هوس الاستعراض في المجتمع الرقمي
لقد أصبح المجتمع العربي في سياق التكنولوجيات الجديدة، ينتج أمراضا اجتماعية إثر ما نشهده اليوم من إقبال مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي. وعلى رأس هاته الباثولوجيات، نجد هوس الاستعراض كمرض كاد يحمل في طياته أمراضا أخرى تلوح في الأفق سعيا من أجل نيل الاعتراف من الغير. هذا الاعتراف نفسه الذي يعد مطلبا ضروريا ومركزيا بالنسبة إلى أفراد والجماعات، ولتطلعاتهم الأساسية في سياق مجتمع افتراضي مرقمن أضحى يمثل بدوره بديلا عن المجتمع الواقعي، وإن كانت واقعيتنا بل وعقلانيتنا في بعض الأحيان، ترفض رفضا مطلقا إمكانية إحلال الافتراضي محل الواقعي، لكن بالنّظر إلى التحولات الثقافية والاجتماعية التي يستحيل فهمها بمنأى عن حياة الأفراد الاجتماعية، وبمعزل عن النماذج الثقافية المرقمنة المكوّنة لهوية الأفراد الرقمية، لا يمكن بحال إنكار حقيقة هذا الافتراضي الذي بات يشكل فضاء ومجالا تتطور وتتبلور داخله الاستراتيجيات الخاصة بالحياة الاجتماعية والإنسانية على نحو أوسع. ووفق مقتضيات هذا المجتمع المرقمن، صار الاعتراف يتخذ أشكالا ويكتسي ألوانا متعددة تبدو في الغالب وإلى حد بعيد ألوانا مرقمنة. ومع ذلك، يبقى الدافع بل والحافز على الاستعراض في تصوّرنا هو الحاجة النفسية والاجتماعية إلى تحقيق الاعتراف الاجتماعي، تلك الحاجة نفسها التي تبعث على التشيؤ. فبعدما كان التشيؤ نسيانا للاعتراف مع الفيلسوف الاجتماعي أكسيل هونيث، غدا السعي إلى الاعتراف في ظل هذه التحولات يبعث على التشيؤ. كيف ذلك؟ إنه عين السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه في سياق الحديث عن الاستعراض كباثولوجية اجتماعية.
إن كل حديث عن الاعتراف على هذا النحو يقتضي الإجابة عن سؤال ما الاعتراف؟ وعليه، وبعيدا عن كل الشروحات المعجمية، يمكن القول إن الاعتراف هو تلك العملية التي بمقتضاها يكتسب الفرد وعيه بذاته وبكيفية تحقيقها من خلال التفاعل البينذاتي الذي يسوغه الفرد والآخرين في الحياة الاجتماعية، وما يحتويه هذا التفاعل من أشكال للتعامل الاجتماعي. فمن خلال هذا التفاعل التذاوتي إذن، تحقق الذوات معرفة أفضل بوجودها وبالمعايير التي تحكمها. بمعنى آخر، لا يمكن تحقيق ذواتنا بصورة إيجابية إلا عبر عملية الاعتراف، وعن طريق علاقتنا بغيرنا من الناس الذين نتفاعل معهم في حياتنا الاجتماعية على سبيل ما ورد عن الفيلسوف الاجتماعي الألماني أكسيل هونيث في كتابه “صراع من أجل الاعتراف”. وهو الكتاب الذي قام من خلاله بإعادة بناء التجربة الاجتماعية استنادا على أشكال الاعتراف البينذاتي التي يعتبرها هونيث هي المؤسسة والمشكلة لهوية الفرد التي تتطور في الحوار وفي العلاقات البينذاتية مع بقية البشر، وذلك حتى يتسنى للذات تحقيق وجودها ونيل الاعتراف من الآخر؛ حيث الصراع في نهاية المطاف، لا يعدو أن يكون في جوهره إلا صراعا اجتماعيا قائما على أساس الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي.
إن ما يشكل اليوم المعنى المستحدث للحياة الاجتماعية الناجحة في سياق الحديث عن هوس الاستعراض عبر مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتوب، ليس هو التفاعل البينذاتي المباشر الذي ينجم عنه الاعتراف الاجتماعي، بل هو على النقيض، التفاعل البينذاتي الافتراضي الذي بات يدعم السلوك الاجتماعي للفرد، في ظل مجتمع افتراضي مرقمن (عالم افتراضي) أقلّ ما يمكن القول عنه إنه عالم مفرط في التواصل، ينسج الناس داخله شبكة علاقات اجتماعية تواصلية من وراء الشاشة، يغيب فيها الجسد بدلالاته وتعابيره، رغم حضوره المكثف في الصور والفيديوهات.
