وجهان ووجهتان

الأربعاء 2020/01/01
لوحة شفيق أشتي

تنشطر مفردة “رواية” من حيث اللغة والرؤية والدلالة على معنَيين، الأوّل “مصدريّ” من الفعل “روى، يروي، رواية”، والثاني اصطلاحيّ أجناسيّ هو فنّ الرواية المعروف بوصفه نوعاً سردياً بالغ الحضور والتداول والانتشار، وثمّة تشابك نسيجيّ ضمنيّ كبير بين الشطرين، من حيث أنّ “الرواية” بالمعنيين كليهما تنطوي على كلام مرويّ لحادثة مُعيّنة في زمان ومكان محدّدين تقوم بها شخصيات متنوّعة، ولعلّ “التاريخ” على هذا النحو هو رواية صرف يتوفّر على جملة العناصر كافة من زمن ومكان وحادثة وشخصيات، يرويها راوٍ أو مجموعة رواة لهم مقصديّة عالية في روايتها وتدوينها وإشاعتها وتداولها، ومن هذا التاريخ ما هو شفاهيّ يتحوّل بمرور الزمن إلى مرويّاتٍ أو سِيَرٍ شعبيّة تتناقلها شفاه الأجيال، وما يدوّن منها يصبح ما نصطلح عليه اليوم “التاريخ”.

رواية التاريخ رواية مقصديّة ومصلحيّة تبتغي إيصال رسائل أيديولوجيّة في الدرجة الأساس لا يعنيها مطلقاً أن تكون فنيّة جماليّة، وراويها يتوجّه نحو هذه الغاية بما يمتلك من إمكانات على تحشيد قوّة الحادثة، وأسطرة الشخصيّة، وتوسيع حجم الفضاء السرديّ، لأجل تمكين الرؤية من بلوغ مراميها على أفضل سبيل ممكن ومتاح ومناسب، لذا لا يألو راوي التاريخ جهداً في استثمار طاقة المتخيّل على نحوٍ ما كي يرتفع بروايته إلى المقام الذي يريد، ولكن في حدود ضيّقة ومحسوبة بدقّة متناهية، إذ لا يوجد تاريخ واقعيّ حقيقيّ ينقل الأحداث التاريخيّة الواقعيّة كما جرت فعلاً نقلاً فوتوغرافياً حرفياً صافياً ونقياً، بل تعتمد رواية التاريخ وتدوينه على وجهة نظر الراوي “المؤرّخ” ومرجعيته المنهجيّة في طبيعة المرويّ وتحولاته وقضاياه، وفي انتمائه لما يرويه سياسةً وعقيدةً ورؤيةً، وهو غالباً ما يخضع لأيديولوجية معيّنة لها أهداف وغايات ومقاصد خاصّة سواء أكانت هذه الأيديولوجيا ذاتية أو موضوعية، فيسخّر لها ما يمتلك من أسلوب تعبيريّ وصناعة خبريّة روائيّة لتحقيق ما يصبو إليه من صورة سردية تستجيب لمنطلقاته وطموحاته، ولا تتطابق ضرورةً مع ما جرى فعلاً على أرض الواقع.

وهذا ما يفسّر اختلاف الروايات التاريخيّة حول حادثة تاريخيّة واحدة تتباين روايتها بين راوٍ وآخر، بحسب المنهج التاريخيّ الذي يعتمده كلّ منهما في انتخاب زاوية الرؤية التي يسرد الحدث منها، واللقطات المحدّدة المنتخبة التي يلتقطها ويعنى بها العناية الكاملة من بين كلّ لقطات الحادثة كما جرت فعلاً، ومقدار الضوء الذي يسلّطه على أجزائها وبنياتها وطيّاتها وظلالها واحتمالاتها، وحجم العناية التي يوليها لقسم منها على حساب القسم الآخر، حتى ليبدو وكأنّ الراويان يرويان حادثتين مختلفتين تمام الاختلاف مع أنّ الحادثة واحدة.

الرواية بوصفها فناً سردياً متخيّلاً على هذا النحو لا تبتعد كثيراً عن التاريخ من حيث اعتمادهما على مرويّ/رسالة يقوم على وجهة نظر الراوي، لكنّ راوي التاريخ يتلاعب ويتصرّف بالحدث الواقعيّ وفق رؤية تخدم منهجه في التعبير والتدليل والتصوير، في حين يشتغل الروائيّ داخل فضاء متخيّل يستعير التقاطات وعلامات وإشارات ومعطيات في سيرته الذاتية والاجتماعية والثقافية والرؤيوية في مرجعيتها الواقعية، ويسرّبها بذكاء محسوب داخل نسيج متخيّله كي ينجح في صناعة نصّه الروائيّ على النحو المطلوب، ولا يمكن قطعاً استبعاد السيرذاتي التاريخي من أمام قاطرة العمل الروائي السائرة على سكّة التخييل، وليس من المصلحة الفنية مثل هذا الاستبعاد إن حصل لأنّ الروائيّ يكون حتماً أكثر براعة في رواية وتدوين ما يخصّه وما مرّ به وجرّبه أفضل ممّا يستعيره من تجارب أخرى أو يصنعه في مخيّلته، ومن ثمّ يعشّق ذلك بأسلوبيته الخاصة مع تجربة الرواية ليصوغ نسيجاً سردياً خاصاً تشتبك فيه ملامح من التجربة السيرذاتية مع فضاء التجربة الروائية في عالمها التخييليّ.

