هل يمكن للشعر أن يكون نسبياً؟

في معضلة السؤال عن القيمة والمعيار
الأربعاء 2020/07/01
الشعر ينشد المطلق

هل يمكن استبعاد ما حلّ بالقيم الروحية من انهيار وخراب في الحياة العربية من فضاء السؤال عن القيمة في الشعر؟ سيبدو مثل هذا السؤال، مجرداً، إن نحن أغفلنا دواعي طرحه. لذلك لا ضير من العودة مراراً إلى طرح السؤال: كيف يمكن تحديد قيمة الشعر؟ كيف يمكن تمييز إبداعية القصيدة وابتكاريتها، وصدورها، بصورة لا تقبل الشك، عن تجربة كيانية لشاعر، من قصيدة يمكن أن تكون صدى، أو ثمرة غارة سريعة على سطر أو لهجة أو نبرة أو صورة مغرية، أو مزاج لغوي، وبالتالي إعادة كتابة، على نحو مراوغ، لتلك القصيدة؛ قصيدة التجربة؟

هل يمكن أن يسعفنا للجواب عن هذا السؤال معيار من نوع ما لتمييز “النسخة” عن “الأصل”؟ قد يستشف من سؤالي نوع من التشكيك في “أصالة” بعض ما يكتب من شعر اليوم. لكن القصد الجوهري من السؤال أبعد من مجرد الرغبة في البرهنة على صوابية الاعتقاد بوجود أصل جامع مانع لا سابق له، من باب التغني بأصالة جوهرانية في نص أول، فالنص الشعري إنما يصدر بالضرورة عن ذات شعرية تناسخت فيها أرواح الأسلاف الشعريين ولكنها خاضت تجربة وجدانية وتخييلية عميقة الغور بواسطة لغة شكلتها علاقة فريدة بالكلمات، وقيّض لها تشاكل مركب ومعقد مع شبكة متعددة الطبقات من العلاقات الجمالية الخلاقة، ثمرتها، في الخلاصة، نص شعري ذو طابع خاص. فليس من نص يولد من ذاته، ولا ينهض من محيط تقيم فيه ذاكرة. وكل نص يزعم لنفسه انقطاعاً عن الذاكرة هو نص لم يكتب.

***

وعلى ميل آخر، فإن كل نص شعري صدر عن اقتفاء أثر لصياد، أو تلفيق لغوي، ولم يصدر عن تدفق للغة الشاعر من مسارب عميقة في تجربته الشخصية، سيبقى بالضرورة، نصاً خيطياً يدرج على السطح، ويتلامح شاحباً، مهما برع شاعره في حياكته، ومهما تزيّى بأزياء عصره، وزيّ عصرنا هو “الحداثة”.

نص شعري كهذا سرعان ما يتعثر ويتهاوى لكونه بلا طاقة ذاتية تمدّه بأسباب التماسك والقدرة على الإغواء، مادام استعار وجوده اللغوي من لغة مستعارة، وليس من لغة قيض لها أن تتدفق من مرجل شاعر صارع ذاته بواسطة لغة اشتعلت في كينونته ليفوز لا بالقصيدة، وحسب، وإنما بلغة القصيدة أولاً، وقد طبعها هذا الشاعر بطابعه الخاص.

***

ليس في وسعنا، أن نطلب شعراً كهذا من كل شاعر يكتب قصيدة وينشرها على الملأ، ولعل اعتقاد القدامى بوجود طبقات من الشعراء، لا طبقة واحدة منهم، هو أمر منطقي، قياساً على درجة الموهبة، ومستوى الثقافة التي يتمتع بها شاعر في عصر.

***

هل يمكن أن يقصد السؤال حول قيمة الشعر، كل الشعر، وفي كل وقت؟ هل من لغة للشعر تسود الأوقات كلها؟ لو كان هذا ممكناً، إذن كيف يتغير الشعر، وهو مثله مثل تيارات تتدفق في بحر اللغة؟

نعرف من تاريخ الشعر، أنه تاريخ للتجدد والابتكار، وتاريخ للذائقة المتغيرة، فما شاع من لغة وموضوعات وخيال ووظائف للشعر ما قبل الإسلام لم يكن نفسه في صدر الإسلام أو في العصر الأموي أو العباسي أو الأندلسي، وصولا إلى العصور الحديثة، بل إن أصوات الشعر وتجارب الشعراء في ما وصف بالعصر الجاهلي كانت آثاراً متعددة صدرت عن طيف واسع من المغامرات الشعرية التي أفصحت في إطار الشكل الواحد، عن تنوع في التعبير عن الذات وعالمها وكشفت القصائد والمعلقات عن تمايزات كبيرة في طبيعة علاقة الشاعر باللغة والعالم، وبتصورات الشعراء عن وجودهم الإنساني ومغامراتهم التعبيرية، وضمناً ميولهم الجمالية، وحملت القصائد رسائل متعددة المعاني والتطلعات. هذا في عصر واحد، فكيف يكون سؤال القيمة، بإزاء العصور المتعاقبة للشعر؟

مؤرخو الشعر، والباحثون المدرسيّون منهم، لاسيما في النصف الأول من القرن العشرين قدموا مساهمات مهمة في دراسة الشعر العربي وظواهره عبر عصوره المختلفة، ووجدنا البعض منهم يبحث في محاولات بعض علماء المسلمين ونقاد الأدب القدامى توليد نظرية للشعر، وهكذا ظهرت في فضاء القراءة أسماء الجرجاني وابن طباطبا وقدامة بن جعفر، وابن قتيبة، وآخرون ممن تلامحت في اجتهاداتهم آثار من نظريات الفلاسفة والنقاد الإغريق للشعر.

