هل تشهد فرنسا انتصار الرجعية
في كتابه «إنذار. تحقيق حول الرجعيين الجدد» كان مؤرخ الأفكار دانيال ليندنبرغ قد لاحظ منذ أربع عشرة سنة بداية انتشار ثقافة «محافظة جديدة» في المشهد الثقافي الفرنسي، ومنذ ذلك الوقت والعبارة لا تني تتحرر وتتخلص من مخافة وصفها باليمينية المتطرفة، فلم تعد ترى حرجا في ترديد مقولات شيطنت جان ماري لوبان زعيم الجبهة الوطنية المتطرف ردحا من الزمن، وجلبت له عن حقٍّ تهمَ العنصرية ومعاداة الأجانب. هذه الثقافة لا تخص اليمينين وحدهم بل إن عددا هامّا من المثقفين والكتاب المنتمين إلى اليسار باتوا لا يتورعون هم أيضا عن تبني تلك المقولات والتعبير عن رفضهم بشكل أو بآخر للمجتمع المنفتح والمتساوي، ودفاعهم عن فكرة حرب حضارات تضع الغرب في مواجهة الإسلام، ثم زاد الساسة في إذكاء جمرها لغايات انتخابية.
ومنذ ذلك التاريخ أفرغت « الجمهورية» و»الأنوار» و»الأمة» و»العلمانية» من معانيها، لتتخذ شكل حجج مضللة يواجَه بها مواطنون آخرون، يراد لهم تارةً أن يكونوا من درجة ثانية، وطورا الذوبان في الهوية الفرنسية. وتحت ستار نقد الحداثة والمجتمع المنفتح متعدد الثقافات والإثنيات أكدت شخصيات ثقافية وسياسية عديدة أن أصلَ الداء وجودُ برابرة يتمنعون عن الانصهار داخل المجتمع الفرنسي، وكل ما يصيب الجسد هو من تبعاته. كذا تدهور المدرسة واللغة الفرنسية وهيبة الدولة ومؤسساتها وتراجع الجمهورية والعلمانية.
هذا الخطاب يجد اليوم صداه لدى شرائح واسعة تعتقد اعتقادا راسخا أن تراجع مكانة فرنسا الاقتصادية والسياسية، وهشاشة دفاعها أمام الهجمات الإرهابية، هما نتيجة ذلك الداء، وأن التخلص منه، بطريقة أو بأخرى، سوف يعيد للبلاد موقعها وصورتها. وليس أدل على ذلك من ارتفاع رقم مبيعات الكتب ذات النزعة الرجعية، أي تلك التي تتوسل بخطاب شعبوي لتحقيق مرامها، إذ يبلغ مئات الآلاف، وهو ما لم يشهده عالم النشر في فرنسا منذ أكثر من قرن، فيما الكتب القيمة، ذات التحليل العميق الذي يضع الإصبع على مكمن الداء الحق، لا تلقى الإقبال إلا لمامًا، برغم مكانة أصحابها العلمية.
فالكتب الرائجة اليوم هي تلك التي تستعيد شبح «التعويض الأكبر» حسب عبارة رونو كامو، وتنذر بقيام «عرابيا» Eurabie، أي دولة عربية إسلامية تجتاح أوروبا المسيحية، وتكون خاضعة للشريعة، وأصحابها يرفضون فكرة أن تكون الأمة الفرنسية بوتقة تلتقي داخلها مختلف الملل والأعراق، بل يريدونها مسيحية بيضاء أبد الدهر، نجد ذلك عند اليمين «غير المعقّد» ومثقفيه «العضويين» الذين يقفون وقفة رجل واحد لرفض المساواة الحق بين سائر المواطنين الفرنسيين، والتنديد بمن يعادي العنصرية.
دانيال ليدنبرغ وسوزان سيترون
هذا مثلا العنصري إريك زيمور يصرح على الملأ بأن الفرنسيين من أصول أجنبية هم دون أهل البلاد الأصلاء، ويضيف في مكان آخر أن من يعتنق الجنسية الفرنسية لا يحق له تسمية أبنائه بغير أسماء فرنسية، مستندا عمدا إلى قانون وقع إلغاؤه منذ مدة. وهو لا يختلف في ذلك عن ريشار ميّيه الذي تعجب كيف توكل مهمة الإصلاح في وزارتين كبريين أي وزارة الشغل ووزارة التربية لامرأتين عربيتين هما مريم الخمري ونجاة بلقاسم. ولا عن ساركوزي، مبتدع مصطلح «اليمين غير المعقد»، الذي دعا مؤخرا كل معتنق للجنسية الفرنسية إلى الإعراب، بفخر واعتداد، عن أصوله «الغولية».
