هجرات الأدب
عبر التاريخ الثقافي كان ثمة على الدوام حيّزٌ محفوظ لأدب المنفى بتعبيراته المتنوعة والنوعيّة، من عصر إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى، ذاتية وجمعيّة. فأدب المنفى قديم في الآداب الإنسانية، ويتجلّى حضوره في ثيمات الاستبعاد والخروج والهجرة القسريّة، ويتخذ من لحظة النبذ والابتعاد القسري علامةً فاصلةً في تاريخ الفرد والجماعة، باعتبارها لحظة انتقالٍ نفسيٍّ-زمنيّ تتمّ من وإلى المكان المهجور إليه؛ ومن ثمّة، تنطوي على شرخ في سيرة الفرد مثلما في تاريخ الجماعة. وهذه اللحظة الانتقاليّة، بكل تجلّياتها وأشواقها الممكنة، كانت في معظمها تستدعي سؤال الكينونة ومعنى الوجود، في سياقِ لا يشي إلّا بالاغتراب والحنين والشعور بالانفصال. لكنّ حضوره اليوم قد طغى أكثر من ذي قبل، باعتبار “عبور الحدود” الرمزيّة والمادّية الذي يتصاعد، وتجارب الهجرات والآلام والمصائر المجهولة التي تترتّب عنه هجرةً أو نفيًا أو لجوءًا، حتّى أصبح ثيمة غالبة في عصرٍ قياميٍّ متحول.
لم يسلم الأدب العربي، عبر تاريخه الطويل، من تجربة المنفى الأدبي؛ فقد شعر الكثير من شعرائه وكتّابه بطعم الاغتراب والبعد عن الوطن، واشتاقوا إلى الأمكنة التي هجروها، لسبب قاهرٍ على الأرجح. تجسّدت معاناة هذه التجربة في صيغٍ كتابيّة متنوّعة، بدءأ من طلليّات الشاعر الجاهلي، ومرورًا بكتّاب وشعراء ذاقوا النفي حنظلًا وكتبوا عنه، ولعلّ أشهر هؤلاء أبوحيان التوحيدي ودعبل بن علي الخزاعي وأبوفراس الحمداني والمتنبي وأبوتمام وابن عبدالسلام الخشني وابن زيدون والمعتمد بن عباد، إلى أحمد شوقي وسامي البارودي وعلال الفاسي وطه حسين وتوفيق الحكيم في العصر الحديث. لكن يبقى المهجر اللبناني إلى أميركا أو “الأندلس الجديدة” بتعبيرهم، في الربع الأوّل من القرن العشرين، هو الأبرز في ذاكرة هذا الأدب.
أزمنة الهجرة والرماد
بوسعنا اليوم أن ننظر إلى المنفى، كما يرى منظّرو ما بعد الدراسات الاستعمارية، في اتّجاهين مختلفين: منفىً مفروض وآخر اختياري، مُميِّزين بين المنفى والاغتراب، فالأول مفروض، حيث لا يستطيع المنفيُّ العودة إلى وطنه الأم حتى لو رغب في ذلك، أما الثاني فهو اختياري نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه لأيّ سبب من الأسباب. ومن الصعب اليوم أنْ نضع تخطيطًا لمعنى المنفى ضمن هذه الظروف المعقَّدة من عمليات النزوح والشتات والاغتراب والاقتلاع والتشريد والنفي من جهة، ومن مسارات الرحيل الطوعي أو الهجرة بحثًا عن الحرية أو الرغبة في الرقيّ بأوضاع المعيش من جهة ثانية. لذلك، يحتفظ معنى المنفى بطبيعته المعقّدة، ويستوعب معنيي الهجرة والاغتراب معًا: الهجرة حين يجري السعي إلى المنفى وتفضيل الإقامة فيه اختياريًّا -خارج الوطن- والاغتراب حين يُنظر إليه بوصفه حالة من الشعور بالعزلة والإبعاد اضطراريًّا -داخل الوطن وخارجه في آن-. وبالنتيجة، من الصعب أيضًا أن نميّز بين الثلاثة، لأنّ هذا التمييز ليس دقيقًا كما يجب؛ فثمة تداخلٌ ومساحاتٌ رماديّةٌ تصل ما بين المنفى والاغتراب، ثمّ بين ذينك وبين الهجرة حالًا ومآلًا.
