وطن الغجر
الوطن: المنزلُ تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله. والجمع أَوْطان. وأَوْطانُ الغنم والبقر: مَرَابِضُها وأَماكنها التي تأْوي إليها. بلد الآباء والأجداد. مكانُ الإنسان ومقرُّه، وإليه انتماؤه، وُلِد به أو لم يولد. يُقال: مات في سبيل وَطَنِه، وحبُّ الوطن من الإيمان، وتعرف قيمة الأوطان عند فراقها، قال الشاعر: وطني لو شُغِلْتُ بالخُلْد عنهُ/نازعتني إليه في الخلد نفسي. الوَطَنُ الأمُّ: الوطَن الأصليّ، مَوْضع الولادة، وَطَن المولد، مسقط الرأس.
الدولة: جمع كبير من الأفراد، يَقْطن بصِفة دائمة إقليمًا معيَّنًا، ويتمتع بالشخصية المعنوية وبنظام حكومي وبالاستقلال السياسي. جمع دولة: دولات ودول. دُول العالم الثَّالث: الدُّول النامية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة. ودولة من دال. دال الدّهر بعد عزٍّ: دار، انقلب، انتقل من حال إلى حال. دالت دولةُ الاستبداد: انقضى زمنها، زالتْ. دالت له الدّولة: صارتْ له.
/////////////////
شخصيات الحوارية المسرحية:
الساقي، وطن، الغجري، مخرج الحوارية المسرحية
//////////////
ملحوظة: كون المخرج من شخصيات الحوارية المسرحية فقد شال عنا عناء كتابة تلك التفاصيل الصغيرة التي يحتاجها العمل المسرحي وتكفّل بالقيام بما يلزم العرض على خشبة المسرح. وقد خطر في بالي دخول المخرج في هذه الحوارية المسرحية حين شاهدتُ أحد المسارح الشعبية الساخرة في تركيا يفعل ذلك بشكل دائم حيث يجلس المخرج في زاوية المسرح وأمامه طاولة يضع عليها فنجان قهوة يوجه العرض المسرحي من مجلسه هُناك.
////////////////
يُرفع الستار
الساقي: لماذا دولة وطنية يا سيدي؟
وطن: ماذا تقصد؟
الساقي: أنا من سأل أولاً، أجب عن السؤال المطروح، وبعدها لكل حادث حديث.
وطن: كيف أُجيب، أنا لم أفهم السؤال؟
الساقي: هل السؤال مُعقَّد إلى هذه الدرجة، وهل يحتاج إلى تفسيرات وشروح وتأويلات؟ أقول لك: لماذا تُضيف كلمة وطنية إلى كلمة دولة كلَّما تحدثتَ في السياسة، ألا تكفي كلمة دولة، وهل كلمة وطنية صفة أم نعت أم حال؟
وطن: صفة أم نعت أم حال! ماذا شربتم اليوم؟
الساقي: عدنا إلى طرح الأسئلة، يا سيدي هل سمعتم في حياتكم بأن الساقي في الحانة من أيام الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد إلى اليوم يحتسي خمراً في حانته؟ أنا لا أشرب مسكراً يا سيدي. بالله عليكم قُولوا لي من سيعدّ كؤوس الخمرة التي يحتسيها رواد الحانة. أنا لا أشرب الخمرة ولا حتى في البيت.
وطن: أف، كيف ذلك؟
الساقي: يا سيدي هذه كأسكم الرابعة وقد أوصانا أهل الخبرة في هذا الشأن أن نتريث في شرب الكأس الأولى. كانوا يقولون تمهلوا في احتساء الكأس الأولى تُفلحوا فلا تسكروا بعد ذلك، عافاكم الله، وبعد التمهل في الكأس الأولى اشربوا على كيفكم. وأراك قد بدأت تسكر ورحت تطرح الأسئلة بدل الأجوبة. وعلى هذه الصورة لن نصل إلى نتيجة مُرضية.
