هاوية الحاضر وميض الأمل

كيف يمكن لمن قضى أربعة عقود ونيف من حياته بعيدا عن مسقط الرأس أن يختصر فكرة المنفى؟ سأردد مع ميليا غروس الجداري [1] مقولته القديمة: “أنا أنتمي إلى قرية صغيرة اسمها الأرض.”
لا أملك هجائية أو عداء مع المنفى أو مع المهجر، مهما ابتعدت أو اقتربت جغرافية وجودنا عن البيت الأول والسرير الأول والنافذة الأولى في الوطن المفقود. على العكس من ذلك أشعر على الدوام بأنني، حتى وأنا أجبر على ترك الوطن، اخترت ما أنا فيه وما أنا عليه، واخترت طريقتي في التعبير عن المسافة ومعها الفجوة بين واقعي الحالي في المنفى، وبين موطني الأصلي الذي أبصرت فيه النور.
لذلك شعري معلق في المسافة الوجودية الزائغة بين الهنا والهناك. وقصيدتي تراوغ الفجوة بين زمنين ومكانين وتصنع زمنها.”أنام في جزيرة.. وأستيقظ في جزيرة،” و”جسدي في فراش وصرختي في فراش،” ثمة انشقاق لا خلاص منه ولا علاج له إلا في القصيدة بوصفها أرض المعركة وزمنها المجازي.
والحقيقة الأقوى من كل حقيقة أننا نحن البشر في لعبة الزمن مجرد أطياف ساكنة في كوكب جميل هو الأرض لا يزيد حجم ذرة سابحة في فضاء ووجود سحيقين.
ورغم الآلام والعذابات التي يتسبب بها البشر لأنفسهم جراء الحروب والمجازر المهولة، والحراك البشري العابر للجغرافيات هربا من القمع والموت، علينا أن نفكر بوعي يتجاوز اختلاف الجنس والعرق واللون وسائر الانتماءات التي يعبّر الناس من خلالها عن تمايز وجودهم وهوياتهم وثقافاتهم.
أرى أن التعبير عن الذات، والجماعات عن نفسها لا ينبغي له أن يفكك الأواصر المشتركة بين البشر، ولا أن يطفئ شعلة الأمل ويحطم الجسور التي تصنع اللقاء الإنساني. هنا لا بد من الشعر، فهو الصوت الأعمق والأشجع للضمير الإنساني في مواجهة القتلة والدكتاتوريين ولصوص الأعمار.
إن عمل الشاعر في المنفى هو الانحياز الكامل لمعركة الحرية من خلال التعبير بابتكار جمالي عن قيم الحرية والحب والحق والجمال التي فطر عليها البشر في مواجهة ثقافة الموت التي فتحت أسواقها ومسالخها للمطالبين بالحرية وحوّلتهم إلى لاجئين يتدفقون على معابر الحدود والأسلاك الشائكة، وقادتهم إلى الغرق في البحار تحت سمع وبصر منظومة السوق المتوحشة ورذائل سياسات التمييز العنصري المقنّعة بقوانين العولمة.
الشاعر ابن العالم وقصيدته صوت الأمل فوق كل الاعتبارات المحبطة للروح والعقل والخيال. وأخيراً أرى أن من الميوعة العاطفية أن يشكو الشاعر من المنفى باسم فكرة مستهلكة وركيكة اسمها الغربة، بينما الاغتراب الوجودي للإنسان المعاصر هو الحقيقة الأكثر إيلاماً في وجود الإنسان. فالغزاة والبرابرة في شعري لا يأتون دائما من خارج المدينة، ولكنهم يولدون في المدينة أيضاً ويحتلونها من الداخل. إنهم الدكتاتوريون.
شعر المنفى
في المنفى تكتب القصيدة ممزوجة بالتساؤلات الوجودية للإنسان والدلالات الرمزية المرتبطة غالبا بالأسطورة والتاريخ. وهذا ما يميّز رؤيتي الشعرية وهو ما يطرح السؤال حول علاقة الشعر بمجمل منظومة المعرفة.
وهو ما يحيل على فكرة ثقافة الشاعر والمصادر التي يتشكل منها النسيج المعرفي الذي تتأسس عليه قصيدته. من منظوري الشخصي أرى أن الشاعر في التاريخ الحديث لم يعد مجرد عازف ربابة بوتر واحد، ولكنه أقرب إلى أن يكون قائد أوركسترا وقصيدته سيمفونية تتداخل فيها الأصوات والأقنعة والخيالات، وهو ما يعكس تعقيد الحياة الحديثة وثراء التجربة الإنسانية، وكونية الإنسان. انتهت صورة الشاعر شاعرا زجالاً في قرية نائية.
