وردة صغيرة

الأربعاء 2022/06/01
لوحة: خالد تكريتي

مكبر الصوت يعلن بأن موعد اقلاع الطائرة المتوجهة نحو مونتريال سيتأخر. جرجرت حقيبتي الصغيرة وفوقها الأكورديون، وقد لففته بإحكام في جرابه الرمادي، وتوجهت نحو قاعة الانتظار. توقفت عند أول مقعد، ولما هممت بالجلوس ردعني  بتلويحة قاطعة بيده، ودون أن يلتفت إلي:  لا.  لا.  مشغول!

– تبا له يقول مشغول وعلى يمينه ثلاثة مقاعد شاغرة. متعبا كنت، ومرهقا، ولا طاقة لي للتلاسن مع هذا الرجل الوقح. في صدر القاعة اخترت مقعدا وجلست. انتبهت الى أن الرجل الأشقر الذي صادر حقي في الجلوس يديم النظر إليّ من خلف نظاراته السوداء. تجاهلته، وتحولت نحو الأكورديون. أخذته بين يدي وحضنته وبتلقائية رحت أتلمس بأناملي حروف تلك القولة التي طرزتها على قماشة الجراب منذ سنوات خلت “وحده الفن يوقظ العالم” وكم  أسعدني أن أرى حروفها المذهبة مازالت تشع أمام عيني بنفس القدر الذي تشع داخل فكري ووجداني.

دفقة من السكينة شعرت بها تدب في روحي وجسدي. وقلت انها  فرصتي أسترخي على مقعدي، وأنعم بقليل من الراحة عساني أنسى قساوة الانتظار، وأستعيد صفاء مزاج العكر، ولكن ما أن وضعت الأكورديون على المقعد المجاور حتى ندت عنه نغمة طائشة.

– أوه! لقد نسيت إغلاق لوحة المفاتيح. لا يهم سأفعل ذلك لاحقا.. قلت.

من جديد لمحت الرجل ينظر إلي وعلى شفتيه ابتسامة متشفية تقول: لقد طردتك أيها النيكرو الملتحي شر طردة، فما الذي بوسعك أن تفعله؟

نعم أعرف هذا النوع من البشر بمجرد ما يلمح بشرتك السوداء يتقزز، ويحاول بشتى الطرق إبعادك أو الابتعاد عنك. يعتقد دوما أن رائحتك كريهة، وأنك سوف تعتدي عليه وتسلبه أمواله. وأنك لا تحمل في جرابك أكورديون ، وإنما قنبلة جئت لتفجرها في المطار.

في اللحظة جلست بجوار الرجل امرأة. خمنت أنها زوجته. وسرعان ما أمسك بيدها، وشوش في أذنها ببضع كلمات. تخيلته يقول لها محذرا:

– ذلك الصندوق الرمادي يثير شكوكي ومخاوفي مارأيك لو نبلغ البوليس؟

بدورها شدت على يده وهمست في أذنه بكلام حدست أنها قالت له:

– لا تخف كاميرات المطار تترصد كل صغيرة وكبيرة.

– هيا ماذا تنتظر أيها الرعديد. اهرب بجلدك قبل أن تتحول الى كومة مفحمة  معجونة بلحمك ودمك.

كان بوسعي أن أطلق هذه الصرخة  الغاضبة في وجهه، لكني آثرت أن أدفنها في صدري، ولكي أتجاهل نظراته المريبة انصرفت أتأمل حركات المسافرين في ذهابهم وإيابهم، بل وللمزيد من التجاهل أخرجت من جيبي رسالة الدعوة التي توصلت بها من إدارة المهرجان، وانشغلت بقراءة كل التفاصيل المتعلقة ببرنامج الدورة، وكم حزّ في نفسي أنه طيلة مشواري الفني لم أتلق ولو مرة واحدة  دعوة من مهرجانات بلادي.

تجرعت حسرتي وأنا أعيد الرسالة إلى جيبى، ثم نظرة خاطفة مني إلى الرجل وزوجته. أف! لاشيء تغير. المطاردة مازالت مستمرة، وها هي الزوجة قد انضمت إليها. شعرت بالاختناق ووجدتني هذه المرة تحت سطوة نظراتهما كطريدة تتلجلج في شباكها باحثة عن منفذ للخلاص.

قلت كفى. الأمر لم يعد يحتمل!

امتدت يدي نحو الجراب وأخرجت الأكورديون، ولا أعرف في تلك اللحظة بالذات لماذا وجدتني أعزف وردة صغيرة لسيدني بكيت؟

هل كنت في موقع الدفاع عن النفس، وكان عليّ أن أبرّئ نفسي أمام هذا العنصري الذي حولني إلى مجرم خطير يهدد سلامة البشر؟ أم ربما تأكد لي أن هذا العالم لم يتخلص بعد من عدوانيته المقيتة وهو في حاجة إلى جرعات قوية من الحب ؟ لست أدري؟

كلّ ما أتذكره حينئذ أن ضجيج القاعة بدأ يخف تدريجيا تاركا مكانه للوردة وهي تعبق بأريج نغماتها، وبدا لي أن وجوه المسافرين التي كانت قبل قليل متيبسة بالضجرو الانتظار، ولوعة فراق الأحبة  تتطلع نحوي مستنيرة متهللة. بعض الصبية تحلقوا حولي مبحلقين في الأكورديون الأرجواني وأنا أداعب بأناملي أزراره اللامعة البراقة، وأعتصره بين يدي فيتنهد ويتأوه ألحانا رقيقة عذبة. وأنا في غمرة العزف لمحت الرجل الأشقر ذي النظارات السوداء يقترب نحوي بخطوات محسوبة متأبطا ذراع ما اعتبرتها زوجته، وبيسراه يحمل آلة الكلارينيت. مشهد أذهلني. بعثر كل أوراقي، ونسف كل حساباتي السابقة. بمجرد ما أخذ مكانه بجواري انخرط مباشرة  في العزف وبشاعرية لا تخطئها أذن خبير مثلي.

نعم هكذا تعرفت على ستيفان الفنان الضرير عازف الكلارينيت، وأذكر جيدا أنه في تلك اللحظة النادرة لم نكتف بالوردة الصغيرة، بل نثرنا في تلك القاعة ورودا كثيرة وعزفنا من الريبرتوار الموسيقي أجمل باقاته قبل أن نتوجه سويا إلى مهرجان الجاز بمونتريال ونحن صديقان حميمان.

* “وردة صغيرة “معزوفة شهيرة لعازف الكلارينيت  سيدني بكيت  1958.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.