وادينا صغير والعالم كبير
أنجزت أعمال أدبية وفنية عظيمة في هذا العالم كثمرة لقاء رتبته الأقدار بين شخصين يتفاهمان ويتكاملان، ويساعد أحدهما الآخر على أن يخرج أفضل ما بداخله. وهكذا فنحن ندين بدهشتنا وغبطتنا أمام أغاني تاساوت، لتلك الصدفة الرحيمة التي جعلت في سنة 1932 معلما فرنسيا شابا يلتقي في حانة بمدشر أزيلال بامرأة استثنائية تلقب بمريريدة. امرأة تحمل في قلبها واديها بقممه وسيوله وأشجاره وماعزه ودوره وعاداته وأفراحه وأتراحه، وتحمل في لسانها أفضل ما تمكنت العبقرية الأمازيغية من اجتراحه في التعبير عن قساوة وجمال حياة تولد وتنقضي وسط قوى هائلة، مرئية وغير مرئية. افتتن الشاب الفرنسي، الذي كانت له آنذاك ميول ومحاولات أدبية، بالشاعرة.
فمنذ سنوات قليلة عيّن معلما بمدينة دمنات، وكان في أوقات فراغه يغامر بالصعود لوادي تاساوت هناك حيث خطت الطبيعة أبهى صورها في الجلال والبهاء والغموض وحيث عمد الإنسان، وبدأب ملحمي، ومنذ ليل الأزمنة إلى بناء تفاصيل حياة قنوعة ومكتفية بذاتها تقدس الطبيعة وترضى بما تجود به عليه. حياة بسيطة جدا تكرر نفسها وتعض بالنواجذ على ما هو جوهري فقط وتتبدى في يومياتها مثل شغب طفولي تحت أقدام قمم تعانق الغيم، وسيول تجرف صخورا هائلة وأشجارا معمرة منحت ظلها بكرم لأجيال متعاقبة. افتتن رونيه أولوج بالوادي وبذل جهدا كبيرا في إتقان الأمازيغية ليتواصل بشكل أفضل مع ساكنيه، لكنه لم يجد السبيل إلى أرواحهم إلا حين التقى، وبعيدا عن الوادي، بصوته الأكثر عمقا وأصالة وشساعة.
وهكذا، شهدت حانة مبتذلة، بمتعها العابرة ولحمها الرخيص وفظاظة ما يجري فيها، لقاء أدبيا كبيرا ومثيرا. كأن العابر والمتعجل في الحانة/الماخور أبى إلا أن ينتقم ويمنحنا شيئا لا يطاله الزمن أبدا. شهدت الحانة تحول شعر شفوي عظيم وهائم على وجهه ومهدد بالضياع إلى قصائد مكتوبة ومترجمة بعد ذلك للفرنسية. والجمل المكتوبة، كما قال نرفال هي “شهود أبدية” ألا تلد المزابل أجمل الزهور وأنضرها؟
استعلائية غربية
لم يتحرر رونيه أولوج ورغم حبه الكبير للأمازيغيين وأوديتهم ونمط عيشهم وثقافتهم وشعائرهم ورغم افتتانه بمريريدة وشعرها من مسبقات الثقافة الأوربية (الغربية عموما) حول الشرق ونزوعها الاستعلائي وتمركزها حول الذات، وهكذا يمكن أن ندرج لقاءه بمريريدة ضمن تلك الصورة النمطية للقاء الثقافة الغربية العالمة والمرهفة والمعقدة بثقافة بسيطة، خشنة، فطرية وغريبة. وأن هذه الثقافة مهددة حتما بالاندثار لولا المسعى الرحيم والعطوف لليد الغربية التي أخذت على عاتقها صيانتها ونشرها.
ويمكن أن نحصي أوصاف أولوج لشعر مريريدة والواردة في مقدمته للتأكد من هذا، من قبيل “فن خشن، بسيط، بربري، متوحش” وأن مريريدة ومهما شمخت فهي ليست سوى، سافو أمازيغية أو أماريليس، أي ظل ونسخة لأصل أقوى وأعظم. لم يكتشف أولوج مريريدة فحسب بل اكتشف واديها قبل ذلك، فهذا الوادي وقبل سنة 1927-1928 -كما كتب-حين توغل فيه لم يكن معروفا لدى الأوروبيين ولم يكن له أيّ احتكاك بالعالم.
