هل نحتاج إلى شاعر عربي ملعون
ورأى بيضون أنَّ تواتُر الكلام عن رامبو كانَ دائماً من خارج القصيدة الحديثة التي افتقدَتْ أثَرَهُ حتّى عندَ من يُعَدُّونَ سليلينَ رامبويين من العرب، وذلكَ في انزياحٍ مُشوَّهٍ للمَفاهيم الرامبوية لديهِم نحوَ حنين ثقافيّ يُخفي في جذورِهِ حنيناً دينياً أو قومياً.
ما من شكٍّ أنَّ ما تحدَّثَ عنه بيضون ينطوي على مُستوياتٍ عالية من الدِّقّة بالنِّسبة إلى قراءتي لهذه المَسألة؛ فالأثَرُ الرامبوي في الشعر العربي الحديث شكَّلَ قطيعةً مع الأصل الرامبوي -على الأقل إذا قبلْنا مصطلح الأصل جدَليّاً- في نظريَّتِهِ الشعرية وفي فضاءاتِهِ النَّصِّيّة. وكانَ يُمكِنُ أنْ يُمثِّلَ هذا عامِلاً إيجابيّاً لو تمَّتْ إعادة خَلْق الأثَر الرامبوي خَلْقاً يفي من جانبٍ أوّل بأُسُسِهِ المَعرفيّة الديناميكية، ويستجيبُ من جانبٍ ثانٍ للخُصوصيّة العربيّة المُفترَضة، حيثُ كانَ الانزياحُ المُنتظَر في الشعر العربي الحديث لا يعني نكوصاً هُوِيّاتيّاً يُطيحُ بأصالة السؤال الشعري الرامبوي المُتحرِّك بلا هوادة نحوَ هشاشة المَجهول، بقدر ما يعني تحقيق إضافة نوعيّة عبر تخليق آفاقٍ مَعرفيّة جديدة وخياناتٍ فنِّيّة مُغايِرة من داخِلِ حركيّة الانفتاح الرامبويّة، وهوَ الأمر الذي لم يتمكَّن الشعراء العرب من النُّهوض به حتَّى هذه اللّحظة.
يكمنُ السؤالُ المحوري في هذا السياق في البَحث عن مُنطلَقات الاستئناف الشعري العربي لرامبو، وعدم الفصل بين «رامبو: الرَّمز المُتخيَّل عربيّاً» و»رامبو: السِّياق الوقائعي المَعيش، وصاحب المَرجعيّات النظَرية الفريدة في تجربته النَّصِّيّة»؛ فأيُّ حديث عن إحياء الأثَر الرامبوي عربيّاً ينبغي أنْ يضَعَ في حسبانِهِ البُعدَ الكونيَّ الذي انطوَتْ عليه تجربة رامبو، والتي احتلَّ فيها الشرق مَوضِعاً عميقاً يصعُبُ تجاهُلُهُ، وهيَ القضية التي تفترِضُ في المُقابِل العربي، ولا سيما، ونحنُ في هذا العصر المَوسوم بـِ»العولمة/الليبرالية الجديدة» أنْ يُؤسَّسَ هذا الحُضور الرامبوي على رُؤىً كلِّيّة تتجذَّرُ في صلب أسئلة الوجود المَعيش في العالم المُعاصِر، بدَلاً من الإطاحة بديناميكيّات هذه الإمكانيّة الثَّرّة عبرَ تنميطِها وأسرِها، ثُمَّ إخصائِها بالمُسَبّقات المَوروثة التي تبقى على السَّطح المُباشَر وهيَ تجترُّ أفكاراً من قبيل «النحنُ والأصالة» في مُواجَهة «الآخَر والتَّغرُّب»؛ بما هيَ ليسَتْ سوى ثيماتُ محتوىً جوهرانيّ ميتافيزيقيّ يُعيدُ إنتاجَ سُلطة الاستبداد شعريّاً.
