هل يكون إريك زيمّور دونالد ترامب الفرنسي؟
لا حديث اليوم في وسائل الإعلام الفرنسية وعلى منصات المواقع الاجتماعية إلا عن ظاهرة تدعى إيريك زيمّور، تعرض سلبا أو إيجابا على مدار اليوم، حتّى قبل أن يعلن صاحبها عن ترشّحه للرئاسيات المقبلة. ولئن عدّه بعضهم زبدًا سيذهب جفاء، فإن آخرين يرون فيه دونالد ترامب فرنسيا، في مثل شعبوية الرئيس الأميركي الأسبق وفي مثل جهله بالشؤون السياسية، ولكنّ وراءه هو أيضا سند مالي قويّ، ودعم من وسائل إعلام يمينية، معتدلة ومتطرفة، ذات انتشار واسع، ولا يستبعد أن يكذّب هو الآخر كل التوقعات ويصعد إلى سدة الحكم في الربيع القادم، رغم أنه لا يملك من مشروع سوى معاداة الإسلام واعتبار المسلمين غزاة ينبغي طردهم، حتى أن الحزب الذي أنشأه مؤخرا أطلق عليه اسم “الاسترداد” (La Reconquête) في إحالة على حركة “ريكونكيستا” الإسبانية (722هـ – 1492م) التي انتهت بطرد المسلمين من الأندلس. ووجد السند لدى الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي أول من فتح الباب لمعاداة المهاجرين.
وإيريك زيمّور، مرشح اليمين المتطرف هذا، الذي دفعت به الميديا إلى الواجهة، هو كتلة من المتناقضات: من أصول أجنبية يريد طرد الأجانب؛ اسمه غير فرنسي (فإيريك أسكندنافي، وزيمّور أمازيغي) ويريد أن يفرض على أبناء الأجانب، المسلمين بخاصة، أسماء فرنسية؛ وهو سليل وسط فقير يدافع عن البورجوازية والليبرالية؛ وكاتب يدّعي التقدمية ويتبنى خطابا فاشيا عنصريا؛ ومثقف يزعم الإحاطة بكل شيء في شتى المعارف، ولاسيما التاريخ، وفي كل يوم يفضح المتخصصون هراءه؛ غرّ سياسي يريد أن يعيد إلى فرنسا مجدها وهو لا يملك أي مشروع عدا معاداة العرب والمسلمين والدعوة إلى طردهم؛ يقول إنه ديغولي ويبيّض صحائف الماريشال بيتان الذي خضع للنازيين ونفذ سياساتهم لاسيما مطاردة اليهود وحشرهم في معسكرات الموت؛ وهو يهودي وبرنار هنري ليفي يتهمه بمعاداة السامية، فيما رئيس كونفدرالية الجمعيات اليهودية في فرنسا يدعو منخرطيه اليهود علنا إلى عدم التصويت له، للأسباب نفسها.
زيمّور، هذا الذي دأب على شتم العرب والمسلمين وسائر المهاجرين بدعوى حرية التعبير، وتجاوز كل الحدود التي يسمح به المجلس الأعلى للوسائل السمعية البصرية وحتى القانون الفرنسي، لم يحتمل أول حوار أجرته معه القناة التلفزيونية “تي إف 1” بعد إعلانه عن ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، فتهجم بعد البث المباشر على الصحافي الذي حاوره ووصفه بنائب الحق العام. ذلك أنه اعتاد أن يتكلم دون أن يعارضه أحد على قناة وليّ نعمته، رجل الأعمال الملياردير فانسان بولوري، الذي كوّن ثروته في أفريقيا عبر إقامة بنى تحتية في الموانئ والسكك الحديدية والطرقات بخاصة، وصار يشن هجوما كاسحا على شتى وسائل الإعلام الفرنسية، فاستولى على قنوات تلفزيونية (قنال بلاص، سي 8، سي نيوز) ومحطات إذاعية (أوروبا 1 وفيرجين) وصحف (باري ماتش، جريدة الأحد، كابيتال، جيو، المرأة الراهنة، كلوزر، فواسي…) ودور نشر كبرى (إيديتيس، لاهاشيت، غراسّي، ستوك، بلون، روبير لافون، فايار، كالمان ليفي، كتاب الجيب…) علاوة على شركة “فيفندي” المتخصصة في الميديا والتواصل، و”هافاس” التي تتزعم عالم الإعلانات الإشهارية؛ ومعهد استطلاعات الرأي “سي إس إي”؛ وبات يحلم بالاستحواذ على قناة “إم 6” وجريدة “لوفيغارو” لبسط هيمنته على المشهد الإعلامي برمته، وتمرير خطابه اليميني المتشدد المعادي للإسلام، ما أثار جدلا واسعا حول مدى استقلالية وسائل الإعلام والرهانات الديمقراطية في بلد بات يخضع للمجموعات الرأسمالية الكبرى.