لذا حافظ على نفسه كمتحف للعادات والبنيات الاجتماعية العتيقة. هل هذا ادعاء فج؟ لا شك أننا ندين لأولوج بمعرفة شعر مريريدة، غير أن شعرها نفسه يدحض ادعاءاته حول العزلة والانغلاق التام لوادي تاساوت. فقصائد كثيرة تتحدث عن حركة تجارية تعبر الوادي لتربط دمنات بواحات دادس، وهناك ذكر للبغالين الأقوياء الذين كانوا يتكفلون بنقل البضائع التجارية. والناس لا يتبادلون البضائع فقط بل يتبادلون معها الأفكار والقيم والتمثلات، حيثما هناك تجارة هناك تلاقح حضاري.
ثم إن الوادي يوجد في مجال نفوذ مراكش الإداري والتجاري وهناك إشارة لصلة أهله بتلك العاصمة النافذة. وفي نصوص كثيرة هناك ذكر للعطارين، أي التجار المتنقلين ببضائعهم بين القرى، وذكر للفقهاء (الطلبة) وخصوصا فقهاء سوس الذين يشتهرون لدى العامة بأعمالهم السحرية. هؤلاء الفقهاء كانوا يؤمّون صلاة الناس ويعلمون الصبيان في الكتاب ويوثقون صلة الناس المنعزلين بتعاليم الإسلام.
ثم إن وادي تاساوت كان في مجال نفوذ الزاوية الناصرية التي كان لها أتباع كثر وشيوخ بالوادي يقومون بزيارة سنوية لضريح مؤسس الزاوية بتمـﯖروت. وهناك الحضور البيّن للسلطة من خلال المقدم والقائد والظهير (المرسوم الملكي) ومن خلال تعسفها وممارساتها القهرية.
تجليات التواصل
والناس فيما بينهم في الوادي كانوا يلتقون في الأسواق ويطاردون الكلأ لقطعانهم حتى أماكن بعيدة. إن قمم الجبال الشاهقة والوديان السحيقة والتضاريس الوعرة والمسالك المحفوفة بالمخاطر وكذا التقلبات المناخية الحادة لم تكن تفرض على متساكني وادي تاساوت عزلة تامة ومطبقة بل كانت لهم صلات أكيدة بما يحيط بهم، ولعل شعر مريريدة نفسه المحمل بالصور الراقية والحكايات والأمثال والإشارات التاريخية والنزوع الديني الغامر يِؤكد هذه الصلات، بما هو تعبير فسيح عن الوجود الأمازيغي في كل تجلياته.
وتجب الإشارة في هذا الصدد إلى أن ليون الإفريقي، أو الحسن الوزان، وقرونا قبل أولوج، عبر وادي تاساوت ووصفه وتبنى مارمول كربخال نفس الوصف، ومر من الوادي عدة رحالة.
إنشاد لا يتكرر
حين كان رونيه أولوج يدوّن قصائد مريريدة كان يلاحظ بأنها لا تكرر القصيدة الواحدة دون أن تغير فيها، فكل إنشاد جديد للقصيدة هو حالة فريدة لا تتكرر. لذا تتصرف فيها بحسب مقتضيات أحوالها وحسب مزاجها. ولعمري، فتلك من أهم خصائص الشعر الشفوي.
إنه شعر مفتوح ومرتجل يغتني بالأماكن التي يعبرها وبالذاكرة التي تختزنه وبالفم الذي ينشده، إنه كالغيم لا ينتسب لأحد ويقبل الإضافات والتحويرات، وكلّ يهبه من تجربته وواقعه.
ينتمي الشعر الشفوي لجماعة لغوية متجانسة، وهو في الغالب الأعم، بلا مؤلف، وفي حالات قليلة وإزاء نصوص مرجعية تتواطأ جماعات مختلفة، داخل المحيط اللغوي نفسه، على نسبه لمؤلفين عديدين. فكل من أضاف بيتا أو بيتين للقصيدة يصير له الحق في تبنيها.