وفي هذه الحالات جميعها، يمثّل المنفى واقعًا انتقاليًّا يتمُّ بالقوّة أو بالفعل، عندما يعني الانتقال من الأليف والمعلوم إلى الغريب والمجهول، ويعني مواجهة الكائن الإنساني لمصيره في حضرة رعب الوجود وقسريّته، وبالتالي ننتقل في الحديث عن المنفى من كونه واقعًا مستجدًّا إلى كونه تجربة إشكالية تقذف بالذات المنفية والمُطارَدة في أتون أسئلة المصير والهويّة الملغزة.
للمنفى، إذن، أسماء كثيرة ووجهان، داخليّ وخارجيّ. داخلي هو غُرْبَة المرء عن مجتمعه وثقافته بسبب سلطة مستبدّة، فيصير داخل الوطن تعريفًا حادًّا للمنفى. وخارجيّ هو انفصال المرء عن مكانه الأول وعن جغرافيته العاطفية وفضائه المرجعي. وإذا كان الأوّل يجد متنفس مدلولاته في الاغتراب بما هو شرخ في كينونة الذات، فإنّ الثاني يستتبع واقع الهجرة إلى المكان الغريب حيث الانقطاع عن الفضاء المرجعيّ ما يولِّد لدى الذات الفردية رَقْصًا على الأجناب بين الـ”هنا” والـ”هناك” كما تعكسه كتاباتها وتعبّر عنه.
من مهجرٍ إلى آخر، كان الكُتّاب العرب يكابدون مختلف حالات النفي، القسرية منها والاختيارية. والاغتراب عن الوطن لا يعدو كونه إحدى هذه الحالات، بل ربما صحّ القول إنه في الغالب أهون هذه الحالات، أي أخفّها وطأةً. وبسبب من الأوضاع المعقّدة التي عاشتها مجتمعاتنا العربية، والتحدّيات المصيرية التي واجهتها سنين عددًا في الداخل والخارج، تعدّدتْ وتنوّعتْ مفاهيم “النفي” و”المنفى” لدى الكاتب العربي الذي وجد نفسه حائرًا بين الشكوى من المنفى وبين التغنّي به، ونَهْبًا بين منافيه الداخلية ومنافيه الخارجية. وقد شاع الكلام كثيرًا حول المنفى ومفاهيمه في الأدب العربي الحديث والمعاصر إلى أن أصبح دالّا عليه وعلى هويّاته المتحولة، بل عامل عافية بالنسبة إلى تجديده والتمرد على قوالبه وأشكاله باستمرار.
بيد أنّ “أدب المنفى” يثير إشكالين: أوّلًا، أنَّه ليس نوْعًا أدبيًّا بالمعني الدقيق، بقدر ما هو أدبٌ موضوعاتيّ يلازمه حدثٌ مهمٌّ ألا وهو النفي، سواء كان إجباريًّا أو اختياريًّا. ويغطّي أدب المنفى كل الأجناس الأدبية المعروفة من شعر ورواية وقصة قصيرة وملحمة ومسرحية، وأحيانًا يتجاوز المتعارف عليه من الأنواع الأدبية الرفيعة، ليُقدَّم في شكل يوميات أو شهادات أو سير ذاتية وغيريّة. وثانيًا، أنّ مفهومه مُلْتبس وفضفاض وغير قارّ، يختفي وسرعان ما يظهر مجدّدًا في حُلّة مغايرة تتلوّن بألوان العصر وظلاله السياسية والسوسيو-الثقافية، وتبعًا للسياق التاريخي والمعرفي الذي ظهر أو أُنْتِج فيه.
هل هي مهجريّة جديدة؟
بغضّ النظر عن المُسمّيات التي أطلقها دارسو أدب المهجر الجديد، ورفض بعضهم لمُسمّى «أدب المهجر» بسبب من تغيُّر الحساسيّات ورؤى الكتابة، وتغيُّر الظروف الراهنة عن الظروف التي رافقت ولادة أدب المهجر، مٌفضّلين عنه مُسمّى «أدب الاغتراب» أو «أدب المنفى»، إلّا أنَّنا آثرنا أن نأخذ بمصطلح «أدب المهجر»، لأنّه يتّسع لأدب المنفى، ويشتمل حتّى على معاني الغربة والنفي والحنين إلي الوطن والاغتراب بالمعني الوجودي، وهي المعاني التي ظلّت ملازمة له، والموتيفات التي وسمته وأرخت عليه أبعادًا وتأويلات متنوعة.
