وجهان لإنسان واحد

الجمعة 2019/02/01
لوحة محمد ظاظا

يرسم لنا الحديث عن سؤال الاعتراف مسارين يبدوان للوهلة الأولى بأنهما متمايزان من حيث دلالة المفهوم فلسفيا وأدبيا غير أنهما يحتفظان بماء التشّكل الأول ذاته ورعشة التفتق البكر للفكرة، وهما بذلك يلتقيان لقاء الفرع بالأصل.. مسارٌ يظهر لنا رسوخ المفهوم في حقل الدراسات الفلسفية، ولعلّ العودة إلى الكتابات المبكرة في الموضوع تحيلنا دونما الكثير من التفكير إلى اعترافين شهيرين كان لهما بالغ الأثر في تاريخ الفكر الفلسفي. ونتحدث هنا بالطبع عن اعترافات القديس أوغسطين ومن بعده جان جاك روسو ثمّ ليون تولستوي الذي استرفد من هذا وذاك، وهلمّ عركا للمسألة وصولا إلى أكسيل هونيث (A.Honneth). فلماذا نبدأ بأكسيل هونيث ولماذا هذا القفز السافر؟ إنّ ما يهمّنا في هذه الورقة المقتضبة ليس رصد تحولات المفهوم وضبطه وفق معطى كرونولوجي معيّن، وإنما إبراز الانعطافة الحديثة لما بات يعنيه كلّ من أدب الاعتراف بما هو إفصاح ومكاشفة (Une confession).

والاعتراف (La reconnaissance) راهنا بوصفه الرؤية أو الصيغة النقدية المتأخرة التي عنيت بطرحها مدرسة فرانكفورت. يعتقد صاحب كتاب “الصّراع من أجل الاعتراف” بأنّ نظرية هابرماس التي استندت إلى قواعد لغوية صورية في عملية التواصل قد غفلت عمّا يعرف بالتجارب الأخلاقية للجور الاجتماعي وهو بهذا (أي هونيث) يسعى لبلورة براديغم جديد مجاوز  في نطاق ما يسمى إجمالا بالاعتراف.

ليس خفيّا على أحد بأنّ التجربة الهونيثية في هذا المجال قد تأسّست على أفكار هيغل خاصة في رصد صراعات العلاقة بين “العبد والسيّد”، فهو يرى بأنّ العلاقات الاجتماعية بما هي علاقات “تذاوت” تروم في الأخير تحقيق الاعتراف المتبادل، لأنّ الوعي بالذات لا يحدث خارج العلاقة جملة وتفصيلا (علاقة الذات بالآخر)، وهذا ما بيّنه من بعده بول ريكور (P.Riceour) حين قال بأنّ الاعتراف هو قبل كلّ شيء اعتراف متبادل بين ذاتين ووعين، أو هو بالأحرى تعارف يتجاوز المعرفة البسيطة حول الشرط الإنساني للآخر، فالعنصر المعياري الحاسم الذي يكون حاضرا في الحياة اليومية يغيب عن وصف هابرماس التواصلي لها، الحياة الجسدية والانفعالية والنفسية هي الكفاح من أجل نيل التقدير الاجتماعي لأنّ المسائل الأخلاقية لا تتبدّى فقط أثناء عملية التواصل الحواري الخاضع لشروط المناقشة والحجاج، وإنّما هناك ذوات حاملة لها تصبو إلى تحقيق الاعتراف في أبعاده الأخلاقية والاجتماعية والقانونية. لهذا تمخضت رؤية هونيث في ما نسمّيه نظرية أو فلسفة الاعتراف عن ثلاثة مجالات بيذاتية هي: الحبّ والحق والتضامن، متناسبة مع ثلاثة نماذج لتحقيق الذات: تحقيق الثقة في النفس، تحقيق احترام الذات وأخيرا تحقيق التقدير الاجتماعي.

ومسارٌ تظهر فيه الحاجة إلى الاعتراف أمرا ضروريا ومطلبا وجوديا به يتحدّد الكائن البشريّ على أنّه الكائن الذي لم يُعهد إليه بالانهمام بالذات كما أشار أبيكتيتوس (Epictète) في محادثاته وحسب بل هو الكائن الذي يعبرّ عن الذات اعترافا. وقد أوضحت الفيلسوفة الإسبانية ماريا زامبرانو (Maria Zambrano) في كتابها “الاعترافات، جنس أدبيّ” بأنّنا لا نكتب تلبية لضرورة أدبية ولكن التعبير عن الحياة هو الضرورة. ومن المعلوم أنّ الاعترافات – التي أصحبت جنسا أدبيا يمكن تمييزه عن الرواية والشعر والقصّة- في أصلها ومنبتها هي الطقسُ الدينيّ المسيحيّ الذي يكشف من خلاله المرء عن أخطائه وتجاوزاته طلبا للمغفرة وتحرّرا من الآثام، إنّه نوع من التعرّي والمكاشفة في حضرة الرّب/الوسيط، ليس إفصاحا كليّا وإقرارا عاما بالخطأ وإنمّا عرض لأدق تفاصيل هذا الخطأ وأكثرها إحراجا من الناحية الأخلاقية، لهذا يظهر الاعتراف أو الإقرار بالذنب في تعريفات معجم الديانة الكاثوليكية على أنّه سرّ التوبة (Le sacrement de pénitence).

