هل أصدق؟
واجهة للحلم وأخرى للجحيم
الهاتف اللعين لا يرنّ.
الأخبار التي تأتي كل لحظة بأيّ هراء تبخل بخبرٍ عنها يطفئ لهيب قلبي.
الجرائد لا تقول شيئا.
طبعا تقول الكثير، لكن لا شيء عنها أبدا.
زمن جميل وأحلام فتيّة، صافية، مباحة. نوافذ مفتوحة على الدنيا، ولا سحبَ في سماء الصداقة ونحن، نتوسّد ساعد البحر ونثرثر، والموج متواطئ معنا، يشاغبنا، يسافر بأحلامنا إلى الشاطئ الآخر البعيد ثم يعيدها لنا أجمل ممّا ابتدعناها.
– حسنا، أما أنا فسألتقي امرأة مختلفة، رقيقة ومرحة، أجنّ بها ويملأ وجودها الكون من حولي، سأسكنها زاوية نائية من هذا القلب بحيث لا تراها عينٌ سوى عيني. حبيبتي سوف تؤثث نهاري بالدهشة، وليلا تنام على صدري فأرتّب خصلات شعرها، وأعدّد رموش عينيها، وأشرّع أنفاسي ستائرَ دفء تحميها من نسمات الهواء الشاردة.
– جميل، لا تنس أن تعرّفنا بها حين تعثر عليها!
– مختلفة؟.. يا صاحبي كل النساء سواء!
– من حقّك أن تحلم أيها الصحفيّ المجنون، كما يحلم بحّار مغامر بحورية البحر أو فارس مغوار بأميرة تصطفيه من بين ألف ألف فارس. حلمٌ متفرّد فيه من السّحر والخرافة والأسطورة، ويقع على خط رفيع بين الممكن والمحال.
– لا بد أنها موجودة، في مكان ما، من أجلي أنا فقط. أليس كذلك؟
– لا أدري، لعلّها فقط في نقطة ما من رأسك المشحون بالأحداث والكوارث.
– الأمر قضية وقت، وأنا لست مستعجلا.
– نعم، سيسعدنا أن تكون الأعزب الوحيد في الشِلّة ونحن نحتفل بولادة أحفادنا!
– لن يكون ذلك.. لقد كبرت وأنا أرى أحلامي تتحقّق، كلها، بمنتهى اليسر. خلقت الأحلام لي، من أجلي، لكي تكون رهن رغباتي. محظوظ هذا الفتى! تقول أعين الناس من حولي، وتقول أمي أمام الجميع، بمناسبة ودون مناسبة: “لقد تنبّأت بمولده هذا الولد أعطاه لي ربي في المنام”. أمي الآن ترثي لحالي. تصلّي وتدعو ربي أن يعيدها لي سالمة.
الهاتف اللعين لا يرنّ.
الأخبار تأتي كل لحظة بأيّ هراء إلاّ بخبر عنها. الجرائد لا تقول شيئا.
طبعا تقول الكثير، وفيها الكثير، ظلم، ودم، وسخف، وكذب، ولكنّها لا تقول شيئا يعيدها لي ويعيدني للحياة.
– قل لي: ماذا عليك أن تفهم حين تعبس الدنيا في وجه قلبك، حين يتعسّر حلمك وهو الأروع؟.. بأنك لا تستحقّه، أم تتوقّع الخسارة مهما كان الكسب حليفك؟
– هوّن عليك يا صديقي، تفاءل خيرا. هل تذكر الطبيب ج.ع. الذي اختطفوه من شهر؟ لقد أعادوه إلى أهله بعد عشرين يوما. أرادوه أن يجري عملية على قلب “أميرهم”، وبعد أن فعل أطلقوا سراحه.