وعلى رغم الحدود الصارمة وسلطة الأختام على جوازات السفر، فإن الشاعر، وخصوصا الشاعر في المنفى هو هادم تلك الحدود وقصيدته جناح التوق إلى الحرية، وحديقة الجمال المعلقة في العالم.
الشعر يحرس القيم الكبرى، وهو بهذا المعنى أممي النزعة مهما نأى الشاعر في أرض فالكوكب كله أرض متصلة وقصيدته مسرح للنشيد الإنساني، بمباهجه ومآسيه وأساطيره وتواريخه وأمنياته.
لا يستقيم اليوم إنتاج قصيدة حديثه من دون تأملات الفكر مقرونة بالحواس العميقة التي تستشعر كل نأمة في الوجود الباعث على الجمال والحق والحرية، في لغة نضرة ونزوع جمالي مبتكر.
الشعر عندي يتخلق مرتبطاً بالعديد من المصادر المعرفية ويتموج في مسارب الميثولوجيا والتاريخ وصور الحاضر، يمكنك تلمس هذا في مكونات القصيدة وتضاعيف السرد والإنشاد.
لا مناص من أن يكون الشاعر صاحب ثقافة موسوعية، وليس عليه أن يكون أقل من ذلك، لينجو بقصيدته من الضآلة وضيق الأفق، ويمكنه أن يحيط في شعره باتساع الوجود وثراء التجربة الإنسانية.
فكرة المكان
كل الأمكنة آسرة بعمرانها وبشرها وتواريخها، بتكوينها وجماليات هذا التكوين، وبعوالمها الخفية وأسرارها الدفينة، والشعراء هم الأقدر على خوض مغامرة السفر في الأمكنة والولع بأسرارها إلى حدود لا نهاية لها. إنما ما من حرية كبرى للشاعر إلا في قصيدته. ولطالما كانت رحلات الشعراء عبر العالم مصدرًا ثريًا من مصادر المعرفة والإلهام. بل يمكن الجزم أن ما من شاعر إلى أي ثقافة انتمى إلا وكان السفر جزءًا من وجوده الشعري.. وإذا كانت الطبيعة والوجود الطبيعي أساسيان في الإلهام الشعري لدى قدامى الشعراء، فإن المدينة بالنسبة إلى شعراء الأزمنة الحديثة تشكل قِبلة أنظارهم وموئلا للحركات والتيارات والعلاقات بين الشعراء. والشاعر في المنفى هو شاعر في مدينة.
فكرة العودة وفكرة الغد
بعد عقود من ألم الفقد، أنّى توجّهت أحمل دمشق، كما يحملها لاجئ نجا للتو من قبضة الطغيان، تزورني في مناماتي فأحتمل شظف المنفى ولؤم الزمن. إنها مدينة كنوزي وأسراري الشخصية، وكذلك هي مدينة استثنائية في الحضارة والتاريخ. أما وقد سقط الدكتاتور الذي اعتقل المدينة وحطم حياة أهلها لنصف قرن، أما وقد سقط الأسد، فإنني اليوم وبعد أربعين عاما من المنفى أقف على مفترق طريق، وفي حقيبتي سؤالان: الأول: “سقط الأسد، ولكن ماذا عن الغابة؟” والسؤال الثاني: من سأكون غدا في العالم أكنت في لندن أم في دمشق وقد بات مفتوحا طريق العودة إلى البيت الأول، الذي نسمّيه ( الوطن) وقد ملّكني المنفى الكوكب بأسره ليكون وطني؟ (منفاي/ووطني)، (منفاي وطني). يا لهذه الفكرة المعذبة.. من سأكون غدا؟
هواجسي بصدد فكرة العودة لطالما كانت مقيمة في شعري. شعري لا يبتعد عن هذا المعنى، بل إنه يطلع من مرجل التجربة العصيبة لإنساننا المعاصر في صراعه الوجودي، إن في مواجهة القتلة والدكتاتوريين أو في مواجهة لغز الوجود الإنساني ومعركته مع الأسئلة الوجودية لحل هذا اللغز.
والسؤال الآن: هل يمكن أن نتحدث عن المستقبل بثقة مفرطة في وقت تقود العالم حفنة من الطغاة والمهووسين الراغبين في الهيمنة أكثر فأكثر ليس على أوطانهم وحسب ولكن على الكوكب بأكمله، بل ويجرّبون أن يمتد سلطانهم إلى كواكب أخرى؟
إن البعض من هؤلاء المهووسين يريد احتلال الزمن أيضا بتأبيد وجوده عبر السفر في ثلاجات ذكية، في وقت تخوض زبانية من الطغاة المشتغلين عند أرباب كونيين في دماء شعوب حُفرت لها قبور جماعية في جوار أسواق استهلاك جائعة امتصت أدمغتها ودماءها، ولم تترك لها سوى أجساد هزيلة، حصة باقية لمسالخ الموت إن في المعتقلات أو في أسرة مملة، سواء بسواء.