إنه نمط تواصلي جديد، وتفاعل بينذاتي مستحدث يوجه السلوك الاجتماعي ويتحكّم في وجود الأفراد، وفي أحيان كثيرة يحقق للذات معرفة أفضل بوجودها حتى لو كان ذلك نوعا من أنواع التضليل الذاتي، لكنه بحكم العادة يصبح أمرا واقعا، إنه عين ما يحدث مع جل الشخصيات المؤثرة على قنوات اليوتيوب. صحيح أنه تضليل ذاتي، ومعرفة زائفة غير حقيقية بالذات لكن فقط من منظور المستغرقين في الواقع لتحقيق معرفة حقيقية وواقعية بذواتهم.
إن ما يفسر هذا الاقبال الذي ما فتئ في تزايد مذهل على الاستعراض، هو حاجة هؤلاء الأفراد إلى الاعتراف، وهو ما يعني أن هذا الأخير يمثل حاجة نفسية واجتماعية تخول للأفراد أن يتحولوا إلى ذوات وأفراد مستقلين. فعبر العالم الافتراضي عمدت الذوات إلى الكشف عن حريتها، كما أعلنت الحاجة إلى الاعتراف والحالة هذه، لاسيما في السياق العربي عن ميلاد ” فرد افتراضي” في “مجتمع رقمي” كردّ فعل مضاد أو كآلية دفاعية ضد المجتمع الكلاسيكي الواقعي الذي مازال ينظر لمفهوم الحرية بنظرة متشككة. فمشكلتنا كمجتمع عربي اسلامي تكمن في متخيلنا الاجتماعي للحرية، إذ ما فتئنا ننظر للسلوكيات الغربية (كالعلاقات الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج، شرب الرجل والمرأة الخمر، المثلية الجنسية، التعري في اللباس بالنسبة للمرأة… وغيرها) بعيون عربية مسلمة لا تعير أيّ اهتمام للفروقات بين السياقات الثقافية، باعتبارها سلوكيات مخالفة ومعارضة لما هو سائد ومقبول ومباح دينيا وأخلاقيا واجتماعيا، حيث ينبغي على كل قول أو فعل أو سلوك، أن يكون متّفقا مع ما يوحي به الشرع والدين وما يقرّه المجتمع، وإذا جاء معارضا لمنظومة الأحكام الشرعية الدينية، وللنظم القيمية للمجتمع، يعتبر كفرا وعصيانا لأوامر الله وضربا من ضروب التمرد على القانون الاجتماعي العام الذي سرعان ما يصير مرجعا أخلاقيا لحياة الأفراد داخل المجتمع؛ لأن الديني نجده منصهرا داخل المنوال الثقافي للمجتمعات العربية، ومرتبطا بتصوّراتها عن الدين وعن المجتمع نفسه. وهو ما يحيل عليه المؤرخ المغربي” أحمد الناصري بقوله إن “هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا… وأعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله لأمته وحررها الفقهاء في باب الحجر من كتبهم”.
فهذا التصور للحرية، سيظل بالتأكيد عائقا أمام كل محاولة لميلاد مفهوم الفرد في السياق العربي على مستوى الواقع، إذ يصعب الحديث عن الفرد في ظل مجتمع ما برح يكفّر كل فعل أو سلوك لم يصبح بعدُ بحكم التكرار تقليدا اجتماعيا. لقد غدا من الثابت إذن أن الافتراضي في السياق العربي على وجه التحديد، نظرا للإقبال المتزايد فيه على الاستعراض، ملاذا تحتمي به الذوات وتبحث فيه عن حريتها المفقودة في الواقعي، هذه الحرية التي ما لبثت تؤسس بدورها لمفهوم الفرد. فإذا وجدنا إذن تجليا لمفهوم الفرد العربي داخل المجتمع المرقمن، فذلك لأن في هذا الأخير من الحرية ما ليس في المجتمع الواقعي.