إذا كان مصطلح “أدب المهجر” ليس متداولًا إلا في كتب التاريخ الثقافي والأدبي، إلّا أنَّه لم يتراجع، بل هو في اطّرادٍ مستمرّ غيَّر حتى في الوعي بمدلول المهجر نفسه، في سياقٍ مُعَوْلم تأثّرت به طريقتنا في التفكير والتأويل؛ فلم يعد المهجر مهجرًا بالمعني القديم، ولا هو ذلك المكان الذي تقلّ احتمالات عودة من يذهب إليه، مثلما لم يعد الأديب المهجريّ بمنأى عن مجريات الأحداث في بلده الأمّ. وهو ما يدفع بقوة مفهوم “الحضور الغياب” كما طرحه هيدجر وليفيناس ودريدا، إلى حقل الدراسات الأدبية المقارنة؛ حيث إن الإنسان والكلمات والأشياء تحضر في الغياب، وتغيب في الحضور. ويقترح جورج شتاينر أطروحة ثاقبة مفادها أن أدب المهجر يمثل جنسًا قائمًا بذاته بين الأجناس الأدبية في القرن العشرين، عصر اللاجئين، وهو أدب كتبه المنفيّون، وعن المنفيين. يقول إدوارد سعيد “يبدو صحيحًا أن أولئك الذين يبدعون الفن في حضارة شبه بربرية جعلت الكثيرين بلا وطن، لا بدّ أن يكونوا هم أنفسهم شعراء مشرّدين ومترحّلين عبر حدود اللغة، شذّاذًا متحفظين نوستالجيين في غير أوانهم عمدًا” (إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى، ت. ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 2004، ص234).
يُعاد اليوم طرح السؤال المتعلّق بأدب المهجر، بقوّة وداخل تفسيرات خصبة وحادّة. وصار دارسوه يتحدثون عما أسموه بـ«المهجرية الجديدة» في الأدب العربي، بعد أن هاجر الكثير من الأدباء والكتّاب بلادهم إلى دول وفضاءات وعوالم جديدة في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا، بسبب عوامل سياسية واجتماعية ضاغطة (الدكتاتورية، الحروب، غياب الحرية، التهديد بالقتل، البحث عن فرص العمل..).
وقد تأثّر هؤلاء بالثقافة والمحيط الاجتماعي الجديدين مما وسم كتاباتهم الشعرية والنثرية في مجملها بسماتٍ خاصّة وجديرة بالانتباه. لكن صيغة السؤال تبدو مختلفة هذه المرّة، فالبحث عن سمات وخصائص في نصوص هؤلاء المهاجرين الجدد، قد لا يتأتى بالقدر نفسه من السهولة والوضوح اللذين استطاع بهما دارسو الأدب تحديد سمات أدب المهجر الذي نشأ في بدايات القرن العشرين.
لقد تغيّر “أدب المهجر” العربي، وتجدّدت ظاهرة المهجريّة بصورة لافتة، وتعدّدت المهاجر، بدايةً من الربع الأخير من القرن العشرين وإلى اليوم. ولقد ترتّب عن هذه الأوضاع المستجدّة ما نلمسه من ثراءٍ نوعيّ وكمّي في الحالات والمآلات التي استقرّت عليها وضعيّة المهجر الجديدة، وهي تتدرّج من سكون اللحظة وحيادها إلى المأساوية المكثّفة، مرورًا بأشكالٍ من التغرُّب ونبرة الاحتجاج والإحساس بسؤال الوجود والكينونة لم يكن يعرفها ويرقى إليها وعي رعيل المهجريّين الأول. وفي خضمّ ذلك، انخرط المئات من الأدباء في الكتابة باللغة العربية أو باللُّغات الأجنبية (الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الهولندية، الإسبانية وسواها)، وقد امتزجت في كتاباتهم هموم أوطانهم بالواقع الذي يحيونه في الدول المضيفة، وتوحي تجاربهم في الغربة بذكريات طفولتهم ونشأتهم الأولى على نحو ما يُشكّل هويات فنّهم وتصوُّرهم للمتخيل المهجري العابر للحدود.