المؤسف أن القراءة الحديثة للشعر العربي انصرفت عن هذا الجهد، ولم تسعَ إلى تقييمه ولا إلى تطويره، ولكنها أبدلت به دراسات للشعر احتشدت في مراجعها قائمة باهظة من أسماء المنظرين والنقاد الأوروبيين الذين بنوا مناهجهم النقدية في التنظير للشعر على أساس من الآثار والظواهر الشعرية الأوروبية التي بدأت خزانتها تغتني بالنصوص وقراءاتها مع مطالع عصر النهضة الأوروبي.

***

ليس في وسعنا، بينما نحن نقلب معضلة السؤال عن القيمة والمعيار في الشعر العربي الذي يكتب اليوم، أن نغض الطرف عمّا بذله النقاد المدرسيون العرب منذ مطالع القرن العشرين مروراً إلى دارسين أكاديميين من أمثال محمد مندور وشكري عياد ويوسف خليف وعزالدين إسماعيل ومحمد يوسف نجم وجابر عصفور وإحسان عباس ويوسف سامي اليوسف وخلدون الشمعة وسلمى الخضراء الجيوسي وعبدالعزيز الأهواني وصولاً إلى ناقد أكاديمي كعبدالرحمن بسيسو، الذين لم تفصح بحوثهم ومطالعاتهم النقدية عن تعقب أو اصطياد سطحي للمناهج الأوروبية الحديثة في درس الشعر، على رغم إدراكهم العميق للمصطلحات النقدية والجمالية الأوروبية الحديثة وهو ما حال دونهم وإسقاطها على النصوص الشعرية  العربية التي قاربوها، فالوقوف على هذه المساهمات الرائدة من باب القراءة الفاحصة إنما يمكّن من إدراج خلاصاتها المؤصلة، وذلك في سياق بحث راهن لقراءة مرحلة من الوعي النقدي والممارسة النقدية التأسيسية التي لم تهمل التعرف على المناهج النقدية الأوروبية الحديثة والإفادة منها، وهو ما أسهم عمليا في بلورة رؤى ومصطلحات نقدية غير منقطعة عن السياق التاريخي للظاهرة الشعرية العربية وتجلياتها النصية، ولوعي الثقافة العربية بذاتها العميقة وبالشعر في انفتاحهما على المستقبل.

***

الشعراء على الأرجح هم من بادر، أولا، إلى إقحام النظريات والخلاصات أو المناهج والمصطلحات الغربية في قراءة الشعر العربي، ولنا في مبادرة أدونيس وأنسي الحاج مثال أبرز من غيره، تجلى في مقدمة “لن” الديوان الشعري الأول لأنسي الحاج. هناك ظهر للمرة الأولى اسم الباحثة الفرنسية سوزان برنار، ومذ ذاك وهذا الاسم يتردد في النقاش العربي حول قصيدة شعرية قصيدة النثر. وبصرف النظر عن صوابية هذه المحاولة أو خطئها في تسمية نموذج (شكل) شعري ولد في العربية عن طريق مصطلح مجلوب عبر الترجمة وتوصيفه، فإن نخبة من النقاد العرب المبصرين كانوا حقيقة أكثر حذراً من الشعراء في قبول مثل هذه المحاولة.

عرّجت على هذا المثال، المتعلق بالمصطلح، فقط من باب الإشارة إلى أن تحديد قيمة الشعر أمست عملياً أكثر صعوبة مع ظهور ما جرت تسميته بـ”قصيدة النثر”. مما كانت عليه الحال مع “القصيدة الحرة”. ولكنه سؤال حول المعيار الذي يتيح لنا تحديد قيمة الشعر الذي يكتب اليوم، ليس بوصفنا قراء ينتمون إلى ذائقة جامعة مانعة، ولكن بوصفنا ذائقات متعددة.

هناك في ثقافة نقد الشعر العربي عدد قليل ولكنه مؤثر من النقاد الذين واكبوا بقراءاتهم القصيدة العربية الحديثة (قصيدة النثر والقصيدة الحرة)، من خلال كتاباتهم في الصحف والمجلات، غالباً، وهؤلاء برعوا فرادى ولم ينجحوا مجتمعين في تقديم كشوفات أو بلورة تصورات تتعلق بقيمة الشعر، بمقدار ما عملوا على رصد بعض ظواهر هذا الشعر الجديد. وبالتالي ظل سؤال القيمة معلقاً.

***

أخيراً، هل يمكن الاستدلال على قيمة القصيدة استناداً إلى درجة فاعليتها في الذائقة؟ وهل تتحدد قيمة القصيدة وماهية الشعر من خلال ما تقره ذائقة؟ ولكن ماذا عن تعدد الذائقات، وبالتالي احتمالات أن ترفض ذائقة ما تستقبله أخرى، وتعلي من القيمة ذائقة وتبخسها أخرى.

ما من شك إذن في أن المسألة عصية لكونها مركبة، ورغم استشعارنا الحاجة إلى معيار لتقييم الشعر، فإن تعدد الذائقات يحبط “تقليدية” الفكرة، وينفتح بها على إجابات “حديثة” متعددة الأوجه والاحتمالات، فلا يمكن القطع مع فكرة القيمة استناداً إلى ذائقة سائدة، لاسيما أن لكل سائد في متن هامش يخالفه، ويخرج عليه، وربما يتعارض معه على نحو دراماتيكي.

هل نحتكم إلى النسبي، إذن، ولكن كيف يمكن للشعر أن يكون نسبياً بينما هو ينشد المطلق؟

سؤال مفتوح على الحيرة بفعل ثراء الظاهرة الشعرية وتعدد الإجابات وتنوع الاحتمالات في ما يتصل بقيمة الشعر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.