هيجل وأفريقيا
يقدم فرانز فانون تصور فريديريك هيجل حول أفريقيا وهو تصور مليء بالنعرات العنصرية؛ نجد ذلك في تعريفه للقارة السمراء إذ يقول: إنها قارة مقطوعة عن التاريخ، على الأقل منطقة الصحراء الكبرى وهي الصورة التي تقطع القارة (بصورة طبيعية) إلى جزأين: أفريقيا مقطوعة عن العالم ومحدودة بجغرافيتها وحيواناتها ونبتاتها غير الإنسانية، غابات كثيفة لا نهاية لها، الزواحف والأفاعي والبعوض وقردة الغوريلا، ذلك الحيوان الهجين بامتياز، لا تصور العمود الفقري لأفريقيا، بل جوهرها ومعناها أيضا. يؤكد فانون في قراءته لهيجل أن الأفريقي شخص مصلوب، لا ثقافة له ولا حضارة، وبهذا العراء يكون وجود الزنجي وكينونته عقدة نقص له لا تفارقه، وتنشأ هذه العقدة لدى كل شعب يمر بتجربة موت أصالة الثقافة المحلية، “إن أفريقيا محكومة بأن تظل خارج منطق التاريخ،.. تاريخ يغفو في أفريقيا والعقل يتحرك دون أن يتقدم.
يرى كلود لفي ستراوس أن هذا الموقف أكثر كلاسيكية وهو يستند إلى أسس نفسية لا علاقة لها بالعلمية ولا بالواقعية، وهدفها التعبير عن الرفض الكامل لأشكال الثقافة الأخلاقية والاجتماعية والدينية والجمالية البعيدة كل البعد عن القيم التي يعتنقها. فتعابير مثل “عادات المتوحشين” و”الواقفين خارج التاريخ” التي يقول بها هيجل والكثير من ردود الفعل الفظة التي تعبر عن القشعريرة والتقزز أمام أساليب العيش والاعتقادات الأخرى التي تختلف عن الثقافة الغربية.
يمكننا أن نقول مع ستراوس إن العنصرية متأصلة في بعض الثقافات الغربية (الثقافة اليونانية والرومانية مثالا) التي كانت تجمع كل ما لا يشترك مع ثقافتها تحت مفهوم “بربري”، وفيما بعد استعملت هذه الحضارة مفهوم “متوحش” بالمعني ذاته. فمن المرجح حسب ستراوس أن كلمة “بربري” يلفها الغموض من الناحية اللغوية، ولا تعبر عنده إلا على المتوحش الذي آتى من الغابة. وهدفه التذكير بنوع من الحياة الحيوانية المتناقضة مع الثقافة الإنسانية. في كلتا الحالتين ترفض القبول بواقعة تنوع الثقافة، وتفضل أن ترمي بالآخرين خارج الثقافة، أي في الطبيعة. يقول ستراوس “إن هذا الموقف الفكري الذي يرمى باسمه ‘المتوحش’ خارج الإنسانية هو تماما الموقف الأبرز والأكثر تميزا لهؤلاء المتوحشين أنفسهم، بالفعل نحن نعلم أن فكرة الإنسانية التي تشمل دون تمييز في العرق والحضارة، كل أشكال النوع البشري لم تظهر سوى متأخرة جدا ولم تعرف إلا انتشارا محدودا“.
يؤسس ستراوس لهذا الموقف أنثروبولوجيًا عندما يؤكد على أن الإنسانية عند الشعوب القديمة تتوقف عند حدود القرية، التي يشير فيها هؤلاء السكان إلى أنفسهم بـ”الناس” وأحيانا يقولون بكثير من الرصانة “الطيبون”، “الممتازون“، ”الكاملون”، الأمر الذي يعني أن القبائل والمجموعات والقرى الأخرى لا تشترك في هذه الفضائل الإنسانية، لكنها تتألف من “السيئين” ومن “الأشرار” ومن “قردة الأرض” من هنا نلاحظ كيف تأسس الموقف الهادف إلى حرمان الأجنبي من الحقيقية الأخيرة إذ يجعل منهم شبحا أو خيالا. هكذا تتحقق أوضاع غريبة حتى يتبادل المتحدثان الرد بقساوة.
ويقدم طرفة مضحكة ومأساوية في نفس الآن، مفادها أن في بلاد الأنتيل الكبرى بعد عدة سنوات من اكتشاف أميركا، حينها كان الإسبان يرسلون بعثات التحقيق للبحث فيما إذا كان السكان الأصليون يملكون روحا أم لا، كان هؤلاء يعمدون إلى إغراق السجناء في المياه وذلك لكي يتحققوا عبر المراقبة الطويلة، عما إذا كانت جثتهم عرضة للتحلل أم لا. وعليه فإن هذه الطرفة النافرة والمأسوية تبرز بوضوح المفارقة العنصرية، ويرد ستراوس على هذا النوع من التفكر العنصري بقول صريح وواضح “فبرفضنا الإنسانية على الذين يبدون أكثر ‘وحشية’ أو ‘بربرية’ من ممثليها، لا نقوم إلا باستعارة واحدة من مواقفهم المميزة، منهم. إن البربري هو قبل كل شيء هو الانسان الذي يعتقد بوجود البربرية”.
لم تفلت شمال أفريقيا من هذه العنصرية الهيجلية؛ قال في الجزء الأول من العقل في التاريخ “ولقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من أفريقيا بأوروبا، ولا بد بالفعل أن يرتبط بها، ولقد بذل الفرنسيون أخيرا جهودا ناجحة في هذا الاتجاه. فهو – مثل آسيا الصغرى – يبدو متجها نحو أوروبا. هاهنا استقر القرطاجيون والرومان والبيزنطيون والمسلمون والعرب تباعا، كما ناضلت المصالح الأوروبية لكي تجد على هذه الأرض موطئا لأقدامها”. فإذا كان هيجل ينظر للاستعمار بعين الرضى، معجبا بنابليون غازيا ألمانيا، مجردا وبقساوة دخول جيوش فرنسا إلى بلاده – تجريدا فلسفيا باردا “روح العالم يمتطي صهوة جواد” – فكيف يمكن لهيجل أن يكون رؤوفا بشمال أفريقيا؟ فهو يؤيد استعمار فرنسا لشمال أفريقيا سنة 1830 لكن لماذا هذا التأييد؟ فإن كانت أفريقيا تحيل عند هيجل على “البربرية” و”التوحش”، وإن كان شمال أفريقيا قريبًا من أوروبا “المتحضرة” فإن على فرنسا أن تدرج هؤلاء الذين يتموقعون خارج التاريخ إلى حركة التاريخ وذلك عبر الاستعمار.
وبناء عليه ليس هناك ما يدعو للغرابة في أن يبرر هيجل الاستعمار والتوسع الإمبريالي الذي خلف الدمار والاستبداد في هذه البلدان إلى يومنا هذا، إن المنطق الهيجلي هذا نفسه الذي به تُستعمُر الدول وتُستنزُف.