السؤال إذن لم يعد يختص بمستقبل الشعر والشاعر في المنفى والوطن، وفي حيز من العالم، بل بمستقبل الإنسان في الكوكب، وأكاد أقول مستقبل الوجود البشري.
هذه بعض أفكاري القلقة اليوم بإزاء فكرة (المنفى) و(العودة). تأملات في الشعر والمنفى والثورة السورية.
ماذا يمكن للشعر أن يفعل بإزاء وقائع مأساوية في الأوطان ينظرها شاعر من بعده البعيد في المنفى تعجز قواميس اللغات عن وصف أهوالها؟ ولكن ماذا يمكن لغير الشعر أن يفعل في وصف ما لا يوصف؟
ماذا يمكن للروح الإنسانية المصدومة بالأهوال أن تفعل بآلامها من دون سطر شعري يهزم ببلاغته المضادة بلاغة الجريمة ولسانها الشيطاني، ويمجّد الحياة في وجه وحش الموت؟
على هذه الخلفية الفادحة من الوقائع الأليمة التي حاقت بشعبي مقرونة بالقلق الوجودي في عالم اختلت فيه الموازين وساده التوحش كتبت شعري في المنفى وقد طالني زلزال الثورة العظيمة في منفاي وشقّق من تحت قدميّ ثلاثة عقود من أرض المنفى، وناداني إلى ذرى جديدة لأطلّ منها على شعبي مجددا بقلب خافق وروح متأججة، فكان أن أحيت الثورة على الطغيان الأمل في روحي من بعد يأس، وفجّرت في لغتي مكبوتاتها وآلامها، وجعلت لتلك المكبوتات والآلام صوراً وكلمات فصارت لها هيئة وكيان منظوران.
***
ثلاثون عاما مضت قبل ثورة شعبي المستمرة من سنة 2011، وأنا أمضي على طريق الرعد بحثا عن أصل العاصفة في دروب المنفى المزدوج، منفى اللغة التي لم تعد صالحة للتعبير عن رؤاي الشعرية الخارجة على الصيغ والتراكيب اللغوية التي استعملت وتهتكت ولم تعد موائمة لوجودي الشعري، ومنفى الوجود الجغرافي.
لطالما كان شعري ثورة على اللغة القديمة، وعلى التقاليد البالية، وعلى المصطلحات الآسرة التي أرادت أن تحتجز صورة الشعر العربي الحديث في إطار أحادي النزعة. وكذلك شعري ثورة على حداثة بطرياركية واهمة وموهمة هي ثمرة استسلام للرؤى والأفكار الغربية التي أنتجتها البورجوازية الأوروبية في صعودها الآسر على المنقلب بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
لطالما كان الشعر لي في منفاي نهر خيالات جامحة وحقل انفعالات ومرايا للحوار مع الذات والعالم، ودفقا لغويا وشعوريا يسابق بتلقائيته ووحشيته أنهار البراري في تدفقها التلقائي، ومن ثم جدد في إنصاتي لتلك الأصوات الغريبة التي تسرق النفس من إيقاعاتها اليومية إلى سعادتها الغريبة في تلقي نعمة الشعر وجدد انتباهاتي وحواسي استجابة لما يعتمل في النفس من صراع مع أعماقها، فهل يمكن للنهر الغريب في أرض غريبة أن يؤسر في فكرة، أو يمكن للخيال أن يتحول إلى صنم؟ الثورة حررتني من هواجس الموت في المنفى، وجددت شباب مخيلتي.
الثورة والشعر توأمان عاشقان يتقاسمان أرض المغامرة وسماء المخيلة.
رحلة البحث عن الخلاص من الاستبداد
ومن ثم فإن الكلمة السحرية هي: الحرية، حرية أن تكون ما أنت حتى لو كان في ذلك مصرعك. رحلة البحث عن الحرية امتدت بي من دمشق إلى بيروت إلى قبرص فلندن حيث أنا اليوم، وحيث لم أبرح أنادي في شعري العاصفة، تارة بهمس العاشق وأخرى بنزق الغاضب، وها أنا اليوم في قلب تلك العاصفة ومصيري الشخصي لم يعد شخصياً.