أميرهم؟ وأميرتي أنا، ماذا عنها؟ ومن ذا يجري عملية لقلبي، فينتزع منه فتيل ولعي بها وقلقي عليها؟ يا إلهي! أكاد أجن، بخار الغضب يرتفع في صدري، وأعشاب الخوف تنمو في ضلوعي كلّما تصوّرت ملاكي الأبيض محجوزا في قعر الجحيم، بين مخالب الوحوش. صحيح، لم أؤمن أبدا بوجود الملائكة على سطح الأرض، على أي شكل كان، ولكّنك آمنتَ يا قلبي بكل ما كفرتَ به لحظة وقعت عيناك عليها. لو كان للرقّة والحنان أن يتجسّدا في أنثى لكانت هي. والغريب أن أوّل ما شدّني فيها صوتها، صوت ساحر كأنّه خرير الماء، وفيه بحّة تخطف العقل قبل السمع، غمر كياني بالدفء، تخلّل سمعي فأيقظ كل حواسي وفتح بوابة للحب والفرح. نعم الصوت. آخر ما كان يهزّني في الأنثى. لم يكن يثير انتباهي ويحفّز شيطاني على القفز في فضاء المغامرة سوى القوام في رشاقته وتعرّج تضاريسه، والنهد المتعجرف في شموخه وعنفوانه. كنت أعرف أنّ بعض الحب يولد على حين شهقة، كما الصاعقة، لكن أن يصرعني وأنا نصف ميّت، ممدّدٌ فوق سرير المرض في مشفى كبير، فذاك آخر ما كنت أتوقّعه.
غبيّ! فاتكَ أنّ الحب لا يعنيه مكان أو زمان، ولا يعترف بجغرافيا أو تاريخ. لا يقرع الأبواب على استحياء أو ينتظر إذن الدخول، إنّما يندفع كالإعصار محطّما الأبواب والنوافذ. كيف سألتقي حبيبتي؟ كنت أتساءل كيف ستكون البداية؟ لحلم مميّز لا بد له من بداية مميّزة. لم أتصوّر أن يكون اللقاء في حديقة عمومية تضجّ بالأنفاس، أو حفل زفاف صاخب لصديق عزيز، أو محطة قطار يأكلها غبار السأم. لا، كنت أحلم بلقاء شاعري على شاطئ البحر عند المساء، والنوارس تشاغب الموج، تراود الأسماك، وتلهو بطيش فوق سطح الماء، أو في الصباح قرب محل بائع الورد، ستمر صدفةً، وسأسألها أن تختار لي باقة أهديها لوالدتي في عيد ميلادها، وسيكون ذلك ذريعة لبدء الحديث والحب!
لكن الحب واعدني هناك. تلك البناية المقابلة لهذا المقهى حيث أجلس الآن. غرفة في نهاية الرواق في الطابق الثالث، جدرانها بيضاء بلون الفراغ، تفوح منها رائحة الانتظار، يطلّ من نوافذها وجه الأنين، ويذرع الموت أرضيتها ليلتقط ما تساقط من أوراق. لمَ المشفى؟ لا أدري، ربما لأن الحب وباءٌ يصعب الشفاء منه، أو لأنه كالمشفى، ندخله مطأطئين مرغمين ونخرج منه مرقّعين موسومين أو قد لا نخرج سوى جثث هامدة خاصمها النبض.
بادرتها قائلا وقد شعرت بنظرتها تستفّ كل الألم، من كل جسدي:
– صوتك جميل. حرام أنّه لا يصل أسماع الدنيا. كان ينبغي أن تمتهني الغناء لتشفى جروح الروح.
– لكني اخترت أن أشفي جروح الجسد. أيهما أولى بالمداواة في رأيك؟
– لا أدري. أنا الآن جسدٌ مشروخ وروحٌ مهلهلة وكلاهما بحاجة إلى سحر أناملك. أحاطني سحرها، كبّلتني أنوثتها وجمالها الهادئ، وشخصيتها الرزينة وثقافتها، وعشقها للفن والأدب. أحببتها وأحببت المشفى، وتمنّيت أن لا أخرج منه أبدا. وكنت كلما تقدمت في الشفاء قليلا تقدّمتُ في عشقها أكثر، كأنما حبّها يزاحم علّتي فيطردها ليحتلّ مساحات دمي وزوايا روحي.
– أخبريني.. ماذا وضعتِ في الحقنة؟.
– لمَ تسأل؟ تقول في حيرة.
– لأني أحسّ كأنّي في الجنة أطير مع الملائكة! تبتسم:
– ألا تكفّ عن الهذيان؟
– لا، وأضيف – ويدي المحمومة تتحسّس يدها الناعمة كالقطن – ليس قبل أن توافقي على الزواج بي. لم أفكّر حين نطقت العبارة. في سكرة الحب يتخدّر الفكر. لم أرد أن أعطي نفسي فرصةً للتفكير. ليس التفكير ضروريا دائما، بالعكس كثيرا ما يفسد جمال اللحظة. ماذا ستقول أمي، وعائلتي، والناس؟ بعد كل هذا الانتظار يتزوّج امرأة مطلّقة ولها ابن؟ كل ذلك لا يهمّ، سوف أحارب الدنيا من أجلها وستوافق أمي، وتخطبها لي، ابنها سيكون ابني، وسوف أحميها، من العالم والبشر، وسنحب بعضنا في المرض والصحّة والفقر والغنى، وفي الحياة والموت وحتى بعد الموت.
