هشام جعيط مفكرا ومؤرخا
ينتمي هشام جعيط المولود بتونس العاصمة في السادس من شهر ديسمبر 1936، إلى عائلة من البورجوازية المحافظة. وكان والده من كبار شيوخ جامع الزيتونة، وفيه درّس الفقه وعلوم اللغة. وقد اختار الشيخ الوالد أن يدخل ابنه وهو في الخامسة من عمره إلى المدرسة العصرية المتمثلة في “المدرسة الصادقية” راغبا في أن يتعلم اللغة الفرنسية مثلما كان حال أبناء البورجوازية في تلك الفترة. وحتى سن الثامنة عشرة، ظل الفتى هشام جعيط مُنسجما مع الوسط العائلي، مُقتديا بنواميسه وتقاليده.
ومثل كل الأوساط التقليدية، لم يكن هذا الوسط العائلي واعيا بما طرأ ويطرأ من تغيّرات اجتماعية، خصوصا تلك التي كانت تحدث في الخفاء. كما لم يكن واعيا بما سيحدث في ما بعد من ثورة اجتماعية مغطاة بغطاء المطالبة بالاستقلال. فقد كانت الحركة الوطنية التي كان يقودها الزعيم الحبيب بورقيبة تناهض الاستعمار، لكنها كانت أيضا تعدّ في الخفاء لانقلاب اجتماعي سوف تبرز ملامحه أكثر فأكثر من خلال عوامل الزمن.
ومع اقترابه من سنّ العشرين، شرع الفتى هشام جعيط يظهر تمردا على الوسط العائلي وذلك تحت تأثير قراءاته للكتب الفلسفية، ولتلك التي كانت تتحدث عن الثورة الفرنسية. ومن ناحية الفكر الديني، انجذب إلى كتب طه حسين والعقاد وأحمد أمين، غير أن اكتشافه للفلسفة هو الذي أحدث مُنعرجا حاسما في مسيرته. ومتحدثا عن ذلك يقول ”كان اكتشاف الفلسفة بالنسبة لي بمثابة الفتح والتجلي.
ولست أعني بذلك الميتافيزيقيا فقط، بل وأيضا علم النفس والمنطق والأخلاق”.
بعد إحرازه على شهادة البكالوريا، انطلق هشام جعيط إلى باريس ليلتحق بدار المعلمين العليا التي تستقطب ألمع الطلبة. منها تخرّج العديد من المشاهير في مجال الأدب والفلسفة أمثال جان بول سارتر، وسيمون دوبوفوار، ورايمون ارون، وميشال فوكو، وآخرين.
وفي الأوساط المثقفة والأكاديمية الفرنسيّة، وجد هشام جعيط ما ساعده على تعميق قراءاته، والتوسع فيها مكتشفا ما زاده انبهارا وإعجابا بالثقافة الغربية. ولم تكن هذه القراءات لتقتصر على مؤلفات سارتر وكامو ونيتشه وهايدغر وشوبنهاور وهيغل، بل كانت تتعدى ذلك لتشمل التاريخ العربي-الإسلامي. ومنذ تلك الفترة لعب التاريخ دورا هاما وأساسيّا في تركيب قناعاته وبلورتها.
وبعد حصوله على شهادة التبريز عام 1962، عاد هشام جعيط إلى تونس ليعمل أستاذا في كلية الشريعة وأصول الدين. وعلى مدى خمسة أعوام، ظلّ مواظبا على القيام بهذا العمل، معانيا ما سوف يسميه في ما بعد بـ”المنفى الداخلي”. فقد بدت له تونس بلدا يعيش تخلفا فكريا وثقافيا مُرعبا. لذا كان عليه أن يعيش متوحدا بنفسه، مُنصرفا إلى القراءة. وفي تلك الفترة الكالحة، ركّز اهتمامه على أعمال المؤرخين الكبار من أمثال الطبري وابن خلدون وابن سعد.
وتحت تأثير قراءاته، أصبح هشام جعيط يولي أهميّة كبيرة للخطاب السياسي والحضاري في تونس، وفي بلدان المشرق العربي، وفي ما يسمى بالعالم الثالث. كما اهتم بالفكر الديني وبالفكر القومي، وعن ذلك كتب العديد من المقالات والدراسات انتقد فيها حداثة بورقيبة التي اعتبرها “تغريبية مزيفة” مثل حداثة الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك.
ويشير هشام جعيط إلى أنه تأثر في أواخر الستينات من القرن الماضي بأفكار كل من ميشال عفلق، والمفكر المغربي عبدالله العروي، والشاعر والمفكر الباكستاني محمد إقبال الذي بدا له متقدما على الفلاسفة الفرنسيين في البعض من أطروحاته إذ أنه كان عارفا بفلسفة كل من نيتشه وهيغل.
وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي أصدر هشام جعيط كتابا مهما آخر حمل عنوان ”أوروبا والإسلام”. وقد لقى هذا الكتاب رواجا واسعا في البلدان الغربية وترجم إلى اللغتين الإسبانية والإنكليزية. ولم يكن كتابه المذكور يهدف إلى تقديم إنجازات أوروبا بطريقة مدرسية وإنما هو استقراء للثقافة الغربيّة، وتأمل في مصيرها.
وقد جاء هذا الكتاب مخالفا لما احتواه كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق الصادر في نفس السنة، متضمنا تحليلا لافتا للانتباه لنظرة الغرب إلى الشرق. ويشير هشام جعيط إلى أن صاحب كتاب “الاستشراق” اعتبر أن الشرق مفهوم اختلقه الغرب.
وتلك كانت أيضا نظرة كليّة وعاطفية استهوت أفئدة العرب، لكنها نظرة أبعد ما تكون عن النقد الإبستيمولوجي للاستشراق العلمي. وادعى هشام جعيط أن إدوارد سعيد لم يكن يعرف هذا الاستشراق. وما كتبه عنه ليس بذي قيمة، بل إنه اعتبره سطحيّا. فتحت تأثير هذا الكتاب، كال العرب الشتائم للاستشراق الذي كان قد انتهى. غير أنهم، أي العرب، لم يفهموا شيئا كثيرا من أعمال مسشرقين كبار من أمثال غولد تزيهمر وماسينيون ونودلكه.
وفي الثمانينات من القرن الماضي، أصدر هشام جعيط كتابه الرفيع الآخر عن تاريخ الكوفة ليقدم من خلال تاريخ هذه المدينة رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي. وبعدها انشغل بسيرة الرسول، وبقضية الوحي، مُنجزا حول هذا المجال كتابا في جزئين. الجزء الأول حمل عنوان ”الوحي والقرآن والنبوة”.
أمّا الثاني فكان بعنوان ”تاريخية الدعوة إلى مكة”. وفي هذا الجزء الثاني يتناول بالبحث مسار محمد في مكة من ميلاده إلى الهجرة، أي ما سماه ابن إسحاق بـ”المبعث”.
ويرى هشام جعيط أن كلمة “مسار” لا تعني فقط الدراسة البيوغرافية مهما اتسعت، بل أيضا المناخ المحلي الذي ظهر فيه الرسول، وفيه أطلق دعوته. كما يعني أيضا المناخ العالمي في هذه الرقعة من الأرض. وهو يرى أن القرآن من أهم الوثائق التي تناولت الدعوة ذاتها في الفترة المكيّة في تطورها وتعطلها، وفي محتواها الفكري. أما الدراسة الواردة في الجزء الثاني فهي دراسة تاريخية في موضوع حسّاس للغاية لأنه يلتصق بالماورائي، ويتصل بالمعتقد. ويعتقد هشام جعيط أن الكتاب الذي خصّصه للنبي محمد لا يهم فقط العرب والمسلمين، وإنما قد يهمّ أيضا أناسا ينتمون إلى أديان أخرى، وثقافات أخرى.
وفي العديد من أبحاثه ومقالاته، تحدث هشام جعيط عن غياب الفكر الفلسفي لدى العرب المعاصرين. وهو يعتقد أن العالم العربي لم ينتج، رغم مرور أكثر من قرن على حركة النهضة، ولو فيلسوفا واحدا من الطراز المتوسط، سواء باللغة العربية، أو بلغة أجنبية. لذا لا بدّ من الاعتراف بأن التقليد الفلسفي العربي-الإسلامي مات خلال عصور الانحطاط، ولم يقم أحد بالنهوض به، وإحيائه. وقد يعود ذلك في نظره إلى أنه لا أحد من جيل العشرينات أو الثلاثينات والأربعينات من الذين درسوا في الجامعات الأوروبية استمع إلى محاضرات ودروس فلاسفة كبار كانوا لا يزالون آنذاك على قيد الحياة أمثال هايدغر وبرغسون وهوسرل.
ومنذ بداية ما سمي بـ”الربيع العربي”، لم ينقطع هشام جعيط عن التدخل في الجدل القائم حول العديد من القضايا المتصلة بالديمقراطية ونظام الحكم وغير ذلك من القضايا. وفي حوار أجري معه، صرح قائلا ”لقد تعاملنا دائما مع السياسة كما لو أنها صراع دموي دائم من أجل السلطة. من هنا ندرك موجات العنف التي تسم تاريخنا القديم والمعاصر على حد السواء. ومادام مفهومنا هذا للسياسة قائما فإننا سنظل بعيدين عن الديمقراطية التي بشّر بها الربيع العربي”.