وطن: أيها الساقي أنا لا أسكر مهما تعددت الكؤوس التي أتناولها، رأسي يشيل دولة وطنية بحالها. ولكن حالكم هي التي بلبلت عقلي. ساقياً للخمر لا يشرب، وفوقها يطرح أسئلة تحتاج إلى أسئلة توضيحية. ما ذنبي أنا؟ هات السؤال واضحاً صريحاً وخذ إجابة أسرع من البرق. أعد عليَّ السؤال من فضلكم.
الساقي: نحن نتحدث عن ربطك كلمة وطنية بالدولة، ما الغاية من ذلك؟
وطن: ما الغاية من ذلك! هل هذا سؤال يُسأل، ما الغريب في الأمر وما الذي لفت انتباهكم في هذا التركيب العظيم. دولة وطنية لأنها دولة وطنية.
الساقي: وهل هُناك دولة في العالم يمكن وصفها بأنها غير وطنية؟
وطن: سؤال جديد أيضاً! أنتم تسألون كثيراً أيها الساقي في هذا المساء، حديثكم اليوم أسئلة في أسئلة. هل تذكر أيها الساقي كم سنة مرت على تعارفنا، وهل تذكر الساعة التي دعست فيها قدمي عتبة باب حانتكم. لا بد أنكم تذكرون تلك الساعة العظيمة.
الساقي: ومن ينسى تلك الساعة المباركة يا سيدي حين أطلَّ فيها وجهكم الكريم من باب حانتنا وصحتم بصوت عال سمعه كل رواد الحانة: هل أجد في حانتكم ما يُشرب؟ هل تذكر ذلك يا سيدي؟ أنتم من طرح السؤال الأول وها نحن من عشرين عاماً نحاول أن نُجيب على سؤالكم.
وطن: كتر الله خيركم، كان جوابكم شافياً كافياً. ولكن سؤالكم اليوم فيه الكثير من الغموض بحيث لا أتصور دولة من الدول غير وطنية لا بد أن تكون الدولة وطنية.
الساقي: ألا يكفي أن نقول دولة وكان الله يُحب المحسنين. لأن الدولة دولة ولا شيء آخر.
وطن: كيف لا شيء آخر؟ وتقول لي أنتم لا تشربون الخمر، فكيف إن شربتم الخمر ماذا ستقولون عندها؟ وماذا سيكون “صنف” أسئلتكم؟ الدولة لا تكون إلا دولة فقط لا غير، في دولة ديمقراطية في دولة فيدرالية في دولة ليبرالية في دولة دكتاتورية في دولة شعبية في دولة جمهورية في دولة ملكية وفي دولة مختلطة برلمانية ملكية وفي دول ملكية حاف وفي دولة اتحادية وفي دولة وطنية.
الساقي: هنا حطَّنا الجمَّال، لماذا تربط الوطنية بالدولة يا سيدي؟
وطن: ماذا تقصد؟
يتدخَّل المخرج الذي يجلس إلى منضدة في زاوية الحانة. قائلاً:
قبل أن تُجيب أيها الساقي اسمح لي أن أشكركم على هذه الحوارية الممتعة الذي أتحفتم بها الجمهور القليل الذي يحضر عرض هذه المسرحية في حانتكم المتواضعة. لقد كان حواركم يحمل بصمة من حرفية عالية وها أنا قد سجلت نصَّ حواركم. أعجبني كثيراً هذا الارتجال وهذا التناغم بين طرح الأسئلة وتأجيل الإجابة التي يولد منها السؤال. أنت أيها الساقي أعطيت بُعداً ساخراً من خلال استعمالكم لبعض الجمل والكلمات التي جاءت في محلها. والسيد وطن كان بارعاً في هذا الهروب الموفق بحيث بدا طبيعياً جداً بارداً وموفقاً في تناغمه بين السؤال والجواب، عفارم عليكم. هل يمكنكم المتابعة لو سمحتم؟
الساقي: أقصد أن الدولة دولة. أنت أين تعيش يا سيدي؟
وطن: أنا أين أعيش؟
الساقي: نعم، أين تعيش؟
وطن: أعيش هُنا في دولة.