الهاتف اللّعين لا يرن.
الأخبار تأتي كل لحظة، بأيّ هراء إلا بخبرٍ عنها.
الجرائد تقول الكثير ولا تقول شيئا.
لا خبر، لا رسالة بطلب فدية، ولا حتى إشاعة تسقي في أعماقي بوار الأمل. وأنا أجلس هنا، كل يوم، مثل بوهيمي، غريب الديار على وشك أن يفقد عقله، يفتّتني الانتظار، أجتر الذكرى وأغالب الشوق، فيغلبني. الشوق أشد وطأة من المرض وأقسى من الموت. أخرج من جيب سترتي ورقة مطوية لجريدة عمرها بالتحديد شهر وثلاثة أيام وبضع ساعات، أفتحها وأقرأها للمرّة الألف: “في حاجز مزيف بنواحي /…/ اختطفت مجموعة إرهابية ممرضة وطبيبا مختصا في أمراض القلب، كانا على متن سيارة إسعاف متّجهين نحو مدينة /…/ وقد أغلقت العناصر الإرهابية الطريق بواسطة المتاريس الخشبية والأحجار، وأجبرت السائق على التوقف والنزول، وتحت التهديد بالقتل صعد الإرهابيون على متن سيارة الإسعاف، وواصلوا طريقهم قبل أن يتركوها على بعد مئات الأمتار، ويقتادوا الضحيّتين معهم نحو وجهة مجهولة”.
أطوي الورقة، أعيدها إلى جيبي، أتحسّس هاتفي، تندّ عن صدري تنهيدة حرّى، أرسل نحو بوابة المشفى نظرة فارغة متّشحة بالحداد، وأترك المقهى إلى حيث لا أدري، وليس في حقائب عمري سوى أمنية وحيدة.
الهاتف اللعين لا يرنّ.
الأخبار تأتي كل لحظة بأيّ هراء إلا بخبرٍ عنها.
الجرائد تقول كل شيء.
الجرائد لا تقول شيئا.
أيامي العجاف
يقتلني هذا الفراغ.. يفتّتني، يحيلني أشلاء. أحسّه بداخلي يثقل كاهل أيامي، يغتال أنوثتي، يفقدني الإحساس بنفسي وبالعالم.
يد الزمن تجلدني بسياط الحرمان والقنوط، فتحيلني كائنا من حزن، امرأة من خواء بلا غد، بلا هوية، ولا تاريخ، ولا عنوان. أرض بور أنا نخلة تطرح عراجين الدمع، قمر هجره الضياء، سماء خاصمتها النجوم، حديقة ضربها الجدب ونسيها الربيع، صحراء قاحلة لا تنبت شيئا، ولا حتى الصبار.
هذا صباح آخر.. اليوم أيضا سأرتدي وجها غير وجهي.. سأستعير ملامح امرأة ليست أنا، امرأة مستسلمة، راضية، لا تكترث أبدا، أو ربما تكترث قليلا، قليلا فقط.
– صباح الخير. هل نمت جيدا؟.
– صباح الخير. نعم. شكرا.
صباح الفراغ الذي يملأني ولا أعرف كيف أملأه. هل نمتُ جيدا؟ طبعا نمت، بعد أن راجعت دفتر حرماني، بعد أن تأكدت كم يلزمني من الصبر والإيمان لكي أستطيع أن أستمر.
أنت تبدو بحالة جيدة. هل أصدق أنك لا تكترث؟ أيمكن أن لا يقلقك الأمر فعلا؟. “هوني عليك حبيبتي. أحبك أنت ولا يهمّني أي شيء آخر”. قد تكون صادقا، ولكن ألا تشعر بالملل، ألم يعتريك اليأس وأنت طيلة سنوات تزرع بذورك في البحر؟ وماذا بعد. سنة أخرى، أو سنتين، أو خمس؟.. هل ستسألني السؤال نفسه، إذا نمت جيدا؟ هل سيعوّضك حبي، دائما، عن رغبة تعتمل في أعماقك؟ تحاول إخفاءها فتخونك نظراتك وتنهّداتك!