أدب المغاربة
من جملة الآداب التي طبعتها ظاهرة المهجريّة الجديدة بقوّة، هناك الأدب المغربي المكتوب بالعربية أو بغيرها من اللغات الأجنبية. فبالنظر إلى الموقع الجغرافي الاستثنائي للمغرب، فقد كانت الهجرة بالنسبة إلى أبنائه أفقًا للترحال والكتابة، والمغامرة كذلك. ولم يعدم الأدب المغربي، من عصر إلى عصر، مهجريّيه من الشعراء والكتاب والرحالة. وكان هؤلاء يهاجرون، في بداية الأمر، إلى المشرق لأسبابٍ ترتبط بالعصر نفسه، منها الحجّ أو الرحلة والاستكشاف أو العمل المهني والسياسي ومتابعة الدراسة. ابتداءً من ابن بطّوطة المهاجر الأكبر إلى حفدته السنادبة ممّن عاشوا أجواء الحياة الثقافية في تلك البلاد لفترةٍ، وتأثّروا بها، وقد كتب معظمهم عنها في رواياتٍ وسير ومذكّرات وشهادات (عبدالكريم غلاب، محمد برادة، رشيد يحياوي، محمد أنقار، محمد لفتح… إلخ).
ولم يعرف أدباء المغرب خلال مغترباتهم “مهجرهم الأدبيّ” إلّا في بحر السبعينات من القرن الماضي، ولا سيما أولئك الذين هاجروا أو نفوا إلى فرنسا، بعد أن تعلّموا لغتها في المغرب زمن الحماية، فاحتضنهم الوسط الثقافي هناك. ولعلّ أشهر هؤلاء هم إدريس الشرايبي، محمد خيرالدين، الطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي. ومعظمهم كان يكتب في سياق ثِقْـل ثقافي وسوسيوتاريخي ضاغط كانت ترهنه، باستمرار، العلاقة الاستعمارية بين فرنسا والمغرب. وإذا كان هذا الرعيل الأول من كتّاب المهجر المغاربة يعاني من تلك العلاقة المتوترة مع لغة الآخر المُسْتعمِر، مُتحوِّطًا من أن تستدرجه إلى مواقعه الفكرية والسياسية، فإنّ هناك جيلًا جديدًا هاجر إلى فرنسا أو نشأ في فضاءاتها أو ولد بها، بدا مختلفًا يكتب مُتحرّرًا من عقدة المستعمر الأجنبي، وأصبحت الفرنسية بالنسبة إليه أداةً تعبيريّةَ للبوح وارتياد الحرية.
ولقد خلق هذا الجيل المتكوّن من حساسيّات ورؤى متعارضة بين الشعر والسرد (ليلى السليماني، نصرالدين بوشقيف، محمد حمودان، ماحي بنبين، محمد العمراوي، سهام بوهلال، عبدالله الطايع، سليم الجاي وغيرهم)، حراكًا حقيقيًّا ومتناميًا في أوساط المهاجرين والمشهد الثقافي الفرنسي على السواء. وفي فرنسا كذلك، هناك من المهجريّين من جاء إليها بعدما درس في أرض الوطن وناضل داخله، وقلبه مشغوفٌ بالعربية يكتب بها ويبدع فيها (محمد المزديوي، حورية عبدالواحد، عبدالله كرمون، محمد ميلود غرافي، المعطي قبال، فريدة العاطفي، علي أفيلال، مارية زكي، نجاة ياسين، حنان درقاوي، جمال بدومة، عبدالإله الصالحي، احساين بنزبير، جمال خيري، نجاة الكاضي، غادة الإغزاوي، هشام ناجح وغيرهم).
