وجوه

الاثنين 2021/03/01
لوحة حسام بلان

تمكنت من حجز تذكرتي عائداً الى مدينتي، بعد إجازةٍ جميلة قضيتها بين أحضان الطبيعة، بعيداً عن جموح المدينة وصخب العمل. كانت النسمات العليلة تحاول ثنيي عن قرار إنهاء إجازتي، لكن عودتي لاستئناف عملي كانت ملحة. عانقت الأشجار عناقاً أخيراً، واعتذرت للنسمات بلطف، وحزمت حقائبي.

كانت محطة القطار مزدحمةً بالمسافرين صبيحة ذلك اليوم. أخذت مكاني إلى جانب عجوزٍ سبعيني. بضع دقائق وانطلق القطار قاصداً المدينة. بحثت في حقيبتي عن كتابٍ كنت قد ابتعته من أحد الأكشاك لأطالعه أثناء الرحلة، لكني اكتشفت أنني قد نسيته على مقاعد الانتظار. تأففت ونظرت حولي، كان العجوز الذي يجلس إلى جانبي كثير الحركة والتمتمة، وكان بين الفينة والأخرى يخرج محفظته ويقرّبها كثيراً إلى عينيه حتى ظننته سيأكلها بهاتين العينين الضيقتين. يعد نقوده، يتأملها طويلاً ثم يعيدها إلى المحفظة. كم يبدو بخيلاً هذا الرجل، هكذا هم البخلاء يخافون على نقودهم من أنفسهم، ويشكون حتى بأمانة محافظهم.

نظرت إلى المقعد المجاور باحثاً عن وجهٍ آخر ربما يحكي لي حكايةً تسليني حتى أصل. كان الرجل الذي يجلس هناك متجهماً، جبهته متجعدةٌ من شدة العبوس، وعيناه جاحظتان تتأملان شيئاً ما، وبدا كأن ذهنه مشغولٌ بشيءٍ عظيم، وإلى شماله تجلس حسناء عشرينية. يا لحظي كم هو تعِس ويا لحظه السعيد، فبينما أجالس عجوزاً بخيلاً يهوى خشخشةَ أوراق النقد، يجالس ذلك العابس حسناء ملائكية الوجه. لمحتني أتأمل ما ظهر من قدميها الملتفتين حول بعضهما، فعدّلت جلستها وأدارت وجهها نحو النافذة. بدت محتشمةً، جذابةً، هادئةً كسمكتي الذهبية، وجمحتُ بخيالي متأملاً ذلك الجمال المتزن، باحثاً عن طريقةٍ تمكّنني من التحدث إليها، قاطع خلوتي مع أفكاري صوت الشاب الذي يجمع التذاكر.

– تذكرتك من فضلك.

قال الشاب بأدب، فأخرجتها وأعطيتها له، نظر إلى العجوز الذي يجلس بجانبي وقال مبتسماً:

– أهلاً بك أيها العم، سرّني أن أراك هنا.

 كم هو منافقٌ هذا الشاب من يسره أن يرى بخيلاً!

– أهلاً بك بني.. حدثني بسرعة ما هي أخبار دراستك؟

قال العجوز.

– أموري جيدة جداً والحمد لله بقي لي فصلٌ واحد وأتخرج.

– أنت شابٌ مجتهد، أتمنى لك النجاح بني، لا تنسَ أن تبلغ والدك تحياتي.

– سأفعل عمي، عن اذنك.

مضى الشاب في طريقه بعد أن أخذ التذكرة من العجوز، في حين كنت أحرك رأسي في كل الاتجاهات متأهباً اصطياد نظرات تلك الفتاة، بينما كانت عيونها الخجلة منشغلةً بمراقبة حقول القمح وهي تمر سريعاً أمام نافذتها. بدت كشاعرة أو رسامة.

– “بُني بُني”.

قال العجوز، فالتفتُ اليه:

– عفواً أتكلمني؟

– من فضلك تساعدني في أمرٍ ما!

سأل العجوز.

– بالطبع.

قلتها رغماً عني، فأنا أمقت البخلاء، ولم يشفع لندائه سوى سنوات عمره الكثيرة. أخرج محفظته وأعطاني إياها قائلاً:

لوحة ليليا هداية
لوحة ليليا هداية

– نظري ضعيف، أوقعت نظارتي وأنا أصعد القطار فكُسرت، هلا ساعدتني بإخراج ورقة الخمسين جنيهاً، فأنا لا أكاد أميزها من ورقة العشرة جنيهات، فكلتاهما من ذات اللون.

فتحت المحفظة وأخرجت له ورقة الخمسين جنيه، شكرني بشدة، أعاد محفظته إلى جيبه وظلت ورقة الخمسين جنيهاً في يده. نادى على الشاب الذي يجمع التذاكر قائلاً:

– سأنزل في المحطة القادمة، ألن تسلم علي؟

مد الشاب يده لمصافحة العجوز، فدس فيها الثاني ورقة الخمسين جنيهاً، احمرّت وجنتا الشاب وأطرق رأسه خجلاً وقال:

– أيها الطيب، هذا كثير، كلما لمحتني تفعل معي ذلك!

قطب العجوز حاجبيه ووضع سبابته على شفتيه طالباً من الشاب عدم التكلم، وقال:

– لا تنسَ أن تسلم على والدك.

ابتسم الشاب ووضع الورقة النقدية في جيبه قائلاً:

– لن أنسى سيدي، ولن أنسى كذلك معروفك معي ما حييت، أشكرك جزيلاً، أنت كريمٌ جداً.