ومَعنى هذا الفَهْم أنْ نكونَ أوفياء لخلخلة رامبو نفسه لمركزيّة الغرب بخلخلتنا أيضاً لمركزية الشرق في آنٍ معاً، والالتحاق بانغماسِهِ الأصيل بالهامشيّ والمَنسيّ خارج منطق الثنائيات التَّقابُلية؛ أي وفقَ ما تحدَّثَ عنهُ جاك بيرك حولَ وجود شرق آخَر وغرب آخَر غير شرق الخرائط وغربها، إنَّهُ «شرق- غرب التَّبادُلات بالغة الحميّة بينَ العظَمة والقيمة، العقل والهوى، الشيء والعلامة» كما يقول ألان بورير في إحدى مُقدِّمات ترجمة كاظم جهاد.
تبدأ تناقضات الحداثة الشعرية العربية من احتفائِها النظَريّ بمَقولات الجِدَّة والإبداع والتَّجاوُز، وبدعواتِها الحثيثة إلى التَّثوير والتَّغيير والخروج عن/على التقليد والماضي، واستشراف المُستقبَل والمَجهول، ثُمَّ بسُقوطِها المُدوِّي نصِّيّاً في براثن سُلطة الذّات الشاعِرة المُسَبّقة بوصفِها سُلطةً مركزيّة مُتعالية ومُشبَعة بالأيديولوجيا، وهوَ الأمر الذي يُغلِقُ الباب بعُنف في وجه مُنطلَقات رامبو الأثيرة، ويدفَعُ القارئَ المُتمعِّنَ إلى التَّساؤلِ مثلاً عن مساحة وجود رامبو «العابر الهائل» كما نعتَهُ مالارميه، وهوَ يحتفي -أي رامبو- بالتَّجاوُزيّة والعُبور والاختراق والتَّفجير ونشدان المُستحيل والحُرِّيّة الحُرّة وتشويش الحواس ومَخض الغِياب ومَخر المَجهول وغيرها من المَلامِح الرامبوية التي لا يُمكِن أنْ تتعايَشَ مع أيِّ نكوصٍ أيديولوجيّ ماضويّ حطَّ بظلالِهِ الثَّقيلة والعريضة على فضاءات الشعرية العربيّة، وعلَّقَ إمكانيّات ولادة الشاعر العربي المَلعون!
لعلَّ مأثرةَ «الرّامبويّة» الكُبرى أنَّها وُلِدَتْ وترعرعَتْ ونضُجَتْ في بُؤرة «الفعل»؛ فالكتابةُ لدى رامبو كانت فعل حُرِّيّة وظيفتُها مُجاوَزة حُدود الحُرِّيّة نفسها، ولا يعني «الفعلُ» هُنا مُطابَقة المُستوى الوقائعيّ، أو مُحاكاتِهِ، أو إعادة إنتاجِهِ، بقدر ما يعني مَدَّهُ بفائض وجوديّ جَماليّ يمنَحُ الشعرَ الرامبوي طُموحَهُ الفريد في مُجاوَزة العالم العابر، باتّجاه تغييره باستكناه العالم المَجهول، لتذوبَ بهذا الشكل المَسافة المُتوهَّمة بين اللغة والوجود من ناحية أُولى، وبين الذات والموضوع من ناحية ثانية، وليكونَ الجدَل مفتاحَ تأويل التَّحولات التي طرأَتْ على المُستوى الوقائعيّ المَعيش في شعر رامبو، ذلكَ أنَّ ما أدعوه «المبدأ الثوريّ الرامبويّ» الذي بلَغَ ذروتَهُ في «كومونة باريس» تحوَّلَ في القصائد إلى مبدأ ثوريّ كشفيّ يرغبُ بالقبض على الحُرِّيّة الحُرّة بوصفِها تفتيتاً لمركزيّة أيِّ يقين، واختباراً لهشاشة العالم واستعصاء المَجهول، وهُنا مَكمَنُ المأثرة الرامبوية الاستثنائية التي استطاعَتْ صياغة السياسي فنيّاً عبر مَحطّات معروفة كنقد النظام السُّلطوي الغربي والاستعمار والاستشراق من جانبٍ أوّل، والمُحافَظة على حدْسيّة الشعر وجَمالياتِهِ من جانبٍ ثانٍ. ويبدو لي أنَّ هذهِ السمات تُمثِّلُ -وبلا مُوارَبة- تعريةً بالغة للحداثة الشعرية العربية التي لم يبقَ في مُعظَم قصائِدِها غير الضجيج الشعاراتيّ، أو الأقنِعة التي أخفَتْ الوجوه الحقيقية لمجموعة من الدِّيكتاتوريين الشعريين الذين لم يكفُّوا عن الانشداد إلى الوراء.