إن الاعتراف لا يتأتى في تصورنا بالتفاعل البينذاتي وحسب، بل بالتفاعل البينذاتي الحر القائم على مفهوم الحرية، حيث التفاعل الاجتماعي الناجع وإن كنا نتحدث عن تفاعل افتراضي، يشترط الحرية التي تقر في صميمها بالاختلاف الذي من شأنه أن يحقق اعترافا بالتميز الايجابي بين لأفراد والجماعات بعضهم عن بعض، مما يحمل الذوات على تكوين صورة عن نفسها تبعث على الشعور بالتميز والاحترام والفخر والقيمة وبالتقدير الذاتي إزاء نفسها. وهو ما يفيد أن الإنسان لا يكتفي برأيه عن نفسه أو بالقيمة التي يقدمها لذاته، بل إنه متعطش للاعتراف بقيمته من طرف الآخرين. فما يشكل الوعي الذاتي للإنسان بهذا المعنى، هي تلك اللحظة التي يتم فيها الاعتراف به من لدن الآخرين؛ بحيث تطور الوعي الذاتي مرتبط دوما بوجود ذات ثانية، لأنه وكما يؤكد عالم النفس الاجتماعي جورج هربرت ميد أن ما يميز الوجود الانساني ليس هو الوعي ولكن الرغبة في الحصول على الاعتراف. مؤكدا هونيث هو الآخر في كتابه آنف الذكر أن “تجربة الاعتراف من الناحية الاجتماعية، تعتبر شرط تحقيق هوية الشخص، وإذا لم يتحقق هذا الاعتراف فإن المرء سيشعر لا محالة بالاحتقار وهذا ما يؤدي إلى إمكانية اندثار شخصيته وزوالها”. فالاستعراض إذن، وبناء على هذا التفسير ما هو إلا مقاومة مضادة، شعورية ولا شعورية، لهذه الشخصية المهددة على الدوام بالاندثار والزوال في غياب الاعتراف.
لقد ترتب عن تجربة الاعتراف في العالم الافتراضي ظهور هويات رقمية للأشخاص انعكست إيجابا على هويات البعض الواقعية الحقيقية. فما يجعل الناس في السياق العربي تلهث من وراء الاستعراض – نظرا لانعدام الاعتراف في المجتمعات العربية – ليس هو حب الاستعراض ذاته، بل هو تلك الحاجة النفسية والاجتماعية التي تدفع بالإنسان إلى السعي جاهدا وراء تلك الشحنات الانفعالية الايجابية التي تجود بها مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب والتي تعطي بكرم وسخاء من الجيمات واللايكات والآدوغات والتعليقات المستغرقة في المجاملة ما لا يقدر المرء التكرم به على أخيه العربي على مستوى الواقع، شحنات تحمل في طياتها معاني مستحدثة للاعتراف. فأن تحصد صورتك الشخصية عددا مهما من التعليقات والتفاعلات وإن كانت تفاعلات رمزية، فإنّ شحنتها العاطفية والإيجابية قد تتجاوز مستوى الرمزي لتشبع تلك الحاجة النفسية والاجتماعية الملحة التي ترفع من شعور الذات بالثقة والتميز فَيُزاح عنها شعور الإهانة والاساءة والاذلال باعتبارها أشكال من الاحتقار أو عدم الاعتراف.
فكل يستعرض بالرأسمال الذي يميزه، هذا هو المنطلق الأساسي للاستعراض عبر مواقع التواصل، فإذا كان الشخص على سبيل المثال شاعرا، استعرض بقصائده الشعرية، وبين على قدرته في ترويض اللغة موظفا الاستعارات والتشبيهات والمجازات… وإذا كان كاتبا أو مفكرا استعرض بأفكاره وبفرادة تفكيره، وبعمقه في التصدي للمسألة، وإذا كان قارئا نهما، استعرض بحصيلة قراءته في السنة بعدد لا يحصى من الكتب، وإذا كان فنانا يستعرض بفنه وبموهبته، وإذا كان بائعا أو تاجرا استعرض ببضاعته وبجودة سلعته… والأمثلة كثيرة. أما عندما يغيب هذا النمط الرأسمالي، يحضر رأسمال آخر، “رأسمال لَحْمي” وآخر “عَضَلي”: أما الأول فيتحدد في الكشف عن جغرافية الجسد وخيراته عند الإناث، وأما الثاني فيتجلى في التباهي بعضلات الجسد البرانية عند الذكور، ذلك كله بغية تحقيق اعتراف متبادل من خلال التعليقات والتفاعلات البينذاتية الافتراضية.
