هل يمكن صون حياتنا الخاصة في عصرنا الرقمي؟
في 2013 فضح إدوار جوزيف سنودن “الأخ الكبير” الذي كان يراقبنا عن طريق ما نتركه من آثار على الشبكة العنكبوتية وبشكل خاص على مواقع التواصل الاجتماعي. وربما نبه دون أن يدري الوعي العالمي إلى أهمية مسألة “الحياة الخاصة” حينما ندد بوجود برنامج مراقبة سري من تنفيذ دائرة الاستعلامات الأميركية. ومما زاد من مصداقية إدوار جوزيف سنودن كونه اختصاصيا في علوم الكومبيوتر ومتعاون سابق مع وكالة الأمن القومي الأميركي. وهذا البرنامج الجاسوس تنفذ من خلاله الوكالة المذكورة ومكتب التحقيق الفيدرالي إلى كل البيانات التي في حوزة غوغل، ياهو ومايكروسوفت.. والاطّلاع على كل المعلومات المتعلقة بالأشخاص الذين يمرون على الشبكة العنكبوتية.
وقد أحدث ما جاء به الشاب الأميركي صدمة كبيرة في الرأي العام العالمي بعد أن نشرت وسائل الاعلام الفضيحة على نطاق واسع وأصبح معلوما أن التجسس الواسع قد غدا واقعا يشرف عليه “الاخ الأكبر” الأميركي رسميا.
فهل أصبح رد الفعل أمام هذا الخرق للحياة الشخصية أمرا ضروريا ومستعجلا؟
لقد دق كثيرون ناقوس الخطر ومنذ مدة، ففي 1997 لاحظ بيل غيتس نفسه أن “مؤسسات من القطاع الخاص وإدارات تملك الكثير من المعلومات على حسابنا. وليس لدينا أيّ فكرة عن كيفية استخدامها وما إذا كان الاستعمال لغاية مقبولة”. ويدافع آخرون عن ظهور “قاعدة اجتماعية” جديدة مع وسائل التواصل الاجتماعي ومنهم مارك زوكربيرج مؤسس فيسبوك الذي يقول “الناس اليوم أكثر انفتاحا ويشعرون أكثر بالراحة وهم يشاركون غيرهم بالمعلومات الخاصة بحياتهم”.
هل يمكن المطالبة بحق في الحياة الخاصة في هذا العصر الرقمي؟ في مجتمع التكنولوجيات الحاضرة في كل مكان وقطاع؟ أو هو نقاش سيتجاوزه الزمن من الآن فصاعدا كما يعتقد الكاتب الفرنسي جون مارك ماناك في عنوان كتابه المستفز “الخصوصية، مشكلة الشيوخ البلداء؟”.
في الحقيقة، إذا كان تعريف المجال الخاص أمرا معقدا بسبب تعدد أوجهه، فالصعوبة الأساسية تكمن بلا شك في فعالية حمايته على الشبكة العنكبوتية. فهذا “المجال الخاص” مفهوم متعدد الأوجه ومتطور باستمرار ومختلق باختلاف العصور فلا علاقة للخصوصية أو الحياة الخاصة في القرن الحادي والعشرين وما كان سائدا في القرون السابقة. ففي القرن السابع عشر على سبيل المثال كان سكان باريس يستحمّون عرايا في نهر السين حسب مؤرخي هذا القرن وفي المساكن كان الاختلاط هو السائد بين العائلات وحتى ملكة فرنسا كانت تلد أمام الناس. وبما أن مفهوم “الحياة الخاصة”، لم يكن مكرسا بعد، فلم يكن بالإمكان تصور حمايتها. لم يتضمن القانون المدني لعام 1804 في فرنسا أيّ أحكام وقائية في هذا الشأن. ولكن في القرن العشرين بدأ القانون يقترب من الفرد والاهتمام بحياته الخاصة. ويعود هذا الاهتمام إلى ظهور الوسائل التكنولوجية ذات الأداء العالي كآلات التصوير والتسجيل التي بإمكانها التدخل في حميمية الافراد. لقد انتظر رجال القانون في فرنسا حتى سنة 1970 لترسيخ الحق في حياة خاصة وذلك عبر المادة الـ9 من القانون المدني الساري المفعول إلى اليوم “لكل شخص الحق في أن تحترم حياته الخاصة”. وإن عدّد قانون الـ17 من يوليو 1970 تهما مختلفة في ما يتعلق بالمساس بالحياة الخاصة والتي تبناها قانون العقوبات لعام 1992 في مواده 262-1 وما بعدها، فإنه لا يقدم تعريفا قانونيا يسمح بضبط دقيق لمفهوم الحياة الشخصية. وهو ما جعل الفهم يختلف من متخصص إلى آخر، فمنهم من يعرفّه على أنه “المجال الخاص الحميمي السري الذي يقصي منه الفرد الآخرين”. وهو “مجال الحميمية لكل فرد”، يقول آخرون.
