همّ الكتابة ومتعتها
منذ الطفولة، كان همّي الوحيد ملاحقة الحكاية، أينما وجدت. كنت في صغر سنّي ولوعة بالحكايات التي يسردها لنا عمّي في بيت جدّي أيام العطل أو في ليالي الآحاد. وعندما أصبحت أجيد القراءة والكتابة شغفت بمطالعة القصص. وكان أبي يشجّعني على ذلك ويشتري لنا الكتب وكذلك كانت تفعل المدرّسات التونسيات والفرنسيات اللّائي كن يشجّعننا على المطالعة. أصبحت مدمنة على قراءة الكتب، فما أن أنهي مراجعة دروسي حتى أختلي بكتابي لأعيش تسلسل الحكاية في سكون وصمت، متقمّصة حياة بعض الشخوص وكأنّني أعايشها. كان ذلك بعيد الاستقلال بقليل والتلفزيون لم يحلّ بعد في بلادنا.. بل لم نكن نسمع عنه بتاتا في ربوعنا. كنت أراجع ذاكرتي في ما أعجبني من القراءات فأعيد الجمل والحكاية معا.
كنت منذ الصّغر توّاقة إلى الكتابة فأحلم بذلك الكتاب الذي سأحبّر. كانت عملية الكتابة تلاحقني فأعيد خاتمة الكتاب الذي فرغت من مطالعته إلى مخيّلتي شأني في ذلك شأن الكاتب الذي لا يرضى بما يخطّه في الوهلة الأولى، فأغيّر ترتيب النصّ وكأنّي أتقمّص شخصية المؤلّف الذي أستقرئ.
لقد مثّلت الحكايات التي أثثت مخيلتي الصغيرة والكتب التي قرأت والأحداث التي عشت بعضها ميدان العشق والصّراع المتجدّد مع الكتابة في ما بعد.
بدأ ميلي إلى الكتابة مع اكتشافي اللّغة وعشقي الكبير لها. أصبحت أشتغل عليها كثيرا. أبحث في أغوارها عن الصور أتملّى إيقاعها وأستمتع به. فكأني أؤلّف حقا. أتمرّى بين طيّات الكلمات فأنسج منها صورا وأحاديث ونصوصا تتشكّل في أقاليم الذّاكرة قبل أن تحبّر. تأتيني فكرة القصة أحيانا في لين خفيف وأحيانا أخرى كما الصّفعة، أشعر بآثارها تتفرّع فيّ وتزعزع كياني فأتلهّف لتحبير الكلمة الفاتحة. ولا يحلو لي طعام أو شراب حتى لحظة ظهورها على الورق أحيانا أنشغل بشخوصي إلى حدّ القلق فتؤرّقني ليلا لأنها تمثّل قناعاتي التي تؤلمني مقارنتها بالواقع الذي أعيش والذي قد تعيشه تلك الشخوص في مخيلتي.
في لحظات فارقة وضعت أفكاري قصصا، تلقّفها قلمي وخطّطها على مدى أيام ثم أشهر ثم سنوات. وهكذا تابعت الكتابة منذ سنة 1967 إلى اليوم.
بسط كتابي الأوّل “أعمدة من دخان “حيرتي وانشغالي إزاء الوجود، وكانت الفلسفة تمثّل بالنسبة إليّ مادة انعتاق وتحدّ، فنظرت إلى مجتمعي نظرة عناد حائرة، نظرة كنت أطمع من ورائها إلى تغيير بعض الأوضاع بعد التأمّل والبحث في أغوارها، وكأني مزارع أستقرئ الأرض وما تخفيه بين حصياتها. كنت أرى هذا الواقع أحيانا ورديا وطورا آخر متأزّما صعب الإدراك. لم أكن أستعجل نشر الكتاب بقدر ما كنت أستعجل نشر قصصي على صفحات الجرائد الأسبوعية وأخصّ بالذكر “ملحق العمل” ومجلّة “الفكر” ومجلّة “قصص”.
ثم نشرت “الشمس والإسمنت” معبّرة في هذه المجموعة عن تناقضات مجتمعنا، واعتمدت أسلوب السّخرية كوسيلة للقرب من القارئ في تعرية هذا الواقع.
واشتغلت في مجموعتي الثالثة ” الصّمت” على اللّغة والإيقاع، محاولة البحث من خلال الكتابة عن أشكال جديدة تجاوبا مع أبعاد البعض منها خاصة تلك التي فرضت عليّ شكلها. وكذلك تماشيا مع رغبتي في البحث عن الطّرافة والتجديد. شخوص الصمت عادية ما عدا شخصيتين أسطوريتين هما الجازية والباز.
في قصّة “سمعت عن موت الجازية” كانت رقصة الجازية دائرية ومسرح القصّة كان دائريا كذلك فكتبت القصّة بشكل دائري إذ جعلت ارتباطا بين الجمل يتمثّل في تكرار آخر كلمة في الجملة السّابقة عند بداية الجملة الموالية وهكذا حتى تنغلق الجمل على بعضها، ثم أنهيت القصّة بإعادة كتابة فقرة البداية مما يوحي بالاختناق والحصار.
وفي مجموعة “حكايات اللّيل” حاولت استخدام اللّازمة التي تتصدّر الخرافة في بلادنا مع كتابة حديثة تبدو مثل الخرافة وإن هي ليست كذلك.
وفي مجموعة “هارون يأخذ المنعطف” تطرّقت إلى الكتابة الرّمزية بصفة أدقّ.
وفي مجموعة “شرفة على البحر” بحثت عن الإنسان فقط، ذلك الذي يسكننا.
وفي الختام أقول إنني أشعر بالتّقصير أحيانا إزاء النصّ الذي نكتب إذ له دلالات أخرى يفرزها، وهي تتجاوزني لأنها تنبع كما تعلمون من أروقة قصيّة: هي أروقة اللّاوعي واللاّشعور، وهو ما لا أستطيع تفسيره: مثل اختياري لبعض الشخصيات دون أخرى. فهي تلبسني عوض أن ألبسها نصا وتقاومني وتكرهني أو تحبّني. لذلك يكون اختياري لبعض المضامين دون أخرى.
ذلك هو الصّراع الأزلي الذي يوازي عملية الكتابة ويفتح نوافذ على النفس البشرية ببؤرها وسطوحها، بلججها وشطآنها.