لقد غدا المجتمع العربي في ظل هذا المرض الذي حاق بالحياة الاجتماعية، يعيش نكوصا في مراحل نموه بغرض التثبيت في مرحلة المراهقة، نكوصا أحدث عطبا في سيرورة التطور الاجتماعي، غير أن السبب واضح ومعلوم كما يفسر المتن السابق. فمن أجل غاية الاعتراف أضحى الكل مراهقا؛ فلا شك أن من خاصيات المراهقة الرغبة في الكشف عن كل شيء، وهو أول الاستعراء والاستعراض. لقد صارت الحميمية والحالة هذه ملكا عاما، وغدت الحياة الخاصة انحرافا عن القاعدة، إذ لم تعد للأصل والحدائق السرية قيمة عند الكبار ولا الصغار على حد السواء. فالنكوص باعتباره تقهقرا وارتدادا إلى مرحلة نمو سابقة من حياة الفرد يمثل إحدى الآليات الدفاعية التي يلجأ إليها الفرد ليتجنب ما يعانيه من صراع أو قلق جزئي أو كلي، بالعودة إلى مرحلة أو نمط سابق في حياته. فإذا اصطدم الفرد بعائق يعوق إشباع دافع لديه ولم يستطع التغلب عليه فإنه يتعرض للإحباط، وهنا قد يرجع إلى بعض الأنماط السلوكية القديمة التي كانت تشبع رغباته ودوافعه في مراحل نموه السابقة وتحقق له الطمأنينة، على الرغم من أنها لا تكون ملائمة لمرحلة نموه الحالية. ويمكن عزو النكوص إلى أسباب كثيرة نذكر منها: الأمل في احتمال العثور على الإشباع الذي يبحث عنه الفرد. والإشباع في هذا الصدد الذي تبحث عنه الذوات عن طريق الاستعراض هو الاعتراف كحاجة نفسية واجتماعية، وما الصراع والقلق إلا مظهرا من مظاهر الاساءة والإذلال والإهانة والاحتقار الذي لا يعدو أن يكون إلا شكلا من أشكال عدم الاعتراف على حد تعبير أكسيل هونيث.
لقد عمل الاستعراض كباثولوجية اجتماعية على جعل الإنسان أداة في يد نفسه ووسيلة في سبيل إشباع حاجته تلك، ذلك أن الانسان إذا قبل ولو لمرة واحدة بتشييء نفسه فلا محيد له بعد ذلك عن القبول بوضعه على مدار الوقت. فقد يحدث للضرورة النفسية والاجتماعية أن يحول الإنسان تفاصيل حياته الخاصة إلى سلعة يستعرضها ويستعرض هو بذاته نفسه من خلالها على اليوتيوب، بعدما كانت هاته التفاصيل إلى الأمس القريب تشكل حرمة البيوت، لا يحصل اقتحامها إلا بالكاد، فيظل الانسان حريصا على حجبها وحمايتها من كل أنواع التلصص. في حين اليوم أصبحنا نرى قنوات اليوتيوب بيوتا للأسرار المكشوفة في سبيل تحقيق الفرجة، فلم يعد التلصص في سياق هذا التحول الاجتماعي فعلا مرفوضا – قلب على مستوى القيم – وإنما أصبح فعلا مطلوبا لضرورة الاعتراف باسم «follow me» ليصلك أيّ جديد، ولا تنس أن تفعل جرس التلصص، وقم بمشاركة محتوى القناة مع دائرة معارفك وأصدقائك حتى يعم الاعتراف. إن التلصص بهذا المعنى أصبح مطلبا ملحا لتحقيق التقدير الاجتماعي من خلال “التضامن” الذي يعتبره هونيث نموذجا معياريا للاعتراف، والسبب أن الحداثة تربط المكانة الاجتماعية والتقدير، بالإنجازات الفردية التي يقدمها الفرد، بيد أن الإنجازات في هذا النطاق لا تخرج عن كونها إنجازات فرجوية بالأساس، قائمة على ضرورة الاستعراض الذي بات الإنسان على إثره وسيلة في يد نفسه يتوق بها عن طريق الاستعراض لإشباع حاجته الاجتماعية والنفسية. فبهذا المعنى غدا السعي إلى الاعتراف يبعث على التشيؤ، لا لشيء سوى لأن الاعتراف صار يسير المنال في الافتراضي على الواقعي. بالرغم من وجود تنافس شرس ينقلب في غالب الأحيان إلى صراع بين الأشخاص المؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب، على استقطاب وحصد أكبر عدد ممكن من المعجبين، والمتابعين الذين بدورهم يحصلون على اعتراف في المقابل – اعتراف متبادل – من لدن المؤثرين أنفسهم، على مدى وفائهم وولائهم وإخلاصهم لهم في التلصص ومشاركة الصور ومحتوى القنوات، حيث علاقة المؤثر بالمتابعين شبيهة بعلاقة السيد بالعبد، والفنان بالجمهور، فالمتابع هو من يجعل من المؤثر شخصية ناجحة ومتميزة. كما أن حاجة المؤثر دائما للمتابع، تشبع لهذا الأخير حاجته السوسيوسيكولوجية الملحة للاعتراف، وهكذا فالعلاقة دائما مبنية على تفاعل بينذاتي افتراضي يحقق اعترافا متبادلا يعزز الشعور بالثقة لدى الأفراد.