وانطلاقا مما سبق يبدو من المستحيل، في كلمة واحدة، في صيغة ما، أن نحدد مسبقا أين تنتهي الحياة الخاصة وأين تبدأ الحياة العامة. يبدو أن هذا السؤال سوف يعتمد دائمًا على التقدير السيادي للقاضي. وفي غياب تعريف قانوني ونظريّ واضح، يحاول الاجتهاد القضائي التفريق والفصل بين ما هو حياة خاصة وعامة. ويختلف تأويل وفهم المفهوم من بلد إلى آخر ومن الصعوبة إيجاد توافق في المسألة. فمثلا يعد الدخول إلي علبة الرسائل الإلكترونية المهنية لموظف من قبل رئيسه في العمل أمر عادي مقبول في آسيا بينما يعتبر اختراقا للحياة الخاصة في فرنسا. وفي الوقت الذي نجد فيه المحكمة الدستورية الجنوب أفريقية تعرف حق احترام الحياة “كحق الشخص أن يعيش حياته كما يريد”، ففي نظر المحكمة العليا في كندا فهو “النطاق المحدود من الاستقلالية التي تتشكل فيها الخيارات الأكثر جوهرية لدى الفرد”.
وما يعقّد الأمر أكثر على مستوى الشبكة العنكبوتية في ما يخص حماية المجال الخاص هو طبيعة نموذج الإنترنت الاقتصادي ذاته إذ مجانية التجوال على خدمات النت مشروطة بتقديم معلومات ومعطيات شخصية يمكن تحديد من خلالها هوية المستخدم الثقافية والذوقية والمهنية وبيع رغباته إلى شركات الإشهار. ونظرا للتشجيع الذي يتلقاه رواد الإنترنت للإدلاء بمعلومات تخصهم من قبل ثقافة “استعراض الذات”، فهم لا يترددون في الكشف دون حياء أحيانا كثيرة عن حياتهم العائلية الخاصة وحياة أصدقائهم.. وتلك هي وقود العالم الرقمي ولها قيمة هي التي تغذي اقتصاد المعطيات. ومن هنا دخلت الحياة الخاصة في حركة السوق الرأسمالي حيث أصبحت سلعة ككل السلع الأخرى.
تعتبر فرنسا من البلدان الرائدة في محاولة حماية الحياة الخاصة إذ تعتبر أنه ينبغي أن تكون تكنولوجيا الإنترنت في خدمة كل مواطن ولا ينبغي أن تنتهك هويته الإنسانية أو حقوق الإنسان ولا الحياة الخاصة ولا الحريات الفردية والجماعية (المادة الأولى من قانون الإعلام والحريات). ومهما كانت القوانين والضوابط فالمعلومات المنشورة على الإنترنت تنفلت من كل مراقبة وتصبح في متناول الغير ومن الصعوبة كيلا نقول من المستحيل أن يستردها صاحبها ويعيش في سلام. وحماية الحياة الخاصة يعني نظريا “الحق في العيش في سلام”، بعيدا عن أنظار الآخرين، عن المراقبة. فهل يمكن صون حياتنا الخاصة في عصر الذكاء الاصطناعي الذي تختلط فيه هويتنا المادية الواقعية وهويتنا الافتراضية الرقمية؟