هل هي ممكنة في عالم ثالث
لن تنجح كتابة الرواية البوليسية في دول ذات أنظمة بوليسية. في الدول الديكتاتورية لا يوجد نظام قضائي مستقل، وأجهزة الشرطة غالباً ما تكون فاسدة. حين نقرأ الرواية البوليسية الأوروبية نلاحظ أنها مكتوبة لمجتمعات تحترم القوانين، والشرطة على درجة معقولة من النزاهة، والقضاء عادل ومستقل.
حين نقرأ روايات أجاثا كريستي التي عاشت في كنف المجتمع والنظام البريطاني سوف نلاحظ أن البناء الروائي يمضي وفقاً للخطة الآتية:
1- حدوث جريمة يكتنفها الغموض.
2- التحقيق في الجريمة.
3- الكشف عن مرتكب الجريمة.
وهذا هو المخطط السائد عموماً في كل أدب الرواية البوليسية المكتوبة في المجتمعات المتقدمة.
لكن هذا المخطّط بصيغته الغربية لا يتناسب مع مجتمعات دول العالم الثالث.. فعلى سبيل المثال الخطوات الثلاث في كتابة رواية بوليسية لمؤلف ينتمي إلى دولة عربية ولنقل على سبيل المثال اليمن ستكون معكوسة، أيّ أنها ستكون هكذا:
1- حدوث جريمة فاعلها معروف.
2- التحقيق في الجريمة يخضع لمؤثرات قبلية أو سياسية أو مالية.
3- مرتكب الجريمة لديه فرصة للإفلات من العقاب إذا كان قوياً.
أيّ مؤلف عربي يتجاهل هذه الحقائق الفنية، ويصرّ على كتابة رواية بوليسية معقمة ونظيفة على غرار الروايات البوليسية الأوروبية، رواية منبتة من جذورها الجغرافية، فإنه لن يقدم سوى روايات مصطنعة، متقنة الصنع ولكن مزيفة، حالها حال الورود البلاستيكية.
ينبغي التشديد على أن استخدام القالب الأوروبي للرواية البوليسية في كتابة روايات بوليسية عربية يعني الإقدام عمداً على تسطيح الوعي وتزييف الحقائق عن الوضع السائد.
يحتاج كاتب الرواية البوليسية في اليابان أو النرويج مثلاً إلى أقصى درجات الذكاء ليعقد خيوط حبكته البوليسية، ولكن بالنسبة إلى كاتب من دول العالم الثالث الفقيرة فإن عليه أن يُنحِّي الذكاء جانباً، ويتخلى عن فكرة الجريمة التي نُفّذت بذكاء خارق، وأن يفكر في أمور أخرى أكثر حيوية وجدوى لمجتمعه. عليه أن يتحلى بالشجاعة لفضح تلك الجرائم الجنائية التي يرتكبها أشخاص منحرفون ثم تقوم مراكز القوى بتوفير الحماية لهم.
هناك عوامل محلية في كل بلد عربي تؤثّر على مجرى التحقيق الجنائي، وهناك ضغوط يتعرض لها القضاء، وهناك اعتبارات طبقية وطائفية وعشائرية قد تعيق تحقيق العدالة بصورة مطلقة. العدالة نسبية في بلداننا العربية، أي أنها تتناسب مع مكانة الضحية الاجتماعية والطبقية والسياسية.
حرمة الدم ليس لها الاعتبار نفسه دائماً. إذا كان القتيل من أدنى الفئات الاجتماعية فإن دمه سيكون على الأرجح رخيصاً، ولن يعاقب القاتل بالقصاص أو السجن، وسيتم الاكتفاء بدفع الدية.
على كاتب الرواية البوليسية أن يدرس جيداً التشريعات في بلده.. فكثير من البلدان العربية لا تعاقب الأب الذي يقتل ولده العاق، أو الأخ الذي يقتل أخته بمبرر غسل الشرف.
في أرياف اليمن مثلاً يتمّ عرض الجرائم الجنائية على شيخ القبيلة، وهو الذي يصدر الأحكام.. وأحكامه تلتزم بها جميع الأطراف بما في ذلك أجهزة الشرطة. حيث يمثل الشيخ سلطة أعلى من سلطة مسؤولي الأمن والشرطة.
لا أحسب أن السياق التاريخي الذي نحن فيه يشجّع على ازدهار كتابة الرواية البوليسية. سوف تزدهر الرواية البوليسية العربية عندما يكون الحاكم منتخباً، ومدة رئاسته لا تزيد عن فترتين رئاسيتين، عندما يكون القاضي في مأمن هو وعائلته من الانتقام والتنكيل والتهديد بالقتل.. عندما يكون جهاز الشرطة في خدمة الشعب لا هراوة مسلطة عليه.
من المهم في الرواية البوليسية أن ينال المجرم جزاءه، أن يندم على فعلته، أن تصل إليه الرسالة بوضوح وهي أنه مذنب. وهذا حتى الآن غير متأتّ للرواية العربية البوليسية مع الأسف، وخصوصاً إذا شاء المؤلف تحرّي الصدق الفني.