ومن هنا نلاحظ أنّ المفهوم الأدبي للاعتراف يتصّل بالمفهوم الكنسيّ أو الدينيّ ومن ثمّة ظهر ما يعرف بأدب السيّر الذاتية والمذكرات (le journal intime). ولئن كان الاعتراف عند أكسيل هونيث هو نوع من الاسترجاع الأفقي ذي الأصل الهيغيلي لمفهوميْ الوعي بالذات والوعي بالآخر ضمن إشكالية تطرح حدود العلاقة بينهما صراعا يغذيه الاختلاف، علاقة من حيث هي “رغبة” في تثبيت هذه الاختلافية عبر إثبات الذات وحقها في نيل الاعتراف، فإنّ هذا الأخير -أي الاعتراف- يتخذّ له مفهوما مغايرا كما تبناه صاحب مدينة الله، إذا ما ركّزنا على ما تتقوّم به وعليه علاقة الذات بذاتها وبربها ضمن سياق تطهيري صرف لا مكان فيه للآخر سوى الذات بما هي آخر إن شئنا توريط رامبو في المسألة، ألم يكن هو من اعترف في “فصل من الجحيم” “… كانت حياتي وليمة تتفتّح فيها كلّ القلوب، وتسيل كلّ الخمور”؟

تنظيف المدخنة

ينبجس من كلّ أدب اعتراف أو ما يصطلح عليه في اللسان العربي بالسيّر الذاتية صراع مرّ بين شيء يخصّنا ويعنينا كما تشير ماريا زامبرانو وشيء آخر يظهر غريبا وعدّوا بالرغم من أنّه منّا ويحمل أسماءنا. في الاعتراف، يشعر كلّ إنسان بأنّه قطعة ناقصة وحين الخروج منها، فإنّه يفتح حدود ذاته لينقلها إلى وفي ما هو أبعد منها ليجد تفرّده الكامل، خروج -من الذات إلى ذوات أخرى- وقد استخدم هيغل عبارة  “Ausser sich sein” للتعبير عنه نشوة وغضبا.

إنّ ما يهمّنا هنا ونحن نستحضر اعترافا استثنائيا انتقيناه على سبيل المثال لا الحصر، ونتحدث عن تجربة الكاتب المغربي محمد شكري، هو تبيان ما في هذه التجربة من عمق إنساني مترامي الشُغوف والجراح، تجربة روائية هي بمثابة الوشم والندبة معا، وإذا اعتبرنا مع نيتشه أنّ ما قام به محمد شكري من خلال روايته “الخبز الحافي” هو تنظيف مدخنة من منظور سيكولوجي، أو مع أوغسطين على أنّه نوع من التطّهير الذي لا يبغي صاحبه سوى التخلصّ من حمل ثقيل منهك للذاكرة وللضمير، فهل يحقّ لنا كقرّاء إدانة الاعتراف في سفوره ومجونه وعندئذ نقيم ما يشبه المحاكمة الأخلاقية للعمل الأدبي، أم نعترف بالاعتراف؟ 

وبالتالي نعود لمبدأ أكسيل هونيث القائل بحرية الذات وحقها في التقدير الاجتماعي. إنّ مجتمع الاحتقار الذي تحدّث عنه هونيث قد يتوسّع ليضمّ طائفة من القراء والنقاد أيضا، وعليه يصبح مفهوم الاعتراف في تقديرنا محوريا وشرطا ضروريا لقبول الكاتب وهو يتعرّى أمام نفسه في مقام أوّل وأمام قارئه في مقام ثان، خاصّة إذا علمنا، بحسب ما أكدّه ميشال فوكو، بأنّ الاعتراف محكوم في الواقع بجملة من المعايير الاجتماعية التي تمثّل شرطا لإنتاج الذات والتبادلات العابرة للذوات كمّا ووصفا.

أعترف لك لتعترف بي

قد لا يكون في نيّة أيّ كاتب وهو يدوّن مذكراته الحصول على اعتراف ما، وقد يكون ضمنيا هناك رغبة جامحة في معانقة الآخر معانقة النازف المشروخ وهو يرددّ: أعترف لك لتعترف بي! إنّ مراوحة بين المرئي واللامرئي في استلهام فكرة مارلوبونتي تدعونا لطرح سؤال الجدوى والمقابل في أدب الاعتراف، ولعلّ تمثيلا بسيطا نقرّب به المعنى، ذاك الذي ورد في أخبار الملوك ومملوكيهم، السادة وعبيدهم، فثمة موقف تاريخيّ وثقافيّ كان يهيمن به المتفوّقون اجتماعيا، فيُذكر مثلا بأنّ النبلاء ما كانوا يبالون بعريهم حين يظهرون أمام خدمهم، وهذا لأنهّم يعتبرونهم لامرئيين وغائبين، وهذه نظرة استعلاء تنّم عن فعل قصديّ بعدم الرؤية.

وهي كما لخصّها هونيث عنف ضدّ الآخر، هكذا وبإسقاط مباشر يمكننا القول في حالة ما إذا اعتبرنا الكتّاب متفوّقين ثقافيا بأنّ اللامرئية الحاصلة هي نوع من العنف ضدّ القارئ أيضا وبالتالي يتوقفّ الأدب هاهنا على أن يكون انفتاحا على الغيرية. بيد أنّه في المقابل لا يمكن إنكار المسعى الحقيقي لهؤلاء الكتاب وهم يقولون ها نحن بكامل زخمنا السّري نعرّي أرواحنا فلا تنبذونا! فيما اختصر رامبو قائلا: “… كلّ العبء قد طرحته، فلنقدّر إذن دون ذهول براءتي”. هذا هو فعل التقدير الذي يحمل على الاعتراف بالاعتراف.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.