وقد تعدّدت اليوم المهاجر المغربية في أوربا وخارجها (كندا، الولايات المتحدة الأميركية…)، وبات هناك العشرات من الكتّاب والشعراء الذين يكتبون باللغة العربية، أو بلغة الدول المضيفة، أو بهما معًا: في بلجيكا (علال بورقية، طه عدنان، رشيدة المرابط، عبدالمنعم الشنتوف، محمد الزلماطي، غباري الهواري، نبيل أكنوش، أحمد حضراوي…)، وفي ألمانيا (محمد أهروبا، محمد مسعاد، رشيد بوطيب، ريم نجمي، محمد خلوق، نادية يقين، حسناء الصروخ، نادية الدكالي، بشرى عبدالمومني…)، وفي النمسا (حميد لشهب)، وفي هولندا (عبدالقادر بنعلي، فؤاد العروي، نعيمة البزاز، حفيظ بوعزة، مصطفى الحمداوي، سميرة العياشي، محمد الجباري…)، وفي إسبانيا (نجاة الهاشمي، عبدالحميد البجوقي، رجاء بومدين، محمد ظهيري، مليكة مبارك، رشيد الحور…)، وفي إيطاليا (أحمد لوغليمي، أسماء غريب، زهير الواسيني، رشيدة الأنصاري، مونية علالي، سناء الدرغموني…)، وفي إنكلترا (يونس بن ماجن، عبدالإله كرين..)، وفي سويسرا (مونية بناني الشرايبي)، وفي جمهورية التشيك (عمر منير)، وفي النرويج (زكية خيرهم، زهير فخري)، وفي الدنمارك (عبدالله صبيح)، وفي كندا (مصطفي فهمي، هشام فهمي، كمال بن كيران، عبدالرحمن بكار، جمال المعتصم بالله…)، وفي الولايات المتحدة الأمريكية (فدوى مساط، خالد سليكي، نجوى المجاهد، ليلى العلمي، مبارك السريفي…)، وفي ماليزيا (خالد الشطيبي)، وفي قطر (حكيم عنكر، محسن العتيقي، عبد الإله المنصوري)… إلخ.
وإذن، فإننا -بحقّ- أمام ظاهرة جديدة على الأدب المغربي؛ ظاهرة المهجريّة، فيما هي تبرز لنا ذلك التحوُّل الحاسم الذي طاول مسألة الهجرة والوعي بها، وعلاقتها المتوتّرة بالكتابة، بالقياس إلى ما كان متداولًا قبل عقدين أو ثلاثة. وتسمح لنا هذه الوضعية المعقّدة من تاريخ المهجريّة المغربية في الأدب والفنّ معًا، بإبداء هذه الملاحظات:
أ- تكشف الوضعية حقيقة الانتماء الصعب والمركَّب إلى عالمين متناقضين، وثقافتين بينهما عناصر توتُّر. وإذا كان ذلك يشكّل مصدر ثراء واختلاف بالنسبة إلى الأدباء الشباب من الجيلين الثاني والثالث، إلّا أنّها -بالنتيجةـ تسم كتاباتهم بروح التساؤل والحيرة واللّايقين والقلق بإزاء موضوعات اللغة والذات والمكان.
ب- أغلب المهجريّين الجدد، يجهلون العربية، ويكتبون بلغات الدول التي ولدوا بها ونشأوا فيها، ولم يعرفوا المغرب بلدهم الأصلي إلّا عبر البطاقات البريدية، أو من خلال العطل و الزيارات العائلية، وأحيانًا يتحدّثون عن المغرب ككُتّاب أجانب، وهو ما يقوّي الشعور الحادّ لديهم بالمنفى وانشطار الهويّة.
ج- من هؤلاء من لهم صيتٌ بأوروبا، واختيروا كأهمّ كُتّاب في بلدان المهجر التي يعيشون بها، وكتبهم بلغت مبيعاتها سهْمًا مُحترمًا، وحظوا بجوائز أدبيّة معروفة، لكن أعمالهم لم تترجم إلى العربية وليس لها صدى ببلدهم الأصلي المغرب الذي يُجْهلون به.
د- بالمقابل، هناك قطاعٌ آخر من أدباء المهجر ممن غادروا البلاد في سياقات مختلفة، ووجدوا أنفسهم موزَّعين بين «المنافي» بأوروبا وأميركا الشمالية حيث يعيشون حياة جديدة، لكنهم يحرصون على الكتابة بالعربية، وبالتالي يبدون أكثر من سابقيهم اندماجًا في الحراك الثقافي المغربي على مستوى النصوص والأعمال التي ينشرونها بالمغرب وتتداول بين النقّاد والقرّاء، أو من خلال الحضور الثقافي (ندوات، مشروعات ثقافية، مجلّات، مواقع إلكترونية، حوارات صحفية..).