ورغم أن بعض وسائل الإعلام، ذات التوجه اليساري منذ تأسيسها، خضعت هي أيضا لرؤوس الأموال كامتلاك روتشيلد لصحيفة “ليبراسيون”، وامتلاك كزافيي نييل (الذي جمع ثروته من المينيتيل الوردي وأفلام البورنو) للقسط الأوفر من أسهم جريدة “لوموند”، فإنها حافظت على خطّها التحريري، لكن الملياردير البروتوني فنسان بولوري سار سيرة مغايرة، حيث فصل كل الصحافيين الذين لا يمتثلون لتوجهه، أو دفعهم إلى الاستقالة، ليشكل قوة ضاربة عبر وسائل تنحو في اتجاه اليمين الأكثر تشددا. وكان لغياب الحدود الإيثيقية في المسائل المالية، إضافة إلى ذكاء استراتيجي لا يُنكَر، ما مكنه من تحقيق مطامعه، بكيفية تسمح بفرض متن أيديولوجي خال من العقد وأخلاقيات المهنة.
وبذلك أمكن له أن يسعى جاهدا لخلق رئيس من عدم، ليس له حزب قبل ترشّحه ولا أنصار، ولا هياكل وتمثيليات نيابية، فهو الذي فتح لزيمّور هذا نافذة في قناته “سي نيوز” (إي تي في سابقا) في توقيت بثّ متميز، استغلها لنشر خطاب الحقد والكراهية، وكسب قاعدة جماهيرية ما انفكت تتّسع، وحضور إعلامي ما فتئ يتزايد حتى بات اسمه على كل لسان وعلى كل صحيفة، مؤيدة أو معارضة، وهو الذي يموّل حملته، وينظم قواعده، ويكسبه أنصارا أغلبهم من اليمين المتطرف، حتى تقدّم في استطلاعات الرأي على مارين لوبان، زعيمة الحزب اليميني المتطرف “التجمع الوطني”، وبات أكثر المرشحين حظوة لمنافسة الرئيس إيمانويل ماكرون.
لقد كان زيمّور هذا مجرد محرّرٍ في “لوفيغارو مغازين”، ومعلقٍ سجاليّ في برنامج على قناة “فرانس 2” غير أن بولوري مكنه من منبر سمح له بساعة بثّ يومية ينشر فيها أفكاره المتطرفة، في برنامج “أمام الأخبار” دون أن يعارضه معارض، أو يصحّح أخطاءه مصحح، بل إن مقدمة البرنامج كانت تسايره وتسعفه بحبال نجدة كثيرة كلما أحست أنه وقع في منزلق خطير، قد يعود على القناة نفسها بالوبال. وثيماته المفضلة، سواء في مداخلاته التلفزيونية الهستيرية، أو في كتاب “الانتحار الفرنسي” أو في كتابه الأخير “فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة” أو أثناء حملته، هي التنبؤ بموت فرنسا التي دمرها المسلمون الذي يعيشون على ترابها، في ما أسماه مسار “التعويض الأكبر”، المصطلح الذي صاغه الكاتب العنصري المتشدد رونو كامو، فضلا عن “جحافل الهمج من المهاجرين الجدد” على حدّ تعبيره.
