واقع عربي مضطرب يفرض أسئلته على المثقفين

الخميس 2018/02/01
لوحة: جوني سمعان

كغيرها من الأحداث المفصلية في التاريخ العربي، جاءت الثورات العربية بأسئلتها التي فرضتها اللحظة المطالبة بخروج على البنى الفكرية المهترئة والسائدة والتي أسهمت في قمع الشعوب العربية طوال سنوات عدة. تفجرت أسئلة حول هوية العرب ودولهم، على أي أساس ينبغي أن تبنى أفكارهم ومؤسساتهم؟ ما موقع الفكر الأصولي من الحياة؟ وما هو موقعهم من تراثهم؟ ولماذا جاء تخلفهم عن الركب الحضاري؟ وبعد سنوات من ذلك “الربيع″ الثوري، فرضت الوقائع الدامية إجاباتها على أرض الواقع؛ صراعات دموية وحروب أهلية وسيطرة عسكراتية وبراثن الإرهاب التي باتت تنهش في الجسد العربي، وجغرافيات يجرى العبث بها.

فرضت الإجابات المباغتة نفسها على اهتمامات المثقفين والمفكرين العرب، الذين انصرفوا نحو تحليل البنى الفكرية التي أدت إلى هذه النتيجة المأساوية، وطفا على السطح سؤال الهوية والتراث وفق المستجدات الجديدة، لتجرى النقاشات حول تحليل أسس الفكر الإرهابي ومنابعه ودور الفكر الديني الأصولي في تزكيته، كيف نتعامل مع هذا التراث في ظل المتغيرات الجديدة؟ وما الذي تعنيه الهوية العربية في ظل كل تلك الانقسامات؟ ولماذا كل هذا التردي العربي؟

في مصر، فتحت أبواب عدد كبير من الصالونات القديمة والحديثة لتلك المناقشات الفكرية، وانصرفت المراكز الرسمية لعقد المؤتمرات والندوات للحديث عن ضرورة تجديد الفكر الديني لمواجهة تلك التحديات، فيما كانت السنوات الماضية شاهدة على تأسيس عدد من الحركات والجمعيات بجهود فردية سعت لإثارة النقاش الفكري على نحو أكثر عمقا يسعى للغوص في دور الأسس الفكرية القديمة في تأسيس التخلف العربي.

“العرب” استطلعت آراء عدد من الكتاب والباحثين بسؤالهم حول التحولات التي رافقت الفكر العربي في السنوات الأخيرة، وإلى أى مدى يمكن الحديث عن فكر نقدي عربي جاد استطاع مقاربة الإشكاليات الراهنة خصوصا التغيرات المتعلقة بالإرهاب والفكر الإسلاموي وإشكاليات الهوية والتراث؟

اضطراب البوصلة

يوضح الأكاديمي والكاتب المصري كريم الصياد أنه من الصعب اليوم الحديث عن تطورات تامة التبلوُر في الفكر العربي بُعَيْد ثورات 2011، ذلك أنّ المفكر العربي لم يزل في حالة من انعدام الوزن، واضطراب البوصلة. وترجع هذه الحالة من الحيرة العامة إلى عدد من الأسباب، قد تكون من أهمها أسباب انفجار هذه الثورات نفسها.

فقد لبث المفكرون العرب المعاصرون عقودا، منذ انتكاسة 67 وحتى 2011، يطوّرون أطروحة أساسية، مفادها أنّ التحديث السطحي للدولة والجيش في نموذج علماني-قومي-عسكري لم يكن الحل؛ إذ لم يمنع ارتداد الجماهير إلى الأطروحات الإسلامية بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل، وأن التحديث الحقيقي يبدأ بتفكيك البنَى الثقافية السائدة، ونقدها، من أجل إحداث قطيعة تدريجية معها، أو إعادة بنائها، لتكون أساسا فوقيا يخدم تحديثا أعمق غورا، على نموذج (التنوير الذي يؤدي إلى التثوير).

وفي هذه الحقبة 1967-2011 ازدهر عدد من أهم المفكرين العرب، جمعوا بين المناهج والاستراتيجيات النظرية الحديثة والمعاصرة من جهة، وبين معرفة بالتراث العربي-الإسلامي من جهة أخرى، على درجة كافية من الشمول، أهّلتهم للقيام بدراسات مَسْحِيّة لهذا التراث وتطبيق ما تعلّموه من مداخل منهجية، مثل أدونيس، والجابري، وحسن حنفي، ونصر أبوزيد، وأركون، وحسين مروة، والطيب تيزيني، وغيرهم.

