هذه الكلمة الموحشة
“الخوف”.. هذه المفردة الموحشة أخالها جاءت من الظلام، رغم أني لا أذكر أنني خفتُ وأنا في ظلام رحم أمي، في تلك الدنيا الواسعة الدافئة بالحنين. لكن ما أن وُلدتُ وبكيْتُ أول مرّة بذلك البُكاء الغريب، كان “الخوف” من الدنيا الجديدة ماثلاً في حيواتي كُلُّها، حياتي وأنا أحبو، وحياتي وأنا صغير، وأنا فتى، وفي شبابي رغم العنفوان والتهوُّر، تلك المرحلة كانت فاصلة في حياتي، حيثُ خفّت المخاوف كثيراً، الخوف من السباحة، ومن الركض والقفز عالياً، ومن صعود الأماكن العالية، ومن السفر، ومن السرعة في قيادة السيّارة، ومن ركوب الخيل، ومن العشق، ومن كل شيء، حتى من الجرأة في التعبير ومواجهة الكِبار. وعندما بدأتُ أكتب وأنشر كتاباتي في محيطٍ من شيوخ الدين والشرطة والمباحث والمخابرات، كنتُ لا أخشى شيئا، ولم أحسب أن ما أكتبه سوف يقودني إلى السجن. لكنّي أدركتُ في لحظة أنني كنتُ أحملُ في داخلي الرقيب السرّي والسجّان معاً، فمارستُ الرقابة الذاتية على ما أكتب دون وعي منّي، وإن كنتُ في اللاوعي مُحاطاً بتابوهات كثيرة كرّستها فيّ الحياة، لكنّها لم تحرمني لذّة الكتابة والجرأة.. فليس من حُسن الطالع أن أشتم الحاكم لأدخل السجن فأكون في نظر بعض الناس مناضلاً.. الشجاعة ليست في أن تشتم الحاكم لكي يكرهك، أو تمتدحه لكي يُحبّك، الشجاعة أن تكون عاقلاً في تناولك لموضوعات كتابتك فلا تخف، وألاّ تجعل العاطفة طريقاً لهلاكك.
نحن لا نضع الخوف في طريقنا لكي نحتاط منه في الليل وفي النهار، لكنّنا نجده أمامنا في المفاجآت، فيداهمنا في الليل ليقترن بالظلام، كما يداهمنا في النهار ليقترن بالأحداث، كالخوف من امتحان مدرسي أو جامعي، أو مقابلة شخصية أو محضر تحقيق أو حُكم محكمة أو منع من سفر أو اعتقال، أو انتظار نتيجة تحليل مزرعي.. نحن نعيش الخوف لأن الحياة تسكن في هذا الخوف الكبير في الوجود فلا تبرحه، ودونه لا نستطيع تقدير ملامساتنا للأشياء التي نرتابُ لبعضها، وفي بعضها الآخر نرتديها باطمئنان دون ارتياب.
الخوف دائماً أمامنا، نأتيه دون أن ندري، ويأتينا ليفاجئنا متى يشاء، حتى في نومنا حين يهتزُّ بنا السرير فجأة بلا سبب، أو تصفق الريح نافذة الدار.. لا يوجد خوف لماض، الخوف دائماً حاضراً وفي مستقبلٍ مجهول. إنه أمامنا في حياتنا نعيشه في لحظة فزع لينتهي خلفنا مع أنفاسنا ودقّات قلوبنا.
في حياتنا حتى اختلاسنا للحظة الفرح يكون الخوف واثباً في اللحظة، نضحك في حينها، ونخاف أن نبكي بعدها، ويمضي بنا الفرح دون أن نبكي، ونعيش على ذكرى ذلك الفرح لكن ذلك لم يمنع بتاتاً حالة الخوف المُصاحبة لنا في عزّ الفرح، ونعيشه في عزّ الضحك.. الخوف ممّاذا، لا نعرف؟ ولكننا كُنّا نخاف أن تفسد الضحكة بسبب خطبٍ ما لا نعرفه تحديداً، كان يشدُّ القلب إليه ولا يحدُث، يمرُّ في اللاوعي في لحظة وعي ويترك الحيرة بسؤال ربما ولعلّ من تلك الاحتمالات المجهولة التي عادة ما نسمّيها “الحدس” فلا ندركه حدساً إلّا بعد وقوع الخطب.
أنا أخاف، إذن أنا موجود، وحين ينتهي فينا الخوف، يعني أننا مُتنا ولم تعُد الحياة تعنينا، فنصير مثل المجانين بلا عقل نعيش بقدرات خفيّة غير واعية، قُدرات كامنة منزوعة الإحساس ومتوحّشة لا تعرف الخوف بتاتاً.
لذلك فالخوف جميلٌ مهما أرعبنا وارتعبنا منه، والخوف جميلٌ حين يراودنا ويكون العازل الإيجابي في حياتنا بين العقل والعاطفة. وأكبر المخاوف بعد الخوف من الحياة عند الولادة، هو الخوف من الموت، وهو الذي يصاحبنا في مسيرنا كالظل، ونشمّ رائحته التي تشبه رائحة التراب.