذ أن التقيا في أوستنده شمال بلجيكا، ثم رحلة بحثها عن هذا الذي يشبهها في هروبه من ماضٍ يخشى مواجهته وبالفعل تكتشف أنه ينتمي إلى ذات البقعة من بلاد الشرق، وإن كان تنصّل من هويته مبكرًا فوالده لبناني وقد شهد مذبحة قام بها مُتشدِّدون على الحيّ المسيحي لم ينجُ منها إلا أبوه، ثمّ انتقامه وتكرار المذبحة الطائفيّة حتى انتحاره تأنيبًا لهذه الطفلة التي طاردته، وهي الطفلة التي بحث عنها أدريان وتزوجها تكفيرًا لجريمة لم يرتكبها.
في رواية «طابق 99» لجنى الحسن، كانت العودة ضرروية للبطلة من جديد، ومع الأسف ليس للوطن الأم (وطن النَفْي)، بل إلى نيويورك / الوطن البديل (المنْفَى)، وهو ما يؤكّد أن الأوطان البديلة لم تعد مكانًا بديلًا مؤقتًا مرهونًا بتحقق شرائط العودة إليه من جديد، كما كانت في المرويات قبل الألفية الثالثة (لنا أن نتأمل افتتاحية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح: «عدت إلى وطني يا سادتي»).
وقد عمدت المؤلفة على تأكيد اللاعودة عبر توزيع نصها على عنوانين رئيسيْن: الجبل في جنوب لبنان 1982، ونيويورك 2000، والعنوانان يشيران إلى زمانين ومكانين متباينين ومن ثم فالسرد قائم على المراوحة بينهما؛ فالراوي الأنا الذي يعود على مجد على يعمد إلى هذه المراوحة بين الزمنين الماضي والحاضر، وفي بعضها أوغل إلى الماضي إلى جذور المأساة التي بدأت قبل قدوم اليهود أثناء الانتداب البريطاني عبر حكاية الأب التي تعود إلى ما قبل النكبة إلى عام 1939 يوم أن أحرق الجنود البريطانيون القري بسبب مقتل اثنين من جنودهما، كما يميل في بعض من أجزائه إلى التسجيل، وهو يرصد لمعاناة الفلسطينين في المهجر والذل الذي ذاقوه ممن يفترض أنهم عرب مثلهم، حتى أنه يخاله يفوق حقد الإسرائيليين، ويرصد لحالة الكراهية التي كانت تبث للفلسطيين وأنهم السبب في الحرب والخراب الذي طال لبنان، أو الخوف من المصير البائس ورفض إنجاب الأبناء، أو من قبيل أن تولد في ملجأ أو مخيم وترى الجميع ينظر إليك بشفقة أو اشمئزاز، وأن تعتبرك الأغلبية عبئا وأن تتتظر المساعدات الدولية وهبات الأونروا.
ويسيطر السرد الاستعادي عبر الشخصيات التي تروي المأساة باعتبارها وسيطًا على نحو ما يرويه الجار أبو حسَّان عن صور الحرب المُؤْلمة وحالة الانتقام البشع التي قامت بها الميلشيات. وقد يقوم الراوي الغائب بالسرد في كثير من الأحيان كما يفعل عن هيلدا وعن إيفا وعن ماريان وعن مايك، وفي بعض الأحيان يترك لهم السرد بالأنا كنوع من البوح، وقد يتداخل الأنا مع الأنت، وفي بعضها نجد خطاب الأنا لنفسها.
كل هذا جاء عبر لغة تميل إلى الغنائية في عرضها للمآسي، وشعرية في إبراز جوانب الحبِّ بين مجد وهيلدا، وقاسية في خطابات هيلدا مع عمها وكأنّها أشبه بالمحاكمات. وهي بهذا تعمد المؤلفة إلى بناء عالم مُتعِّدد الأصوات كما هو عند ميخائيل باختين، من خلال تعددية الرواة والمُخاطبين، وإيجاد تداخلات زمانية ومكانية.