يرتجل الشعر الشفوي عادة في الحفلات (زواج، ختان، عقيقة) والمواسم الدينية والفلاحية، وفي ليالي الترويح عن النفس، وحتى في الأحداث المحزنة. وهناك قصائد وأناشيد بعينها تنشد وتغنى بلا تغيير يذكر في بعض المناسبات، لأنها مرتبطة بشعائر وطقوس تتكرر كما هي منذ قرون، ويتوارثها الناس جيلا بعد جيل مثل “نشيد تاغونجا” الذي ينشد في فترات الجفاف للاستسقاء. ومثلما تحتاج القبيلة للمحاربين لتحافظ على كيانها وحقوقها في الماء والمراعي فهي أيضا تحتاج لناظم (شاعر) يكون صوتها في المحافل، يشيد بها ويعدد مفاخرها، ويسعفها بتعبيراته حين يلمّ طارئ ما بها، وتحتاج لفهمه وتحليله وتخليده أو لتلبية -ببساطةـ تلك الحاجة الإنسانية العريقة في تحويل ما يقع إلى تعبير يتداوله الناس ويرون فيه أنفسهم.
مبارزات شعرية
وبقدر مـا كانت القبائل تتنـافس وتتصارع فيما بينهـا كـان النظـامون (الشعراء) يتنافسون أيضا فيما بينهم لإثبات من هو الأفضل، وتنظّم لذلك حلقات للمبارزة الشعرية، يكون فيها لكل شاعر أنصار يهللون ويصفقون كلما أجاد شاعرهم. وهناك حكام شبه محايدين لتحديد من أجاد وتفوق.
يتوزع الشعراء داخل القبائل إلى صنفين: مقيمون وجوالون. فبعض الشعراء، الذين يحسون بأن موهبتهم أكبر من أن تسعها قبيلة واحدة، يتنقلون بين القبائل ويقتنصون المناسبات ويحصلون على العطايا من الجميع. ويكون حدث مرورهم بالقبيلة على قدر أهميتهم وشهرتهم. لقد لعب الشعراء الجوّالون دورا هاما في جعل الشعر الشفوي خبزا يقتسمه الجميع وشكلوا حيثما حلوا نموذجا للاقتداء، ولعبوا دورا في تشكيل ذاكرة شعرية جماعية كما كانوا يقرّبون بين اللهجات. ولعل إنشاد مريريدة لقصائد للشاعر الجوال علي إيباقلوين وتبنيها لها لخير دليل على ذلك.
الروح مقابل الجسد
في لقائهما الأول أخذ رونيه أولوج جسد مريريدة وأخذت هي روحه. ومثلما تمكنت شهرزاد في لياليها البيضاء من ترويض شهريار بالحكايات التي يلد بعضها بعضا، وجعله هو الجبار الدموي يقع فريسة لسحر كلمات تغويه وتقوده ليضع نفسه فوق عاطفة الانتقام المقيتة التي كانت تزين له القتل، فإن مريريدة، وبسرعة، قد حوّلت لقاء للمتعة الرخيصة والعابرة إلى لحظة أدبية راقية ودائمة، وحوّلت عتمة الحانة وفاقتها وعريها وبرودتها إلى نور وغنى لا ينضبان. أنشدت مريريدة لرونيه أولوج وبألم هادئ وحنين لا تخطئه الأذن بعض قصائدها وزلزلت كيانه. فها هو الوادي “وادي تاساوت” المهيب والغامض يتكلم، ها هو الجمال الذي كان يحار في وصفه يستعير من اللغة قوائم ويقف أمامه. وها هي تلك العزلات الباردة والمستعلية تفتح قلبها وتحدثه عن كل شيء تقريبا.
التقى أولوج للمرة الاولى بمريريدة وهو معلّم، جاء لتعضيد عمل آلة المستعمر الفتاكة. لا يذكر في مقدمته لأغاني تاساوت وهو يستحضر أصدقاءه سوى جنود بمختلف رتبهم.