أخيراً، لا أريدُ في هذهِ القراءة العاجِلة أنْ أسقُطَ في التَّعميم المَذموم لا على مُستوى الأسماء، ولا على مُستوى تعدُّد تجارِب كُلّ شاعر على حدة، وإمكانيّات اختلافِها، لكنَّني أُحاوِلُ من حيث المبدأ أنْ أُحدِّدَ بعضَ المَلامِح الأساسيّة التي تحتاجُ إلى مزيدٍ من البَحث والتَّدقيق، وهذا ما يدعوني إلى الإشارة هُنا إلى أنَّني قد دعوْتُ في بَياني الشِّعري الأوّل المنشور عام 2015، وعنوانُهُ «الإعلان التَّخارُجيّ»، إلى استئناف الحداثة الشعرية نفسها بوصفِها دعوة دائمة ومَفتوحة إلى التَّجديد والتَّثوير والحُرِّيّة عبرَ تحجيم سُلطة الذّات المركزية المُتعالية والمُتحكِّمة بتأثير مُسَبّقاتِها المُختلِفة بالقصائد المَولودة، وذلكَ بإنجازِ فَصْمٍ نظريّ لا فعليّ للذات (دعوتُهُ: فَصْمُ الذات) يقولُ بوجودِ فعلٍ جدَليّ تراكُبيّ أثناء خَلْق العالم الشعري يتمُّ بينَ الذات الشاعِرة المَوجودة في العالم الوقائعيّ، والذات الشعريّة المَوجودة في العالم الافتراضيّ، لتكونَ هذهِ الآليّة عُدّة توليديّة مُتَّكِئة على مَفاهيم ما بعد حداثيّة، وساعية إلى كَبْحِ جماح القَبْليّات المركزية الأيديولوجية والمَعرفيّة -ذاتيّاً وموضوعيّاً- التي يُمكِنُ أنْ تُصادِرَ حُرِّية الانفتاح الشعري نحوَ المَجهول، وتحجبَ إلى حدٍّ بعيد مدى القُدرة النظَرية والنَّصِّيّة على تفكيك ثوابت الحداثة الشعرية العربية المُتكلِّسة الآن، ولا سيما في ثنائيتها المُفتَعَلة الشهيرة «الشعر الرؤيويّ-الشعر اليوميّ».
إنَّ هذا الفَصْم المُقترَح بما هوَ درْبة عمَليّة لتخليق الانبثاق الشعري الحُرّ، يلتقي تحقيبيّاً مع هذه المرحلة العربيّة المُتشظِّية في ظلّ ثورات الربيع العربي وتداعياتِها أوَّلاً، ويُذكِّرُ ثانياً بالصِّلة الفنِّيّة الأصيلة التي استطاعَ رامبو أنْ يُنجزَها في تجربتِهِ بينَ ذاتِهِ الشاعِرة الوقائعيّة في عصرها المُنفجِر سياسياً واجتماعياً، وذاتِهِ الشعرية الافتراضيّة التي عاشَتْ صراعاً جدَليّاً مريراً مع المُستوى الوقائعيّ وهيَ تُحاوِلُ أنْ تصوغَ عالمها الشعري فنِّيّاً وجَماليّاً على نحوٍ خاصّ يحتفي بلا توقُّف بالانفتاح المُتسارِع نحوَ المُجاوَزات والمُباعَدات والمَجهول والاختلاف.