اشتعال ثورات 2011 كان نقطة فارقة في هذا المسار؛ لأن الجماهير الثائرة لم تتأثّر إلا لماما بأفكار هؤلاء المفكرين، كما أنهم التفّوا حول الأطروحات الإسلامية سريعا في البلدان التي انتصرت فيها الثورة، ونشأت فيها حكومات جديدة، كتونس ومصر. وهي المسألة الأجدر بالذكر حين نتناول النتاج الفلسفي العربي حاليا.

ثلاث مراحل

يرى الصياد أنه يمكن تقسيم الفكر العربي المعاصر إلى ثلاث مراحل: أولا: مرحلة الإحياء والبعث (الطهطاوي، الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده،..) وهي مرحلة نشأة الفكر العربي المعاصر، والمستمرة منذ مئتي عام تقريبا وحتى نكسة 67. ثانيا: مرحلة المشروعات العربية المعاصرة، وهي البادئة بالنكسة صعودا إلى الثورات العربية، والتي سبقت الإشارة إليها أعلاه. ثالثا: المرحلة الحالية، دون توصيف نظري، بل تاريخي؛ لأنها كما سلفت الملاحظة لم تتبلور بوضوح بعدُ نظريا. وبرغم ذلك يمكن رصد ملامح عامة وإشكالات أساسية تميزها.

من أهم هذه الإشكالات: الشكّ في دور المفكر العربي المعاصر. لماذا لم يسهم الفكر العربي المعاصر في قيام الثورات، أم أن دوره الفعلي لم يزل مؤجَّلا؟

وسؤال الهوية: هل الهوية، عربية أو إسلامية، مقولة تقدمية، أم أنها هي التي حولت المطالب السياسية والحقوقية المشروعة في الثورات إلى مطالب طائفية، وبالتالي حوّلت الثورات إلى حروب أهلية، كما في حالتي سوريا واليمن؟ وسؤال الإصلاح الديني: هل يمكن تحقيقه في وجود الإسلام السياسي واستغلال السياسة للخطاب الديني-التعبوي من قبل كل من السلطة والمعارضة؟

هل يمكن أصلا إصلاح الدين الإسلامي؟ وكيف يمكن فيه تحويل خبرة الإيمان من خبرة مؤسسية إلى خبرة فردية، وهو أساس كل إصلاح ديني؟ وسؤال الإرهاب: هل هو إرهاب إسلامي ذو أساس ديني قائم على تأويل معين للنصوص الدينية، أم إرهاب عربي، أي أنه نتيجة لتدهور الأوضاع السياسية ومستوى المعيشة في أغلب البلدان العربية؟ وسؤال التخلف السياسي: هل لعب الإسلام السياسي دورا في تأخير الإصلاح السياسي باعتماده على عاطفة المتدينين، لا وعيهم بالحقوق والواجبات المدنية، وبالتالي أثبت دورا رجعيا من جهة السياسة؟

وبرغم أن الإجابات أغلبها لم تتبلور تماما بعد، فمن الواضح أن طرح هذه الأسئلة، وبالذات وضْع الإسلام السياسي في أول اختبار عربي حقيقي له بعد 2011، ومدى دور المفكر العربي في الثورات وما بعدها، في حد ذاته يعبّر عن مرحلة مختلفة إلى حد كبير عمّا سبقها في الفكر العربي الحديث، كما يعني أننا بإزاء تحوّل معتبَر في المسار الفلسفي-الثقافي العربي، تحول في الفكر وفي المفكّر، يكاد يكون، أو ربما يصير في المستقبَل القريب، جوهريا.

تفاعل إيجابي


لوحة: جوني سمعان

من جانبه، يعتقد الناقد والكاتب المصري عبدالسلام الشاذلي بأن الفكر العربي المعاصر يتفاعل بإيجابية مع التحولات الفكرية والثقافية التي يشهدها العالم منذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين متمثلة في انهيار السرديات الكبرى للأمم والشعوب العربية والإسلامية والأوروبية أيضا، وأصبحت فكرة صدام الحضارات محركة لردود فعل فكرية وسياسية مختلفة؛ كان من أبرزها طرح الفكرة المضادة متمثلة في سؤال التنوع الثقافي وقضايا الهوية وحوار الحضارات والأديان وحقوق الإنسان، كما أعادت الثورات العربية المعاصرة طرح قضية الديمقراطية في الثقافة العربية والبحث عن طريق للعدالة الاجتماعية وسؤال الهوية الوطنية بكل جوانبه الثقافية والسياسية.