التقاها خفيفا مرحا لا يثقله إحساس بالذنب تجاه هؤلاء البسطاء الذين قتلوا وروّعوا ودمرت حياتهم وبنياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وقذفوا في لجج حداثة عنيفة ومتكبرة، لا ترضى إلا بأن تسحلهم على الأرض وهم يقتفون خطواتها الجبارة. التقاها وهو لا يعي حجم الفظاعات التي ارتكبت في حق أهلها وواديها والمهانة التي تعرضوا لها.
وما تواجدها نفسه في حانة سيئة بأزيلال إلا صورة ناطقة على هذا الإذلال. وتمكنت بقوة شعرها، تلك القوة المستخرجة من ثقافتها والمشابهة لقوة الجوع، على حد تعبير أرتو، بأن تجعل منه مريدا ومتعلما في حضرتها بل جعلت منه مجرد ناسخ لأناشيدها. وانتقل، تبعا لهذا، من حقل الذكورة بما تستتبعه من تحكّم وسيطرة وفعل إلى حقل الأنوثة القائم على الخضوع والتبعية والسلبية.
لغة الهيمنة
تعمل الأنظمة المستبدة، على ما نبهنا ميشيل فوكو، على تنذير الذوات المتكلمة وفرض قيود على الخطاب، فحيازته تعني حيازة سلطة قد تكون مضادة ومقوضة، لذا فكلما كان المتكلمون قلة ومتحكّما فيهم وفي سياقات تكلمهم كلما حافظت السلطة على تسلطها.
لذا حين تتسلل امرأة إلى القول وتتقن أسراره، وتمنحه من رقتها وهشاشتها، وتبعث فيه المنسي والمهمل والمكبوت، وتنتصر فيه للمهمش والدوني فإنها تفتن وتبلبل. وهكذا كان الشرف الوحيد والأبقى الذي كان يمنح مريريدة اعتداد إلهة إغريقية حين تنتصب لإنشاد أشعارها في بؤس، وسط العنف المادي والرمزي والإهانة، هو شرف الكلمة. لقد جسدت كما حدث مرارا في كليشيهات المرحلة الكولونيالية صورة “البدائي” البسيط الممتلك لحكمة فطرية صقلتها وراكمتها السنون إزاء الأوروبي المنتمي لحضارة متفوقة لكنها مادية ودون روح.
ثمن فادح
كم من مرة رأى أولوج وسمع لمريريدة طيلة السنوات التي عرفها فيها؟ وما هي شكل العلاقة التي جمعتهما؟ وكيف تأتّى له هو الذي أفرط في الكتابة عن “أبناء الظل” وحاول في محكياته الكثيرة جدا بأن يحيط بكل تفاصيل حياتهم، بأن يقلّ حد التكتم في الحديث عن علاقته بمريريدة، فذكر ما هو أساسي فقط؟
لقد انطوت علاقتهما على جرح، أو جراح ما، أو على الأقل على ألغاز، ومثلما هيأها القدر بكرم أنهاها أيضا بعدم اكتراث. في سنة 1942 سيصاب أولوج بآفة العمى، وبعيد الحرب العالمية الثانية 1945 سيعود للبحث عنها، ولم يجد لها أثراً، لقد تبخرت مثلما تبخر بصره. وهكذا فرقص الفراشات حول نور باهر لا يمكن أن يمر دون أداء ثمن فادح. حاول أولوج، وفي الحدود التي يسمح له بها العمى بأن يجدها لكن أبحاثه كانت بلا فائدة، فالكبار لا ينتهون دوما مثلما ينتهي باقي الناس.
اختفاء غامض
وكان هذا الاختفاء التراجيدي ملح حكاية انتصر فيها الشعر على الدوافع الأولية للقاء. كانت مريريدة في أزيلال مجتثة وغريبة، وكان شعرها لا يعني شيئا للعشاق السيئين -كما وصفتهم- والذين يرتوون كالبغال ويروحون لحال سبيلهم، حتى شهوة قادمة. ولا شك أنها رأت بدهشة وامتنان تعلق هذا الغريب الآخر بشعرها وبذاتها كناظمة، غير أن منطق القدر (أو السحر كما كانت ترى) الذي رماها بعيدا عن واديها القادر على فهم شعرها وتذوقه، لأنه في النهاية صنيعة أهله ومناظره وتضاريسه، هذا المنطق الذي جعل منها “امرأة لكل الرجال” حيث الشقاء اليومي الكبير لتقديم الجسد مقابل اللقمة، دفعها لأن ترحل بعيدا تاركة أسئلة كثيرة ومعلقة وراءها.
