وسيلة المحبين والمثقف الشبكي
أتحين المناسبات للاتصال بأصدقائي المتفرقين عبر الهاتف النقال اتصالا يستنفد آخر “سنت” متبق في رصيد المكالمات، بهذا أسدد ديونا أشعر أني أحولها إليهم من خلال المكالمة! وأستلف بدلها ما يعينني على التذكر والتوهج قبل حلول لحظة الانطفاء والصمت، انطفاء الصوت وانغلاق الهاتف!
لا أستعير هذه الطريقة من نص أدبي أو شريط سينمائي بل من كتاب الروائي محمد خضير (رسائل من ثقب السرطان)، إذ يقول “صار العراقيون من أبرع الشعوب في اجتياز الفواصل، والاتصال بأكثر من واسطة أنشطها ذلك الصوت المتقطع وهو يشق الفضاء الخلوي ويتمتم بطريقته العاطفية”.
مع الموبايل الحديث صارت هناك إمكانية للحب في مجتمع معزول! يفرض الفصل بين الجنسين، صار الحب أسرع وأسهل وأصبح التعارف ممكنا وهذا شيء مهم ومفصلي. صارت السيطرة الاجتماعية أصعب على الشباب واختياراتهم. حتى ظهر مصطلح “الحب عن بعد” وهو كتاب من تأليف عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غدنز ليشير إلى الأنماط والعلاقات العاطفية الجديدة التي فرضتها العولمة والتكنولوجيا الحديثة.
الموبايل والتفاعل وجها لوجه
- صار التواصل في المناسبات والأعياد عن طريق الموبايل، مما أدى إلى إضعاف التفاعل والتواصل الاجتماعي والزيارات العائلية المليئة بالدفء، وصار الفرد يعبر عن مشاعره ويتعامل مع المناسبات من خلال الموبايل برسالة قصيرة فقط!
- كما أن الكثير من تفاعلات حياتنا اليومية مع زملائنا محددة بعلاقات تجارية بحتة، ونحن نشتري وبصورة متزايدة وقت الآخرين وتقديرهم وشعورهم وعطفهم وعنايتهم، إننا نشتري التنوير واللعب والسمو وأي شيء حتى قضاء الوقت! والحياة تتحول إلى سلعة أكثر فأكثر ومع ذلك تضيع الفوارق بين الاتصالات وتبادل المشاعر والتجارة.
- الإنترنت والموبايل تم توظيفهما من قبل الرأسمالية الثقافية لندخل اليوم في “عصر الوصول” وهو عنوان كتاب لجريمي ريفيكن، إذ أن عصر الوصول يجلب معه صنفا جديدا من الإنسان والأفراد الشباب من جيل “المتقلبين” يشعرون بالراحة وهم يديرون الأعمال ويرتبطون بالفعاليات الاجتماعية في عالم التجارة الإلكترونية والمجال السايبري، ويتكيفون بسهولة مع عدد من العوالم المحاكاة التي تشكل الاقتصاد الثقافي، إن عالمهم مسرحي أكثر منه أيديولوجي ومتجه أكثر نحو قيم اللعب بدل قيم العمل، والوصول بالنسبة إليهم هو طريقة حياة، ويقضون وقتا طويلا مع الشبكات الإلكترونية التي يتحكم بها عدد محدود من شركات الإعلام العابرة للحدود والتي تمتلك “خطوط الأنابيب” التي يتراسل من خلالها الأفراد مع بعضهم، وهي تتحكم بالكثير من المحتوى الثقافي الذي يدفع ثمنه والذي يشكل خبرات عالم ما بعد الحداثة. ويصبح عمالقة شركات الإعلام المدمجة “حراس البوابة” الذين يحددون الشروط التي يُؤْمِّن بموجبها مئات الملايين من البشر التواصل بين بعضهم البعض في العهد الجديد.
- الموبايل أسهم في تقليل الخصوصية، وإمكانية وصول أي شخص إليك، مع الموبايل لم تعد حرا تماما، تقل دقائق العزلة والخصوصية، وتضطر دوما إلى البقاء متصلا! لم تعد قادرا على الانفراد بالذات، حتى مسائل العمل صارت تقتحم وقت فراغنا وتعكر مزاج راحتنا. لم يعد هناك فصل بين الخاص والعام، بين الذات والموضوع!
كما ارتبط الموبايل الحديث بالإنترنت! اتصال وتواصل في نفس الوقت؛ مما أسهم بظهور إنسان غوتنبرغ كما يسميه أمبرتو إيكو وهو إنسان الإنترنت الذي يقرأ كثيرا، وتتراكم عليه المعلومات من كل مكان. الناس ينتقلون من موضوع إلى آخر، حتى أنه يتوقع بأن تختفي حقائب المدرسة التي يحملها الأطفال على ظهورهم، إذ سيحظون بدروس القواعد على أجهزتهم المحمولة.
برغم ذلك، يعتقد إيكو أن التقنية هي المشكلة الأكبر في عصرنا، علاقتنا بالذاكرة تحيلنا إلى شخصية “فونس″ تلك الشخصية ذات الذاكرة الرهيبة التي تخيلها بورخيس، وبما أنه يتذكر كل شيء، كان إما مجنونا وإما أحمق! والإنترنت فضيحة ذاكرة من دون تنقية، إذ لا نميز بين الخطأ والصواب، فالمعلومات المتوافدة تتطلب عقلا نقديا تحليليا لكي يميز وينقي الصالح من الطالح والكذب من الحقيقة!
المثقف الشبكي
المثقف الشبكي: وهو لَيْس مستخدم الشبكة البسيط وهو ليس مستهلكا لخدماتها فحسب، بل هو المستخدم المنتج في الشبكة، المؤثر في أفرادها، والمُغني في محتواها، وهو يضطلع بأدوار متنوعة، إذ لا يستطيع هذا المثقف الشبكي أن يبلغ بجهده المنصات الإلكترونية بل متنوع الأنشطة. ومتعدد الوظائف، ما يجعله منظرا ومنظما ومسيطرا، يستعمل المدونات والفيسبوك في ممارسة التأثير الاجتماعي. ويطلق الكثير من الباحثين مصطلح “الفاعلون الجدد” على هذا النوع من المثقفين الشباب، وعلى الدور الذي قاموا به في تحريك الشارع، من خلال استعمال الوسائط التقنية. قد لا يكون على المستوى نفسه الذي يعرف به المثقفون أنفسهم بيد أنه مثقف مقبول ومسموع ومؤثر في جيله، ولذا فهو مثقف ثوري-شبكي استطاع أن يحقق قدرا كبيرا من التأثير من خلال شبكة الإنترنت، إذ يمكن اليوم ومن خلال الموبايل أن تمارس التأثير وترسل رسالتك وأفكارك وأنت جالس في البيت!
وظهر ما يسمى بالمدونين الذين سحبوا البساط من القنوات التلفزيونية بنقل الأحداث أول بأول من خلال الموبايل والصورة السريعة!
وأخيرا مع صوت بلند الحيدري في قصيدته (وحشة) يشتبك الصوت وقد يضيع في زحمة الأجيال؛
“ويرن الصوت
يرنٌ.. يرنَ.. يرنّ.. يرنّ.. يرنّ
أجيال تتهدم في أذني
لا شيء منك ولا مني
من نحن.. من نحن…
صوتان يموتان مع السماعة”.