فالحاجة إلى الاعتراف إذن علاوة على ما سبق، لا يمكن إشباعها إلا بالاعتراف، كما أن حاجة الأمس لا يمكنها أن تشبع حاجة الغد، وحاجة اليوم لا يمكن أن تُشبَع بجرعة الأمس إذ هي الأخرى تحتاج إلى إشباع على غرار الأيام الأخرى، وبشكل يومي ومستمر. يبدو أن الاعتراف في سياق الحديث عن المجتمع الافتراضي المرقمن، غدا مفعوله قصير الأمد، كون موطنه الأصلي ومثواه هو مساحات في فضاء أفقي لا يتسع سوى للحظة ضمن المباشر المتصل، وهي لحظة لا تقود إلى الانفتاح على زمنية ممتدة في ممكنات الذاكرة، بل في زمن منكفئ على نفسه فيما يشبه حركة مكررة بإيقاع واحد، بحيث لم يبق هناك سوى لحظات تعاش وفق إيقاع استهلاكي لا ينفتح على أفق، بل يجدد الرغبات ضمن دورة زمنية يحاصرها الحاضر من كل الجهات، وتلك أيضا تبعاتها على تصورنا للزمنية ذاتها، لقد فقد الزمن امتداداته خارج مدته في اللحظة.
تبدو الحاجة إلى الاستعراض إذن حاجة أساسية لضرورة الاعتراف في سياق أنماط التواصل الجديدة (المجتمع المرقمن) السبب أن هذه الحاجة النفسية والاجتماعية لا تُشْبَع دفعة واحدة ولا يطول مفعولها لزمنية ممتدة، وإنما لانكفاء الزمن على نفسه في حركة مكررة بإيقاع واحد، أصبحت الحاجة تُشبَع بجرعات يومية، وهو ما يولد حاجة دائمة ومستمرة للاعتراف بشكل يومي ومستمر في دورة زمنية يحاصرها الحاضر، وبفعل هذا التصور للزمنية الجديدة تقدم الذوات قسرا أو طواعية على الاستعراض بالذات كوسيلة لأخذ جرعة الاعتراف لإشباع حاجة اليوم النفسية والاجتماعية، شأن الذاوات في ذلك، شأن المدمن الذي لا يستطيع الإقلاع على ما أدمن عليه من مخدرات، فتراه دائما في حاجة شديدة لأخذ الجرعة التي تشبع حاجة اليوم، لذلك يظهر أننا قد وصلنا إلى درجة الإدمان في الاستعراض، فلو غابت مواقع التواصل الاجتماعي، لأصيبت المجتمعات لاسيما العربية، بالاكتئاب والجنون لغياب مفهوم الاعتراف على مستوى الواقع في السياق العربي، الأمر الذي يفسر إقدام العرب بشكل فظيع على الاستعراض. فعلى هذا النحو تحديدا، وبناء على ما سبق، غدا هوس الاستعراض كمرض اجتماعي يبعث على التشيؤ سعيا من أجل الاعتراف.
علاوة على ما سبق، ينبغي التأكيد على ضرورة إعادة النظر في مسألة التربية في السياق العربي، نظرا لافتقارها لمفهوم الاعتراف كآلية اجتماعية كفيلة بوضع حد للصراعات الاجتماعية القائمة على الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي، باعتباره وسيلة تروم دعم السلوك الاجتماعي للفرد من خلال التفاعل البينذاتي الذي يحقق للفرد وعيا بذاته وبكيفية تحقيقها بصورة إيجابية على المستوى الاجتماعي. لقد أفرز غياب الاعتراف في هذا السياق، باثولوجيات اجتماعية أحدثت عطبا في سيرورة التطور الاجتماعي. فمن هنا تستمد الفلسفة الاجتماعية ضرورتها وكذا راهنيتها في السياق العربي من أجل فهم هذا الواقع الاجتماعي الذي بات ينتج أمراضا وانحرافات وآلاما اجتماعية لا يمكن فهمها دون كشف أو تشخيص مسبق لهذا الواقع في سياق التكنولوجيات الجديدة.