لقد فعلت ما فعله حمو ما -إيسمن- إيك، في إحدى قصائدها الرائعة، وضع براد الشاي في قب جلبابه ومرر ساروت الدار تحت الباب وهجر الدار الملعونة دون أن يلتفت للوراء. وفعلت ما يفعله الشعراء دائما حين لا يسعهم المكان وحين يختنقون وسط أناس بعينهم.
هذا الاختفاء الغامض في الحكاية التي قدمها أولوج عن مريريدة كان تعلة للبعض للادّعاء بأن مريريدة لم توجد أبدا، وهي من صنع خيال أولوج وأنه جمع من خلالها ما سمعه من شعر شفوي متفرق في الأطلس الكبير.
إلفة ووحشة
غير أن قراءة الديوان بتأنّ لا تسعف هواة إنكار كل شيء، فهناك ومن خلال معظم القصائد تجربة وجودية أصيلة ومتسقة وملتصقة بشكل مبهر بعادات وطقوس وتمثلات ساكنة وادي تاساوت. “فأغاني تاساوت” ليست تجميعا لمنتخبات شعرية إنها تجميع لنفثات صدر مكروب (باستثناء قصائد سيدي علي إيباقلوين) إزاء عالم قاس وغريب أخذ منها كل شيء ومنحها القصيدة فقط. لذا تحضر كل أشيائها، تحضر جميعها وهي تتفرس في هذا العالم مزدحمة ونافرة في فمها، أليفة وموحشة، جذلى وباكية، صغيرة وكبيرة، مبتذلة وعظيمة وخرافية، رغم أن كل شيء زائل وعابر.
الشاعر يولد شاعرا أو لا يكون، والشعر متطلب فهو إن لم يبدأ معك الطريق من أولها فهو لا يرضى أبدا بأن يلتحق بك في منتصفها أو في نهايتها. لقد بنت مريريدة ومن عناصر بسيطة ومتناثرة، من أسمال وجود شقي في طبيعة وتضاريس قاسية، ومن حطام حياة عرفت فيها تقريبا كل شيء، رغم صغر سنها حين التقت بأولوج، عالما شعريا كاملا ومنسجما. لم ينجح هو نفسه في كل نصوصه التي خصصها لأصحابه الأمازيغ من أن يبدع شبيها له، أو يقترب، ولو قليلا من قوته.
سر الاصل الضائع
هل نقل أولوج وبأمانة شديدة أشعار مريريدة للغته؟ أم أنه تعهدها بقدرته الشعرية، وجودها، وأسقط وأضاف، وقام بخيانة مزدوجة للنص، خيانة الترجمة في حد ذاتها، وخيانة ترويض “نصوص متوحشة” وجعلها “أليفة” مستساغة، تكاد تشبه ما تتوفر عليه كل لغة من شعر شعبي وشفوي؟ يصعب الجواب في ظل فقدان النص الأصلي.
غير أنه يجب الإقرار لأولوج بأنه حاول جاهدا بأن لا يترجم فقط كلمات، بل يترجم على الأخص روح النص الشفوي الأمازيغي القائمة على تداخل مخصب بين الغنائي والحكائي، وعلى تكرار لازمة تمنحه إيقاعا داخليا وتحدّ من دفقه ليسهل تذكره وترديده، وعلى ثراء لغوي مدهش تحضر فيه فهرسة كاملة للحياة اليومية وللطبيعة والكائنات المحيطة بها. وحاول أن يخلق تعايشا صعبا بين الفرنسية والأمازيغية وذلك بمحافظته على بعض الصيغ والكلمات الأمازيغية داخل النص الفرنسي، وكأن الأمازيغية تقوم من خلاله بغزو مضاد للغة المستعمر.