بدأ ذلك الخطاب هامشيا ثم تحول تدريجيا إلى خطاب مركزي يوشك أن يحوز مقام الإيديولوجيا المهيمنة، لا سيما أنه وجد في بوتين أخًا أكبر، يستأنس به استئناس المثقفين سابقا باليوتوبيا الشيوعية في موسكو، فزعيم الكرملين هو المرجع الذي لا بديل عنه لكل من يحنّ إلى مجتمع استبدادي، ذكوري، يعتز بهويته دون عُقد، ويستند إلى صيغة ما بعد حداثية لتحالف السيف ومرشّة الماء المقدس، لا سيما في هذا الظرف الذي يمر فيه المجتمع الفرنسي، وكذا الأوروبي، بتأزم المثل الديمقراطية. ومن ثَمّ لا نستغرب تلك الأصوات الداعية إلى استعادة صفاء عرقي مؤسطر، كما هو الشأن في حديث ساركوزي عن أصول فرنسا الغولية، الذي كشف عن جهله بتاريخ فرنسا، تاريخ يراد له أن يكون «سردية قومية» نقية لم تشبها شائبة. وقد تصدى له مؤرخون كبار مثل دومينيك غارسيا المتخصص في بلاد الغول ما قبل الرومان، وعالم الآثار جان لويس برونو المتخصص في الحضارة الغولية، والمؤرخة سوزان سيترون ليفضحوا دجله، ويبينوا أن عبارة «أسلافنا الغول» التي كانت تفرض على التلاميذ حتى في المستعمرات القديمة، وجزر البحر الكراييبي والمحيط الهندي، لم تظهر إلا في عصر النهضة للتأكيد على عراقة فرنسا مقارنة بإيطاليا في نوع من التفاخر بين الملوك والأمم، ويثبتوا أنها سردية تفتقر إلى السند العلمي.
أي أن الشعب الغولي في رأي المتخصصين لا وجود له، وبلاد الغول Gaule -غاليا Gallia باللاتينية- هي أرض كانت تعيش فيها قبائل مستقلة عن بعضها بعضا، ذات أصول مختلفة سلتية وجرمانية وسواهما، تشترك في بعض الآلهة وبعض العادات، ولكن لم يكن ثمة ما يوحدها، وكان الرومان يسمون تلك القبائل الموجودة في ناحيتي جبال الألب غالي Galli، ويوليوس قيصر هو الذي خلط بينها عند حربه على أهاليها في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، بعد أن بدأت تهدد إمبراطوريته، ليضفي على غزوته بعدا ملحميّا.
جان لوي برونو ودومنيك غارسيا
ثم اختفت صورة الغول لمدة خمسة عشر قرنا، إذ لا ذكر لها البتة في مدونات مؤرخي القرون الوسطى، لتظهر من جديد إبان عصر النهضة، ولكنها لم تأخذ شكلها المتداول إلا خلال القرن التاسع عشر في كتب المؤرخ أميدي تييري الذي أخرج من عمق التاريخ شخصا مجهولا أسرته جيوش قيصر يدعى فرسانجيتوريكس ليصوره كـ «حامي بلاد الغول»، ويتخذه نابليون الثالث رمزا للمقاومة بعد هزيمته عام 1870 أمام القوات البروسية في موقعة سُدان، ويفخر بانتسابه إليه كسلف بعيد، كما كان ملوك الإفرنج من قبله ينسبون أميرهم فرانسيون إلى طروادة.
وعند قيام الإمبراطورية الثانية تم إدراج فرسينجيتوريكس في الكتب المدرسية، ثم زاد مؤسسو الجمهورية الثالثة في دعم حضوره تاريخيا مع أعلام آخرين كشارلمان وجان دارك، كي يوهموا بأن الوحدة الوطنية قديمة قدم التاريخ. وكانت مقولة «أسلافنا الغول» قد تحولت إلى موضة عند اندلاع الثورة الفرنسية، حيث انقسم الفرنسيون إلى شقين: شق النبلاء الذي يعلن انتسابه للإفرنج، وشق الشعب المنتصر الذي يفخر بانتمائه إلى الغول. ولم ينهض المؤرخون للطعن في هذه السردية المختلقة إلا خلال القرن العشرين.
إن الهويات والقوميات، كما يقول جان لويس برونو، ليست عناصر جامدة، بل مبنية لبنة لبنة، والذين نطلق عليهم غوليين هم في الأصل شعوب نازحة من مناطق أخرى من شمال أوروبا كالسلت، ومن وسطها كالجرمان، ومن جنوبها كالرومان والإغريق والإيبريين. فلا وجود إذن لجماعة تقبل الانصهار والتماثل، بل ثمة أناس يبنون معا هوية تتجدد على الدوام. أن يكون المرء فرنسيا عام 2016 لا يفيد الشيء نفسه عام 1962.
في كتابها «الأسطورة الوطنية» تقول سوزان سيترون: «المشكلة هو أننا أخفينا سردية تاريخنا الحقيقية، وهي ذات ثقافات وإثنيات متعددة.» وساركوزي، إذ يلوذ بهذه السردية، إنما يريد أن يقول للجاليات الأجنبية، الإسلامية بخاصة، إما أن تكونوا متماثلين معنا في كل شيء، وإلا فلترحلوا، وهو ما أكده زيمور بأسلوبه الفظ الذي يشي بحقد متأصل: «على المسلمين أن يختاروا، إما الإسلام أو الجمهورية.» وما ذاك إلا خطاب المحافظين الجدد الذين قد يعلنون هزيمة الأنوار ويقودون فرنسا إلى درك فكري وسياسي وأخلاقي وضيع، ما لم تنهض النخبة الثقافية النيرة لإعادة الأمور إلى نصابها. وما ذلك، في هذه الفترة الحرجة، بالأمر اليسير.