بعد ثلاثين عاما من المنفى والتخبط الروحي بين الأمل واليأس في انتظار العاصفة اشتعلت انتفاضة شعبي على الدكتاتورية العسكرية التي حكمت سوريا لخمسة وخمسين عاماً. أهوال الاستبداد صبت جحيمها على شعب تدافع أجمل أبنائه وأطعموا نار الحرية أجسادهم بكرم وبسالة أسطوريين، وضعني هذا، مرة واحدة، أمام تحديات كبرى، أولها كيف أواجه لغتي التي بها أكتب شعري، كيف أعاركها لأكتب ما لم أكتب من قبل. وأولا وأخيرا: كيف أكون هناك مع الثائرين. ووجدت الجواب: فلأرسل طائر القصيدة ليخفق بجناحيه في سماء بلادي ولأكن صوت هذه الثورة بشعر يليق بها. هكذا أبدّد المسافة بين الإقامة في المنفى وحلم العودة إلى الوطن وقد تحرر من الاستبداد.
السوريون جددوا، بأقدارهم الدامية شباب الميثولوجيا في نموذجها الملحمي، وتحولوا بجملتهم إلى شعب أسطوري، فبأيّ لغة سأكتب قصيدتي، إذن وليس لما يجري في وطني سابق إلا في أزمنة الملاحم القديمة؟ لم يعد بالإمكان وصف تجربتهم المعاصرة في الشعر بلغة تنتمي إلى الزمن النسبي ولكن بكتابة الملحمي.
في منطقة قصوى من لقاء الوعي المعاصر بالتراجيديا الإنسانية الضاربة في الزمن عثرت على السبيل الذي ستشقه قصيدتي عبر هدم الأزمنة بين الماضي الملحمي لشعوب المتوسط الذي تنتمي إليه سوريا والزمن التراجيدي السوري المعاصر الذي جعل من شعبي طرواديي العصر في قوارب الخروج الجماعي عبر البحر المتوسط.
وهو ما جعلني أتوصّل إلى خلاصة تسمح لي بأن أعيد اكتشاف نفسي بوصفي شاعرا متوسطيا يكتب بالعربية. المتوسط الذي دفن في أعماقه آلاف السوريين الهاربين من سوريا المحترقة.
معجزة الشعر
قصائد السنوات التي أعقبت خروجي من وطني الواقع في شرق البحر المتوسط، ومواجهة البحر واليابسة بوصفهما امتداداً للمنفى في المكان والزمان، واكتشافي بأن حياتي في أوروبا الغربية، لن تعود كما كانت، ولن تكون طبيعية أبداً، هذا الشعر جعل مني سارق نار، بروميثيوس متوسطي (نسبة إلى منطقة البحر المتوسط) وقصيدتي المشتعلة منفية ومعلقة على أخدود في الغرب. شعري يطلع من لحظة الأخدود الذي شقه طاغية دمشق الأب في قاسيون وعلق عليه المستقبل السوري وساعده أسياده في الغرب والشرق، ليخرج من صلب ذلك الدكتاتور ابن مسخ سرعان ما سيعلق الشعب السوري بأسره على ذلك الأخدود، لمجرد أنه تطلع نحو شعلة الحرية. تلك الشعلة هي ما يتوهج في قصيدتي.
في جوار الصمت المرعب لذلك الزمن الكالح الذي ساد في سبعينات القرن الماضي كتبت قصيدتي الحالمة بالحرية، ومذ ذاك لم أكف عن اعتبار الشاعر سارق نار وحامل شعلة.
في ذلك الغسق السوري، سأكتشف سبلا جديدة، كما فعل بولس الرسول ومعه بطرس، خرجا من دمشق بالرسالة، وخرجت من هناك بقصيدتي، نجوت بقصيدتي وبلعبتي مع الكلمات خارجا بها إلى أزمنة لامرئية، ومعي أبطال لا مرئيين، لأكتشف مرارا ولعي بأنني شخص قديم خارج من غابة قديمة ومعبد قديم ومدينة قديمة تتلألأ بالأنوار. ولا بد أن أحرس ذلك النور لئلا ينطفئ، نور الحرية، والعراقة، والجمال الذي لا يذوي وليقترن الشعر عندي أكثر فأكثر بالحكائي الملحمي، والقصيدة بالأسطورة، مادام الواقع العصري مبتذلاً ومتخاذلاً ومتهافتاً ودنيئاً إلى أبعد الحدود.
لو شئت أن تعتبر أن ثمة معجزة في العالم، فتلك المعجزة هي الشعر. لأنها أعطت خيالي لسان الشاعر وأعطت حياتي قدر الشاعر. ليكون بروميثيوس الذي تنهش العقبان صدره، وقصيدته هي جرحه النازف.
*****
[1] ولد في جدارا – سوريا الهيلنستية وتوفي في جزيرة كوس اليونانية – شاعر مجيد من القرن الأول قبل الميلاد.