العلاقة بين التاريخ والرواية أكثر من وطيدة وأكثر من جدلية فهما ينتميان لمنظومة حكائيّة واحدة يستحيل فصلهما، لا تاريخ بلا فعالية سردية روائية ولا رواية بلا فضاء تاريخيّ، يغذّي أحدهما الآخر على نحو أكيد وأصيل وفعّال ومنتِج، فالتاريخ ركيزة أساسيّة تختزن تجارب وحكايات وشخصيات وأزمنة وأمكنة وخبرات لا يمكن التغاضي عنها أو إغفالها، حين يريد الكاتب لعمله الروائيّ أن يحصل على الخصب المطلوب والحجاج القادر على إقناع المتلقّي بصدق ما يروي، ليس الصدق التاريخي الواقعي الاجتماعي الأخلاقي بل الصدق السردي الفني الجمالي الذي يخلق إحساساً في منطقة التلقّي بأهمية ما يروى لها وفائدته، إذ أشار كثير من الروائيين الكبار إلى ضرورة هذه العلاقة وخطورتها في ميدان الإبداع الروائي مؤكّدين أن لا مناص من استثمار التاريخ روائياً، على ما في هذه المحاولة الاستثمارية من أخطار محدِقة لا بدّ للروائي أن يتحسّب لها ويتفادى ما وسعه ذلك مغبة الوقوع فيها، فعامل الوعي وحساسية الاستبصار السردي هما من أشدّ العوامل الواجب حضورها في توظيف التاريخ روائياً كي لا يقع الروائي في حالة التنازل للتاريخي على حساب السردي الروائي، وهذه قضية في غاية الدقّة والخطورة لأنّ ثمّة خيطاً دقيقاً جداً بين التوحّل والتورّط في التاريخي بلا منقِذ، والعبور من فوقه نحو التخييليّ بلا حدود، فينبغي أن يكون التاريخيّ في الروائيّ أداة ووسيلة وليس هدفاً وغايةً للوصول إلى الكيان السردي الروائي المطلوب.

أمانة التوثيق والنقل الحرفيّ للواقعة التاريخيّة واحدة من أكثر القضايا التباساً وتعقيداً في منطقة التاريخ ومنطقة الرواية معاً، فما هي حدود هذه الأمانة في نقل الحادثة التاريخيّة كما جرتْ فعلاً في أرض الواقع من غير زيادة أو نقصان؟ وكيف يمكن التعامل معها حين تنتقل الحادثة من حاضنتها التاريخيّة إلى حاضنة أدبيّة لا تُعنى بصدقيّة المحتوى، بل تلتقط صورة منها ذات حساسيّة خاصّة لتوظيفها أدبياً على نحوٍ لا علاقة له بأمانة التوثيق بل بتخييليّة المكتوب، وتظلّ المعاناة قائمة في تفسير المحتوى السرديّ الروائيّ حين يعتقد كثير من القرّاء أنّ البطل هو الروائي نفسه، لذا نجد الروائيين يضعون عتبة تنبيهيّة في الصفحات الأُولى من رواياتهم تقول بأنّ أيّ تشابه بين إحدى شخصيات الرواية والشخصيات الموجودة في الواقع ليست سوى مجرّد مصادفة، ولا علاقة لشخصيات الرواية بالواقع لا من قريب ولا من بعيد، مع أنّ بعض القرّاء يذهب في رؤية تأويلية سيميائية معيّنة نحو معاملة هذا التنبيه بأنّه توكيد لهذه العلاقة وليس نفياً لها، لأنّ الافتراض الأساس في مثل هذه الحالة أنّ الرواية عمل تخييليّ لا يحتاج إلى مثل هذا التنبيه، وينبغي مقاربته على هذا النحو من دون الدخول في مقارنات بين شخصيات الرواية وشخصيات واقعية بينهما شبه ما.