ومضى. شعرتُ للحظات أنني أذوب في مكاني كقطعة ثلج، أصغرُ أصغرُ حتى أختفي، أتسلل عبر شقوق القطار، وأتبعثر على سكته الحديدية. خجلت من نفسي ومن ظنوني، وشعرتُ أنني أدين لهذا العجوز باعتذار، وجاء إعلان الوصول إلى المحطة الأولى عبر مكبّرات الصوت، فنهض الرجلُ من مكانه وودعني وغادر القطار، بينما بقيت صامتاً كالأبله، متحاشياً التقاء عينيه الواسعتين بعينيّ الضيقتين. صعد بعض الباعة إلى القطار بعد أن توقف، واقتربت فتاةٌ صغيرةٌ تبيع الورد من الرجل العابس، فطلب منها الابتعاد عنه، لكن الفتاة كانت لحوحة، فما كان منه إلا أن نهرها بشدة، فخرجت مسرعةً بعد أن دب الذعر في أوصالها. يا له من رجلٍ غليظ القلب، فظْ، حتى أنه لم يغير من جلسته طوال الطريق، لم يشرب شيئاً، لم يتبادل حديثاً مع أحد، تمنيت لو يغفو قليلاً ليتسنى لي رؤية الحسناء التي تجلس إلى جانبه، لكنه قابعٌ في مكانه كحجر. نزل الباعة من القطار، وأُعلن استئناف الرحلة.

أخرجت ورقةً صغيرةً وكتبت عليها رقم هاتفي وأطبقت عليها جيداً. مضى الوقت سريعاً واقتربنا من المحطة الأخيرة. توقف القطار واستعد المسافرون للنزول، وقف العابس أمامي بينما أفسحتُ المجال للفتاة التي تجلس إلى جانبه أن تقف خلفه، ودون أن يلحظني أحد دسست الورقة في يدها، كانت حرارةُ كفها كفيلةً بأن تحرق جسدي كاملاً، وخفت في لحظات أن تلتفت إلي وتصفعني، لكنها أخذت الورقة مني ووضعتها في حقيبتها، ونزلت قبلي يسبقها الرجلُ العابس، وحين هممتُ بالنزول كانت قد اختفت بين حشود المسافرين، وتركت ظلها في عيني. حاولتُ أن أبحث عنها، لكن جمهرةً من الناس كانت باستقبال العابس منعتني من متابعة بحثي عنها. لفت انتباهي صوت بكاء فعدت أدراجي بضع خطوات لأجد ذلك الرجل وقد ارتمى في حضن امرأةٍ ما وشرع بالبكاء بصوتٍ عالٍ، بينما وضع رجل آخر يده على كتفه قائلاً:

– يا أخي ادعُ له بالرحمة، لا حول إلاّ بالله.

اقتربتُ من أحد الذين كانوا يرافقون المرأة وسألته:

– ما الذي يجري؟

فأجابني أن الرجل قد فقد ابنه الوحيد، توفّي البارحة في حادث سير، بينما كان والده مسافراً ليخطب له إحدى قريباته. تراجعت إلى الخلف وكدت أسقط، رأيت الضباب يلتف حولي، يحجب الناس عني. ابتعدت ما أستطيع، رميت بما تبقى من أفكار في رأسي تحت أقدام المارة وهربت، استقللت سيارة الأجرة متجهاً إلى منزلي وذلك المشهد الجنائزي يضرب على رأسي طوال الوقت بعصاً من خشب البلوط القاسي، بينما كان سائق السيارة يراقبني من خلال مرآته، يتفحص وجهي، يبحث عن اجابات، “الوجوه لا تُفصح سيدي” قلت له، بيد أنه لم يفهم واكتفى بهز رأسه، أعطيته أجرته ومضيت نحو شقتي، وما إن دخلتها حتى ارتميتُ على سريري. أنهكني تعب السفر فغفوت وأنا أرتدي حذائي وملابسي. بعد بضع دقائق أيقظني رنين هاتفي، فرددت بصوتٍ نصف نائم:

– ألو نعم؟

صوتٌ نسائيٌ ناعم، داعب ما تبقى من وعيي، فنفض جسدي بقوة لأنهض من السرير كالأسد.

– هل عرفتني؟

قال الصوت الرقيق.

– بالتأكيد عرفتكِ، لم أتوقع هاتفاً سريعاً منكِ يا لسعادتي.

– لو لم أرد التكلم معك لما أخذتُ منك الورقة.

قالت بهدوء وصمتت قليلاً ثم تابعت:

– ألو ما زلتَ هنا؟

– نعم نعم أنا هنا، لكني استمتع بسماع موسيقى صوتكِ العذب.

أجبتها بعد أن استحضرت بعض كلمات الغزل.

– اسمع، أتقاضى في الليلة مئة جنيه، ما رأيك؟

فركت عيني، شربتُ جرعة ماء وظننت أنني أهلوس وأجبتها متلعثماً:

– عفواً لم أفهم.

اختفى الصوتُ الرقيق وتحول إلى صوت ساحرةٍ شمطاء، وضحكتْ ضحكةً وضيعةً، شاركها الاحتفال بسذاجتي خليطٌ من أصوات شيطانية رجالية ونسائية. لم أستطع الكلام، أكلت لساني، ولم تكن قطتي هي الفاعلة، بينما علا صوتها على الجهة الأخرى:

– ألو ألو ألو، أحمق.

وأغلقتْ الخط.

هرعتُ إلى مرآتي، نظرتُ إلى وجهي، لم أعد أميّز ملامحي، سقط أنفي، لا عينان لي، لا فم، مجرد ملامح مبهمة، لم أعد حتى أعرف نفسي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.