يرى الشاذلي أن ثمة فكرا نقديا عربيا جادا قد نبت في السنوات الأخيرة مستشهدا بعدد من المشاريع الفكرية والثقافية عند عدد من كبار المفكرين العرب في كل من المغرب والمشرق العربي من أمثال محمود أمين العالم ورفعت السعيد وفؤاد زكريا وشكري عياد ونصر حامد أبوزيد وجورج طرابيشي وصادق جلال العظم وأدونيس وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري وعبدالله العروي بكل من مصر والمغرب العربي ومحمد أركون من الجزائر.

كما يمكن ملاحظة وجود فكر نقدي جوهري في بعض معالم الإنتاج الروائي والنقد الأدبي المعاصر بدءا من نجيب محفوظ حتى جمال الغيطاني وواسيني الأعرج وعزالدين جلاوجي بكل من مصر والجزائر.

ويتابع: ثمة تياران رئيسيان يحكمان مسيرة الفكر العربي منذ زمن بعيد؛ التيار الرشدي المعتزلي العقلاني وتيار ابن تيمية والأشعري والفكر السلفي عموما والذي تتغذى عليه جماعات العنف بكل أشكالها. معركة الفكر العربي المعاصر معركة شرسة نظرا للأرضية المعرفية الضحلة للعملية التعليمية والتربوية في معظم مدارس وجامعات العالمين العربي والإسلامي.

براثن الأصوليات

يُحمِّل أستاذ التاريخ الحديث سمير فاضل الأصوليات الدينية مسؤولية التردي الحضاري العربي، فمنذ ألف عام والمنطقة العربية تعيش في قيم وثقافة القبيلة، وابتعدت تماما عن قيم وثقافة المدينة التي استطاعت نقل العديد من دول العالم نحو التقدم، ونسيت الشعوب أو تناست لماذا ابتعدنا نحن عن هذا العالم؟ ورضينا أن نقبع في ثقافة وقيم القبيلة التي جذبت معها شعوب هذه المنطقة نحو التخلف.

يقول فاضل “في تقديري أن السبب الرئيسي في هذه الأزمة هو الوقوع في براثن الأصوليات الدينية، والتواطؤ الشديد والواضح بين هذه الأصوليات والنظم التي كانت تحكم هذه المنطقة حتى عام 2011، وتركت هذه الأنظمة الحبل على الغارب لهذه الأصوليات لكي تتحكم في مفاصل هذه المجتمعات، ولأن هذه الأصوليات تعيش على أفكارها البالية والتي ورثتها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.

فهي لا تملك من أدوات المستقبل شيئا، ومن كان يحكم هذه المنطقة كان لا يعنيه أمر تقدم هذه المجتمعات، والتي اكتفت أن تعيش على مظاهر الحضارة الإنسانية والتي من الأصل هي ليست صانعة لها أو حتى مشاركة في أي جزء منها، فقد انتهت عصور المشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية منذ نهاية القرن الحادي عشر.

ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش في أزمة طاحنة، تغلغلت الأصوليات الدينية في مفاصل المجتمعات العربية، واستطاعت لعب دور كبير في صياغة البنية التشريعة والقانونية المنظمة للحياة في هذه المجتمعات، ناهيك عن التأثير الثقافي الواضح في سلوك الأفراد المضطرب والذي يعاني من التشتت الواضح والصراع بين الحياة الحديثة وضغوط الماضي بكل ثقافته، ومن هنا تضخمت أزمة هذه المنطقة والتي باتت عاجزة عن إيجاد حلول لمشاكلها وأزماتها المتزايدة، ويوما بعد يوم تتكشف الحقائق أمام الجميع حول مكامن الأزمة وأسبابها”.