لوحة شفيق أشتي
لوحة شفيق أشتي

التصرّف برواية الحدث أسلوبياً يعكس منهجيّة الراوي (المؤرّخ/ الأديب) في تحقيق مقاصده ونيّاته من سردها على نحوٍ معيّنٍ، وهذا التصرّف مبنيّ أساساً على رؤية مسبقة تنحاز نحو التاريخيّ أو الأدبيّ استناداً لمعايير وأهداف وسياقات تمثّل شخصيّة الفاعل السرديّ، وإذا كان الراوي “المؤرّخ” يتحرّك بدوافع أيديولوجية غالباً ويتصرّف بالواقعة التاريخيّة المُراد سردها تاريخياً على وفق هذه الرؤية، فإنّه يسعى إلى التلاعب بها على النحو الذي يستجيب لهذه الدوافع ويحقّق الجزء الأكبر من تجلّيها في المسرود، في حين لا يعيش الراوي “الروائي” تحت هذا الضغط إذ هو يتحرّر أساساً من هذه المقاصد الأيديولوجية ذاهباً باتجاه مقاصد فنيّة ذات طبيعة نوعية خاصة، لا تستلزم منه التلاعب المقصود بالواقعة وتسييسها بما يستجيب لتوجيه صدقيّتها باتجاه معيّن، بل هو يتصرّف بها على وفق مقاصد فنية لا علاقة لها بتأثير صدقيّة الواقعة في مجتمع القراءة أو عدم صدقيتها، بناء على إشكالية النقل السرديّ من حاضنة الواقع إلى فضاء النصّ الروائي.

اختراع الرؤية وابتكارها اعتماداً على مرجعيّة ذات أصل تاريخيّ واقعيّ يساعد الروائيّ على الإمساك بعناصر التشكيل جيداً، لذا لا ينجح الروائيّ –مهما حاول- استبعاد سيرته الذاتيّة حتى ولو كان حضورها في روايته بسيطاً أو عابراً أو إلماحيّاً، فهي حاضرة على نحوٍ من الأنحاء عن طريق لمحة أو فكرة أو حادثة أو ذكرى أو صورة، أو غير ذلك من ذخيرة السيرة الذاتية الضاغطة على عقل الكتابة السرديّة وهي تتدافع لأجل أن تعثر لها على مكان في متن الرواية، وليس من مصلحة الرواية أن يقوم الروائي بتعمّد استبعاد هذا الحماس السيرذاتي للتوغل نحو العمق الروائيّ، لأنّ وجوده على هذا النحو سيمنح الجوّ السردي في الرواية رطوبة سردية لا يمكن تعويضها فيما لو تمّ تنحيته خارج الفضاء الكتابيّ، مثلما ينبغي أن يكون حضور هذا الحماس السيرذاتيّ بالقدر الذي يضيف للرواية ولا يُنقِص منها، إذ لا بدّ أنّ يكون لفعاليّة التخييل السردية المقام الأول في فضاء الرواية.

الحادثة التاريخيّة تختلف باختلاف نوعية الحدث وطريقته وحجم تأثيره في المحيط المكاني والزماني والحضاري، ويسعى المؤرّخ إلى توثيقها بناءً على معطيات نوعيتها وطريقتها وحجمها كي يضمن الدرجة المطلوبة الضرورية من الموضوعية، التي يكون بوسعها تقرير الحادثة كما حصلت فعلاً أو أقرب صورة ممكنة إلى ذلك تعبّر عن منهج التفكير التاريخيّ للمؤرّخ من جهة، وتحقّق هدف الكتابة من جهة أخرى، أمّا الحادثة الروائيّة فإنّ من أبرز شروطها الرئيسة التخلّي عن الالتزام بالمنطق الأسلوبيّ الصارم في الكتابة التاريخية، واستعارة الحادثة/الحوادث لتوظيفها توظيفاً فنياً ينتقل فيها إلى فضاء المتخيّل ويهمل الصلة الموضوعيّة بالواقع، وهذا يعتمد بالتأكيد على منهج التفكير من جهة وهدف الكتابة من جهة أخرى.

لعلّ مصطلح “الرواية التاريخية” هو الأقرب إلى محاولة جمع المصطلحين معاً “الرواية والتاريخ” في بؤرة واحدة، إذ اشتمل المصطلح الجامع على وضع المصطلح الجديد بين الرواية والتاريخ في نصّ واحد، يعمل فيه الفضاء السردي التخييلي الكائن في مصطلح “الرواية” مع الفضاء المرجعي الواقعي الكائن في مصطلح “التاريخ” على منضدة محكيّ واحد، في معادلة اصطلاحية تأخذ من المصطلحين المتشابه والمختلف معاً لأجل توطين فكرة العلاقة الجدليّة الوطيدة بينهما، على الرغم من أنّ “الرواية التاريخيّة” العربية –على وجه التحديد- تميل نحو الحرص التاريخي الواقعي على حساب المتخيّل الروائي، وهي حالة وسط تقع بين صلابة رواية التاريخيّ المحض في السرديّة التاريخية الصافية، ونعومة الأسلوب السرديّ في تقديم عرض روائيّ ينقل حادثة تاريخية بعينها لكنّه لا يلتزم الصرامة السردية التقليدية في رواية التاريخ، والإفادة من ذلك في نقل رؤية أيديولوجية محدّدة لها علاقة بالتنوير الثقافي الطليعي نحو إشاعة قيم جديدة تستهدف التأثير في وسط التلقّي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.