في رواية «باب الليل» لوحيد الطويلة، يتخذ المنفيون من جنسيات مختلفة المقهى بديلاً عن الأوطان المفقودة (العراق / فلسطين / سوريا) حسب الشخصيات (أبو شندي / أبو جعفر/ شادي)، فهم أدركوا الحقيقة كما تجلت على لسان أبو شندي بعد حيرةٍ بأنه لا يدري «لأي وطنٍ سيعود» (ص73)، وهو ما يشترك فيه جميع الشخصيات، ومثلما استكان للمقهي يجترُّ ذكرياته وأوجاعه. يتكرّر هذا الفعل مع المنفيين الذين يجلسون عليه، فصار لهم المقهى بمثابة حائط مبكىٰ للبوح والفضفضة والرِّثَاء لماضٍ تليدٍ ولىّ، وهو ما يجعل لحضور الذَّاكِرة قوَّة السِّحر للتَّشبُّث بالأمجاد والبُعْدِ عن الجنون، فتتوسّد بالاسترجاعات التي تعود إلى أزمنة قديمة حيث ميادين النِّضال والثوَّرة، فيجترُ المَنْفِيّ أوجاعه وعذاباته أو صليببه، ويلقيها على الجالس بجواره، هكذا حكى أبو شندي أحزانه وآلامه وموت زوجته بسيارة مفخَّخة كان هو المقصود بها، وبالمثل أبو جعفر الفسطيني العائش في العراق حكىٰ عن صدمته بسقوط صدام، وهروبه مِن العراق، وبالمثل شادي الشَّاعر السُّوري، يحكي عن رحلته في الجهاد وصولاً إلى خيانة زوجته الشاعرة بانضامها للحزب الحاكم، وكذلك مجيد أو خميس السَّفير السَّابق وذكرياته عن أيام قيرغيزستان. ولهذا تكون الذَّاكِرة البديل لمقاومة الواقع المزري بعد ضياعها بسبب الخيانة والنذالة، فلم يبقَ لهم سوى صدى الذِّكْرَى، بعد أن أصبحَ حُلم العودة مشكوكًا فيه.
***
أبرزت هذه المرويات وهي تتكئ على الزمكانية في استرجاعها الماضي / الوطن المفقود، حيث ارتباط الزمان بالمكان في تعاضد لا يوجد له مثيل سوى في سرديات المنفى، فعندئذ على حدّ تعبير محمد الشحات يعدُّ «الزمان هو تاريخ الوطن، والمكان هو جغرافيا البيت القديم»؛ فتكشف هذه الزمكانية صورًا عِدَّة للأوطان في مُخيِّلة المنْفِيّين (وكذلك المغتربين)؛ ما بين الوطن المُلتبس بصورة الحبيبة (مرسى فاطمة) أو الوطن المقهى (باب الليل) إلى الوطن المقبرة (الالكترونية والحقيقية) (طشاري، وطابق 99).
وهذه التحولات تكشف عن فداحة المأساة التي لحقت وحاقت بالأوطان من جرّاء ما ألمّ بها من استعمار خارجي وداخلي سعيَّا إلى تغريبها، وإن كان انتهى إلى تدميرها، ولم تبقَ منها إلا بقايا رَسْم دَارِس في الذاكره، التي جاهدتْ كثيرًا لاستعادتها واستعادة الهُوية المصاحِبَة لها، لكن يبقى السّؤال معلقًا بلا إجابة، على رغم المرويات التي تتطرقت للإشكالية: هل صارتِ الأوطان الحقيقية مجرد حُلم لا يتحقّق وجودها إلا بالسّرد؟! أو هل استطاعت الأوطان البديلة أن تُحقِّق الوجود والهُوية لهذه الذّوات القلقة التي ظَلّت هُويتها مُعَلَّقة هناك؟! قد تغدو فكرة التحقّق مراوغة سردية تقاوم فكرة الذوبان وانمحاء هذه الأوطان لذا كان السَّرد طرفًا في هذه اللُّعبة والذي يستعيد مواطن الطفولة وهو ما يمنحُ إمكانية التعايش مع هذه الأوطان البديلة التي أجبروا عليها.