غير أن الإشارة هنا واجبة لبعض القصائد التي تبدو فيها صنعة أولوج وتدخله لمنح النص عمقا إنسانيا من قبيل حديث بعض القصائد مثل قصيدتي “قوس قزح” و”ابتهال للقمر” عن الخصوبة والانبعاث. فإن كان الشعر الشفوي الأمازيغي يلامس وبشكل رمزي هذه المفاهيم فإنه لا يتمثلها ولا يملك القدرة اللغوية للتعبير عنها. ومن قبيل أيضا ذكر مريريدة للكريستال هي لا تعرف البرتقال ولا الورد كما أشارت في إحدى قصائدها، ومثل وصفه للغد بأنه ثقب أسود.
تلك الصيغ وغيرها تتعارض مع إقرار أولوج نفسه في مقدمته بأن “معجم تشلحيت فقير جدا” هل الأمر يتعلق هنا بتأويل محدود ينقذ بعض التعبيرات من حرفيتها المستغلقة، كما ذهب المترجم في مقدمته؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك ليصل إلى إعادة صياغة كاملة لبعض نصوص مريريدة؟ لا أملك جوابا محددا، لكن ومقابل معظم قصائد الديوان العميقة في بساطتها والمتناغمة كلية مع أفق واد يعيش انكفاء سرمديا على الذات، قصائد بمعجم لا يفيض عن حاجة ما يحتاجه الناس في يوميٍّ يكرر نفسه، هناك قصائد يبدو أنها صعدت من نفثات صدر مكروب لبنت بسيطة إلى حذق شعر متطور وعارف بدقائق بناء الصورة الشعرية وتوليد المعنى.
اللحظة الغائبة
لم تنشغل قصائد مريريدة نايت عتيق باستعراض صدمة أهلها إزاء الدخول الدامي للمستعمر الفرنسي ولم تترك للتاريخ بأهواله الجسام سوى حيز صغير لكنه مثقل بالدلالات، حتى أنه يشكل الخلفية العميقة لمعظم القصائد التي نرى من خلالها الجريمة ولا نرى المجرم إلا فيما خلّفه وراءه من أدلة جنائية.
لقد أمسكت الآلة الرهيبة للمستعمر بتلابيب الوادي الصغير وقذفت به في العالم الكبير، فصار أهله الذين لم يكونوا يتجاوزون المراعي والأسواق في تحركاتهم يثخنون بعيدا، بعيدا جدا. يقطعون بحارا ويشاركون في حروب في آخر الدنيا وينخرطون في الرحى الرهيبة للتقدم، تاركين للأمهات وللشيوخ وللصبايا في سن الزواج ألم الفراق وفراغ الهجر. إن أسوأ ما يمكن أن يفعله لك الاتصال بالعالم هو أن يريك رغبات وملذات وحاجات جديدة ويعذبك بشكل سادي في مسعاك للحصول عليها. كانت فرنسا في حاجة لأرواح جسورة في حروبها الكثيرة، وإلى سواعد لمعاملها، وإلى نساء للترويح عن جنودها، ووجدت في بسطاء الوادي حطبا جيدا لكل ذلك. ومثل صياد ماكر كانت تري ضحاياها الحب الموجود في آخر الطريق، وتخفي الشباك التي ستلتقطهم واحدا واحدا قبل الوصول إليها.
لم يكن أهل الوادي يعرفون عذابات وتمزقات وغموض الطريق التي صاروا يسيرون فيها تتخايل أمامهم وعود سعادة كاذبة، لذا تبتهل مريريدة لريح جبل تيزولا وجبل أمصود:
“أبعدا الرغبات التي تطرد من البلد الشبان المتعطشين للمال”.