هل تعتقد أنها تفوتني تلك التعاسة التي أقرؤها في عينيك كلما سمعتَ بكاء طفل أو ضحكه؟
نتقابل على مائدة الفطور، نحتسي قهوتنا، نحتسي معها حلما جميلا رأى النور في ليلة العمر، ثم ظل يتأرجح بين الحياة والموت، إلى أن لفظ آخر نفس، ذات صباح حزين، بسقوط الحكم النهائي: “عقم ناتج عن تشوّه خلقي”.
نتجاذب أطراف الصمت. ثم أخيرا، نتبادل بضع كلمات ونغادر. كل إلى عمله.
يتلقّفني الشارع. الشمس ترسل ابتسامة خجولة، دافئة، في انتظار أن تكشّر عن لهيبها الحارق. ظلي المشوّه يرافقني. ترى من منا ظل الآخر؟
أسرع صوب المستشفى، يدعوني الواجب، اليوم أيضا سأضع آخر لمسات الفرحة في حياة نساء أخريات. يسابق خطواتي شعور بالضآلة والدونية، والغربة، عنّي، عن كل ما حولي، عن جسدي.
آه يا جسدي اللّدود، يا أعضائي الخائنة!
ألمح وجهي في واجهة محل. من أنا؟.. امرأة؟ رجل؟ نصف امرأة؟ أقهقه في سري، ضحك هستيري يدغدغني.
أتحسسّ جسدي بأنامل خيالي، أتلمّس مواطن أنوثتي.. لست رجلا، ليتني كنت رجلا، ولو غبيا بما يكفي ليجد القدرة على أن يكون سعيدا.
تمرّ بقربي امرأة، مزهوّة كطاووس. تتأبّط ذراع رجل ليس أقل منها زهوا. بطنها المكوّر يسبقها بخطوات. تنظر إلي. هل تعرفني؟ هل تعرف أني لا أشبهها؟
أنا لست رجلا، ولست امرأة أيضا.
المستشفى مكتظ كعلبة سردين، كأن المدينة كلها تصب هنا في الرواق المؤدي إلى غرفة التوليد بضع نساء يتمشّين، يتلوّين من الوجع.
يا لحظي التعس! ما أسهل ما تحبل النساء.
أدخل غرفتي. أغيّر ملابسي، يستدعونني بسرعة، امرأة تعاني المخاض.
أمدّدها على الطاولة. صراخها يشتد، يتقارب، يعلو. ألمها يتضاعف، يتصبّب العرق منها.، يتشنّج جسدها. تستنجد بي نظرتها ودموعها.
أم لخمسة أطفال، والآن يأتي السادس.
يتدفّق الدم، وأمد يديّ، أنا، أنا التي يستوطن الفناء رحمي منذ سنين، أمد يديّ، وبقوة، ومن رحم المرأة أنتشل الحياة، من ظلمات ثلاث أسحب النور.
– إنه صبي، مبروك.
المرأة تبكي، ثم تبتسم نصف ابتسامة، واهنة. أحملق في حبّات العرق فوق وجهها وعنقها.. إنها ترتفع، تدور، تستحيل بلورات ماسية تتجمّع فوق رأسها، تشكّل تاجا من نور يتلألأ، يكاد يعمي بصري.
المرأة تبتسم في ضعف، الوليد يصرخ بشدة، وفي أعماقي يتصاعد رجع الحرمان، يغلي عطشي للأمومة، أن أعيش اللحظة، ولو مرّة واحدة، واحدة فقط.
أهتم بالوليد. أنظّفه، ألفّه في ثياب بيضاء، أحمله بين ذراعي، أضمه إلى صدري. برفق ثم بقوّة. حضني يغدق عليه فيضا من الحنان، بينما بضع كريات سوداء، مسمومة، تحاول التسلل إلى قلبي لتلوّث دماءه.
أحمل الوليد إلى أمه. أضعه على السرير إلى جانبها. تشكرني وتدعو لي. أركض إلى غرفة القابلات. أوصد الباب خلفي وأبكي. أبكي، أبكي، وأستجدي مزيدا من الدموع علّها تغسل ما علق بروحي من أدران الحسد.
أرفع رأسي إلى السماء: ساعدني يا رب.
أدخل في صلاة وجدانية، يتضرّع فيها قلبي وروحي هربا من شرنقة الحسد والغيرة والكره.
أسمع طرقا عنيفا متواصلا على الباب.
زميلتي تصرخ: نوال.. أسرعي امرأة أخرى على وشك أن تلد الآن!