ولسائل أن يسأل ما فائدة بولوري من دعم هذا الرجل الذي لا يكاد يملأ مقعده؟
والجواب أن زيمّور ليس سوى مطية الملياردير البروتوني لوضع فرنسا كلها تحت كلكله، ووسيلة لجعلها خاضعة لمشيئته. فهو لا يخفي انتقاده لليسار والتقدمية اللذين تسببا، حسب رأيه، في تراجع مكانة فرنسا بين الدول المتقدمة، ورغبته في العمل على استرجاع مجدها، بالعودة إلى مقومات الأمة الفرنسية الأساس، التي يؤمن بها، كالفكر المحافظ والتمسك بالتقاليد والديانة الكاثوليكية، فضلا عن شعبوية هووية “حضارية” يساعد على ترويجها في وسائل إعلامه، عبر صحافيين أمثال زيمّور، وباسكال برو، وسنية مبروك. تلك الأفكار كما يؤكد عالم اجتماع الأديان جان لوي شليغل تندرج ضمن أفق انحطاطي قومي يجعل من الإسلام المشكل الجوهري في فرنسا، مشفوعا بمسائل الهجرة وحفظ الأمن و”الووكية” (wokisme)، بوصفها الخطر الأكبر الآخر الذي تنبغي مقاومته.
ولتحقيق أهدافه، لا يتوانى بولوري، عبر إمبراطوريته، في شن حرب لا هوادة فيها على وسائل الإعلام العامة، بدعوى أنها ذات توجه يساري، خاضعة “للصواب السياسي” (politiquement correct)، ولا بدّ مما ليس منه بدّ أن تقع خصخصتها إذا ما وصل إلى السلطة، عبر ربيبه المدلل زيمّور، حتى يسهل عليه تمرير أفكاره التي يتحالف حولها اليمين المحافظ المتشدد مع اليمين المتطرف.
في كتاب استقصائي بعنوان “كيف صار زيمّور راديكاليّا”، يذكر إتيان جيرار، الصحافي بمجلة “ليكسبريس” أن زيمّور صار راديكاليا في العشرية الأخيرة إثر إعادة علاقاته القديمة باليمين المتطرف ورؤوسه ومنظريه، وصداقاته مع كاثوليك تقليديين، وحتى أصوليين، وقد التقى أيديولوجيّا مع بولوري الذي يشاركه هوسه بهوية فرنسا، والحرب الحضارية التي تقودها ضدّ الإسلام، مثلما التقى مع الكاثوليك الأصوليين حول عدة قضايا مجتمعية والحنين إلى عالم مفقود، كانت فيه فرنسا على رأس الحضارة الغربية والكاثوليكية التي يعتبرونها إرثا.
لا شك أن زيمّور قارئ نهم لكتب التاريخ، ولكن قراءة كتب التاريخ لا تحوّل أيّا كان إلى مدرّس أو باحث أو متخصص في التاريخ. وهذا ما واجهه به منتقدوه حين لاحظوا توسله بسردية ميثولوجية عن فرنسا وإرثها، على طريقة موريس بارّيس وجاك بانفيل، سردية تحظى بإعجاب غير العارفين، ولا يهمه اعتراض أهل الاختصاص من الأكاديميين، فما هم في نظره سوى “دوكسا” دعيّة، فالغاية في نظره هي التماهي مع ولي نعمته فانسان بولوري في صياغة “هويّة سردية” عن فرنسا على مزاجه، وحسب مصالحه التي تكاد تتلخص في كونه هوويّا يعلي هويّته وينكر هوية الآخر، وفي هوسه بكتابة تاريخ مغاير للبحث التاريخي المتين، ينخرط في حرب ثقافية لا أفق لها غير حرب أهلية، وإن شئنا الدقة، إبادة جماعية، لكون المسلمين أقلية لا نفوذ لها ولا عدّة ولا عتاد.
فهل هو في نهاية الأمر رجل يزعم كذبا أنه كاتب كبير ومؤرخ كبير وسياسي كبير ووطني كبير، كما كتبت سولين دو روايي دوبري، الصحافية بجريدة “لوموند”، أم هو في الواقع بيدق يستغله بولوري لتحقيق مرامي الإمبراطورية التي شيّدها، والتي تهدد الديمقراطية في فرنسا، كما أسلفنا؟ ولو يفلح، فسوف يتبع صبيُّه زيمّور قائمة الشعبويين في المجر وبولندا والبرازيل والولايات المتحدة، وفي مقدمتهم دونالد ترامب، ويصبح خطابه الهووي العنصري الفاشستي خطاب الحكومة المحتملة.
يقول زيمّور في كتابه الأخير “تصوروا لو أن عشرين أو ثلاثين مليون مسلم فرنسي يقررون في غد حجب نسائهم وتطبيق الشريعة”، ويخلص إلى أن الحل هو فرض قوانين العلمانية عن طريق الدكتاتورية. وهذا ينمّ بوضوح عن تصور بولوري وربيبه زيمّور للحكم.