وهكذا صار من النادر أن تجد بيتا في الوادي ليس له قريب في البعيد أو أن تجد قلبا لا يلغ فيه نصل الفراق والفقد. يموت الشبان جماعات في الحروب لا يعرف حتى مكانها ومبرراتها أو تنقطع أخبارهم نهائيا ويعجز البعض الآخر عن العودة الخائبة بكل تلك الجراح التي تثقل أرواحهم وحتى إذا عادوا فإنهم يأتون صامتين ذاهلين يدور بداخلهم صراع رهيب بين عالمين. (…)
يسير الشبان لنار الحروب وعرق المعامل وتسير البنات لقذارة المواخير وبؤسها ومثلما يؤجّر الشبان دماءهم وعضلاتهم تؤجّر البنات أعضاءهن الجنسية، إنهن، في نظر مريريدة لمهنتها عاملات جنس بكل دلالة الكلمة يكدحن طيلة النهار، ويتداخل في ذواتهن البائع والسلعة، وتتوزع حياتهن بين الحصير وحوض الاغتسال. غير أن باب العودة، وبخلاف الشبان، يكاد يسدّ في وجوههن.
حظيت رؤية مريريدة لمهنتها وجسدها باهتمام زائد لدى القلة الذين انتبهوا للشاعرة. وذهب بعضهم، وفي إسقاط لما يعتمل حاليا من حراك يخص المسألة النسائية، إلى اعتبارها متمردة، ومثالا للمرأة المعتدة بجسدها وبذاتها والثائرة على الأعراف الاجتماعية وعلى كل ما يبقي المرأة رازحة تحت سلطة ذكورية فجة. غير أن أشعار مريريدة ينبغي أن تقرأ كما هي لا كما يراد لها أن تكون، فهي لم تسع أبدا إلى مواجهة مجتمعها بقدر ما نددت بقدرها وباللعنة أو السحر الذي سلّط عليها وجعل منها “امرأة لكلّ الرجال”.
فريدا ومريريدة
وأنا أقرأ أشعار مريريدة، وأنا أترجمها كنت أستحضر دوما فريدا كالو الفنانة المكسيكية التي عاشت آلاما لم يعشها أحد. وتهتكت مثلما لم تفعل امرأة، وضاجعت كل من لقيته تقريبا ورغم أنها لم تكن تسيطر على نار جسدها، مثل مريريدة تماما، فإن قلبها كان ممتلئا بحب رجل واحد هو رسام الجداريات الكبير دييغو ريفيرا “الذي لم تحبّ أحدا كما أحبّته، ولم يعذبها أحد كما عذبها”. ومثلما تصعد حقول الرماد وبعد أن يتبدد الدخان زهرة معجزة وملغزة، تمكنت فريدا كالو في حياة قلقة وممزقة أنهتها مصلوبة في سرير للعذاب الشديد من أن ترسم بورتريهات مذهلة لها. لا يولد الجمال أحيانا إلا في قلب العذاب والدمار “ولدت مومسا، ولدت رسامة..” هكذا قالت فريدا في مذكراتها وكأنها تتحدث بلسان مريريدة التي ولدت مومسا وشاعرة في الآن نفسه. وتمكنت بالشعر وحده من أن تستعيد واديها بتفاصيله الأشد صغرا وتستبقيه داخل صدرها تماما مثلما تمكنت فريدا من أن تستعيد جسدها المعطوب وتنثره في قران مع الكون محلقة به، في صور سوريالية، في سماوات وفي لقاءات مع كائنات لم يعد بإمكانه هو المشلول الاقتراب منها.
“أغاني تاساوت” أيضا هي أغان للحب الذي لا يخلّف إلا المرارة، الحب المستحيل، الذي يولد في الوقت الخطأ ويكون في الغالب الأعم من طرف واحد، الحب الهش الذي يعصف به الرحيل والرغبات المجنونة، حب الدموع والشكوى والذبول والانتظار اليائس، الحب الذي يترك جراحا وندوبا في الروح لا تندمل أبدا. لا يمكننا أن نعيش دون حب لكننا حين نحب نتعذب، غير أننا ننسى لنحب من جديد ونتعذب من جديد. وهكذا دواليك “فالسنون تطمر أفضل من الأحجار” تقول مريريدة.