هـ- تفجُّر الكتابة النسوية كأنّها جواب بليغ ومكبوت تاريخيًّا على نظرة دونيّة ناجمة عن البنية الذهنية للمجتمع الذي عاشوا فيه أو انحدروا منه، وكان يرى إلى أدب المرأة بوصفه ضعيفاً وقليل القيمة لا يُضاهي أدب الرجال؛ ومن ثمة، لم يتوانَ صوت النسوة عن إطلاق العنان لخيالهنّ البكر والمهمل في تضويء المناطق “المكبوتة” و”القوى الكامنة” و”الهذيان الداخلي” لأنا الكتابة بما تنغلق عليه من إيحاءٍ بالبساطة والغموض والهشاشة وتوْقٍ إلى الحياة والفنّ. وقد أفاد هذا الصوت المختلف في تحديث متخيّل الأدب وتنويع أشجار نسبه الرمزي.
وفي كل الأحوال، يشكل الكتّاب المغاربة المنتشرون في بقاع كثيرة من المعمور قيمة مضافة لأدبهم الوطني الأصلي، وهم يُدْخلون “رَعْشاتٍ” جديدة في أنساغه وأساليب رؤيته وتعاطيه مع أسئلة العالم ولغاته، منخرطين -بالتالي- في إعادة صوغ الهويّة الفردية والجماعية للمغاربة، والموسومة بتعدُّدها وانفتاحها وتطوافها اليوم قبل أيّ وقت مضى.
وبعد، فإنّ هذه التجارب الأدبية في مغترباتها قد استوعبت اللحظة المهجرية وتمثّلتْ أبعادها وأفقها الإنساني والأنطولوجي؛ إذ هي تبحث عن شروط حياة جديدة، وتستثمر الهجرة كأفق للكتابة، بكيفيّةٍ توازيها قدرة الذات الكاتبة على التخييل والاندماج في مغامرة البحث عن نفسها داخل فضاء تتجاذبه مطالب “الهوية المفتوحة” وجدلية “الأنا” و”الآخر” غير القابلة للانفصام. ولا أشكّ في أن ذلك قد أثمر إبداعًا جديدًا في أدبنا العربي المعاصر، وأرخى ظلالًا وارفة وإن كان في طيّها العذاب والمعاناة (حاتم الصكر، في غيبوبة الذّكرى: دراسات في قصيدة الحداثة، كتاب دبي الثقافية، دار الصدى، ط 1، ديسمبر 2009، ص 56).
وما أبلغ ما أشار إليه شاعر العربية وأحد مهجريّيها الكبار محمود درويش، قبل أيّام معدودات من رحيله، عندما قال “هكذا يضخّم المنفيُّ جماليات بلاده ويُضفي عليها صفات الفردوس المفقود. وحيث ينظر إلى التاريخ بغضب لا يتساءل: هل أنا ابنُ التاريخ، أم ضحيّته فقط؟ يحدث ذلك عندما يكون المنفى إجباريًّا (…) وهناك منفى اختياريّ، حيث يبحث المنفيُّ عن شروط حياة أخرى.. عن أفق جديد، أو عن حالة من العزلة والتأمل في الأعالي والأقاصي، واختبار قدرة الذات على المغامرة والخروج من ذاتها إلى المجهول، والانخراط في التجربة الإنسانية، باعتبار الوجود الإنساني كلّه شكلًا من أشكال المنفى” (محمود درويش، مقالة في “المنفى”، المجلة الثقافية، الأردن، عدد أبريل 2008).
ومن الطريف أن تستضيء هذه العبارة بعبارة جيل دولوز “الهجرة حقٌّ مقدّس”. وفي هذه الحالة، لا يكون التوجّهُ إلى الآخَر تغرُّباً، بل -خلافاً لذلك- يكون تجدُّداً إذا استحضرنا بيت أبي تَمّام المشهور:
وإنّ بقاءَ المرْءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ لديباجتيْه فاغترِبْ تتجدَّدِ
إنّه لأمرٌ بالغ الأهمية: ليس للشاعر سوى وطن القصيدة لكي يحقِّقَ ذاتَه، وقضيتُهُ حِيالَ منافيه الكثيرة هي: كيف يُحْسِنُ اختيارَ كتابته في حياةٍ تُعاش خارج النظام المعتاد. حياة مُترحّلة طباقيّة بلا مركز. ما أن يألفها ويعتاد عليها حتى تنفجر قواه المزعزعة، وتضيء سبل إلهامه من جديد.