ويلفت فاضل إلى أن ثمة تحديات كثيرة تواجه المنطقة، فبينما بدأت منطقة الخليج والسعودية في خلع الرداء القديم والرث لثقافة القبيلة وسيطرة الأصوليات الدينية، وبدأت أولى الخطوات نحو الإصلاح الحقيقي، نجد في مصر تمددا لهذه الأصوليات في حياة المصريين، وهي تشارك في صياغة نوعية الحياة التي يعيشها المصريون، يحاول النظام الحالي إخراج مشهد أفضل، ويجاهد من أجل إخراج هذه الأصوليات من لعبة صياغة طرق الحياة للناس والعباد، والتي عفا عليها الزمن وباتت من مخلفات العصور الوسطى.

لن نستطيع الحديث عن مستقبل أفضل لمصر قبل أن تكون هناك ملامح لمشروع تنويري كبير ينتشل البلاد من وحل الأصوليات، والعمل على إخراجهم من صياغة مفردات الحياة للمجتمع، وتأثيرهم الواضح في التعليم والإعلام، دون هذه الخطوات الهامة سنظل نراوح أماكننا لفترة طويلة خاصة من التحديات الكثيرة القادمة إلينا بفعل سرعة إيقاع الحياة في كل العالم الآن، والعمل على سد هذه الفجوة الحضارية هو أهم مشروع يجب أن تعمل قوى المجتمع الواعية على إنجازه قبل التراجع.

الحديث عن الخراب العربي الراهن كان متوقعا، وتحدث كثيرون عنه قبل سنوات من وقوعه، ولأن الأنظمة السابقة كانت لا ترغب في سماع رأي مخالف لها، فقد وقعت الواقعة، والتي كشفت حجم الفساد والترهل في هذه الأنظمة، وقد وضح هذا التأثير في الأزمات السياسية سواء كان ذلك على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وباتت القدرة على فعل شيء من أصعب ما يكون، وكان ذلك بفعل الانقطاع التاريخي الذي وقعت فيه هذه المنطقة بفعل سياسات من كان يحكمها، والعالم يشاهد ويعرف ذلك، للقدرة والفعل معايير أخرى لم تتوفر لهم، ولذلك فهم يفضلون المراوغة الآن حتى يأتي وقت آخر ربما تكون لديهم هذه القدرة المفقودة على فعل أو إدارة شيء.

ووفق ما يراه فاضل، فهذا لن يحدث ما لم يحدث تغير جوهري في بنية هذا الشعب الثقافية، وأن يكون لدينا مشروع ثقافي تنويري يشار إليه بالبنان وليس مجرد شعارات مرفوعة وكلمات تلقى هنا أو هناك أو مجرد أمنيات انتخابية فقط، أو تمرير لمرحلة هي الأصعب في حياتنا، نحن على مفارق طرق وعلينا الاختيار ما بين الماضي البغيض أو الذهاب إلى المستقبل، ولكلاهما أدواته وآلياته وعلينا الاختيار.

زعزعة التابوهات

الباحث المصري أحمد سعد زايد يرى أن أهم ما يمكن الحديث عنه في الفكر العربي الراهن هو زعزعة التابوهات في العالم العربي والذي ظهر من خلال تغيرات في التعبيرات الفكرية لدى الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، وتشكُل مجموعة من الصالونات في العالم العربي المهتمة بمناقشة المسائل الثقافية والفكرية، والذي يعطي مؤشرا على وجود حراك ثقافي وفكري، فإن كان الربيع العربي لم تتبلور نتائجه الإيجابية على الصعيد السياسي إلا أن الظواهر الفكرية والثقافية شهدت تغيرا يمكن ملاحظته من خلال تلك الحالة من الحراك؛ فالإجراءات المتخذة في السعودية على سبيل المثال وظهور جماعات تطالب بالحرية سواء في خلع الحجاب أو الحرية المثلية أو غير ذلك من المطالبات الساعية للوصول إلى الحرية بمفهومها العالمي، سواء اتفقنا أو اختلفنا معها، إلا أنها تمثل تحولا فكريا في المنطقة العربية.

ويوضح زايد أن السنوات التالية للثورات العربية شهدت سؤالا أساسيا طرح من قبل ولا يزال مطروحا بقوة؛ وهو سؤال الهوية، والذي نشهد حوله الكثير من المناقشات الساعية لتفكيك ماهية العرب وأين هم وإلى أين ستكون وجهتهم، ورغم أن هذه النقاشات لم تحسم نتيجتها إلا أن الإجابات النهائية سيمليها العقل الجمعي سواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه النتيجة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.