المقدس والمدنس
في شعر مريريدة يتآخى المقدس والمدنس وتضيع الحدود فيما بينهما. فمقدسها خفيف وشاعري ومتسامح لا يحضر فيه مكر الفقهاء وجشعهم (جريمة الشرف الوحيدة التي ذكرت في القصائد ارتبطت بفقيه) ولا عنف وغلّ الصحراء. الله رحيم جدا وهو لن يلتفت حتما لصغائر ذوات زرع فيها الحب والشهوة والحسد والنميمة. الله هنا وهو يرى العناء وامتهان الكرامة في الماخور ولو أراد فسيمنح مريريدة قدرا آخر في بيت آخر، مع زوج وطفل وأشغال تقبل عليها بفرح.
هذه الرؤية الدينية للعالم والقائمة على أن كل ما في الطبيعة يتكلم ويؤثر ويتصل ببعضه البعض، وكل ما فيها مليء بالروح والحكمة إن عرفنا كيف ننصت له ونحاوره، هي التي جعلت الكائنات التي تحفل بها قصائدها: الضفادع، النحل، أشكال الطيور، الكلاب، الماعز، الخنزير. لا تحضر كموضوع لفعل الإنسان بل كشركاء كاملين في حياة نتقاسمها معهم.
صوت الأعالي
صوت مريريدة هو صوت الأعالي المدوي الذي رضعته من ضفدعة البراري الخضراء الرشيقة (مريريدة بالأمازيغية) رضعته من الطبيعة في قوتها وعنفوانها واندفاعها، وصار بفضل بركة غامضة يذهل الوادي بقوته وصفائه. لقد منحت مريريدة الحق في الشعر من الوادي نفسه وكانت جديرة بهذا التكليف. ائتمنها على أسراره وحكمه وأناسه وأشيائه وكائناته. وحتى وهي فيما يشبه المنفى في أزيلال وحين يكون الجوّ رائقا تتراءى لها في البعيد القمم العالية والملهمة لواديها وترسل لها نداءه. ومثلما لاذ بدر شاكر السياب وهو يحتضر بجيكور قرية صباه فمريريدة كانت تؤوب لجنّة طفولتها كلما أنشدت شعرا. أوبة تجعل كل شيء: الأشغال اليومية في البيت، رعاية القطعان وتنقيلها للمراعي، أعمال الحقول، الشعائر والأناشيد المصاحبة لأداء بعض الأشغال، والتعويذات التي تقال في لحظات الخوف. آمنت مريريدة مثل أهلها بأن هناك خواف (جن، غول، أرواح) تبطش بالناس وتسلّط عليهم ما لا طاقة لهم به، ورأت أهل بعض الدور يموتون تباعا وبعض القرى تقفر من أهلها، رأت الموت والحياة وهما يتصارعان في الوادي ويتعاتبان ويتخاصران ويخرج أحدهما من الآخر، ورأت نفاق الناس وتسلطهم على بعضهم البعض، ورأت احتقار النساء واعتبارهن في أسفل تراتبية اجتماعية وقيمية، وتلظت فيما رأت، آنذاك ولد بداخلها الشعر كأداة لمجابهة زمن يعصف بكل شيء، ولترويض حنين غامر وللسيطرة على نداء الوادي بداخلها لذا جاءت قصائدها رقيقة ومدوية، ودودة وساخرة، منتقدة ومتواطئة.
لم تنظم مريريدة شعرها للناس، ولم تفعل ذلك من أجل منفعة ما. شعرها لذاتها، تكتشف من خلاله نفسها، وتستعيد به واديها حين يهزها الحنين إليه. إنه شعر ذات مجروحة ومعذبة، صنعه المنفى بذلك الإحساس اليومي القاتل: إحساس التواجد في المكان الخطأ، وصنعته مهنة يقتل فيها الإنسان يوميا: مهنة تريك كلبية الإنسان وبهيميته. ورغم وضاعة حياتها وبؤس كل ما يحيط بها فقد كانت، بالشعر وحده، وفي مآسيها الحزينة، تتسامى عن كل شيء وتطاول قمم واديها العالية.
لو لم يلتقي رونيه أولوج بمريريدة لما قرأنا شعرها، فكم من مريريدة أخرى ضاع صوتها في الأعالي لأنها لم تجد من يدونه وينشره في الناس.