الساقي: طيب، أنت قلتها، تعيش في دولة.
وطن: حلمك عليَّ، أعيش في دولة وطنية.
الساقي: كلمة وطنية هنا بلا معنى لو سمحت لي قول ذلك.
وطن: سمحت أو لم أسمح قلتها وانتهى الأمر. ولكن كيف بلا معنى، وهل كلمة وطنية “عيب” حتى لا نُرفقها مع كلمة دولة؟
الساقي: ليست مسألة “عيب” لا سمح الله، ولكن أنت تتحدث عن أمر آخر.
وطن: أمر آخر! كيف أتحدث عن أمر آخر ونحن على خط واحد؟ لا يمكن أن تكون الدولة حاف هكذا بلا وطنية.
الساقي: أنت تقصد طريقة حكم الدولة أو النظام القائم في هذه الدولة وطني، هل هذا ما ترمي إليه، قصدك الرئيس أو الملك أو السلطان يحمل حساً وطنياً ظاهراً، لذلك تسمّي المقصود دولة وطنية. أو أن الحكومة تنهج نهجاً وطنياً، والنهج هُنا هو الطريق أو الدرب الذي تسلكه هذه الحكومة الوطنية. ولكن لماذا هي حكومة وطنية، هي حكومة وانتهى الأمر.
وطن: أُسمي المقصود دولة وطنية! ما قصدك؟ أنا لا أُسمي الدولة وطنية، هي كذلك، خليك معي على الخط لا تحيد عنه. كيف تقول حكومة وانتهى الأمر. لا لم ينته الأمر، الحكومة وطنية بالضرورة أو لا وطنية.
الساقي: حكومة لا وطنية، كيف يكون في دولة حكومة لا وطنية؟
وطن: معلوم للجميع، نعم، توجد حكومة لا وطنية.
الساقي: اتسع الخرق على الراتق.
وطن: خليك معي على الخط.
الساقي: أنا أسير معك على الخط، ولكن إن تغيّرت الحكومة فهل تتغير صفتها من الوطنية إلى لا وطنية، وكيف يكون ذلك؟ نحن نسير على خطين متوازيين لا يلتقيان.
وطن: خطان متوازيان! هل نحن على سكة قطار؟ ما علاقة الرياضيات والهندسة وخطوط سكة القطار في الدولة الوطنية؟ أنت تبتعد من جديد عن الخط. كلا، طبعاً تبقى الحكومة وطنية لأن الدولة في الأساس وطنية.
الساقي: الآن فهمت عليك، هي مجرد تسميات. لأنه في دول كثيرة تعيش على أرضها طوائف متعددة من البشر وفيهم اختلافات واسعة من حيث الدين والقومية والأصول العرقية فمثلاً في دولة مثل سوريا تجد الكردي، والعربي، والشركسي، والتركماني، والآشوري، والكلداني، والسرياني، والأرمني، والغجري. وهؤلاء جميعاً يعيشون في أقاليم متعددة في الدولة السورية ولكن في دولة واحدة على كل حال. لذلك أنت تتسرع كثيراً في أحكامك يا وطن وتقطف الكباية من رأس الماعون، كما يُقال، وتقول عن الدولة وطنية. ما المقصود بوصفك هذه الدولة أو تلك بأنها دولة وطنية؟
يتدخَّل المخرج قائلاً:
أنت أيها الساقي استعملت مثلاً شعبياً غارقاً حتى آخره في الوطنية ويحتاج لو سمحت لنا أن نفسّره حتى لا يبقى المتفرج في حيص بيص لذلك لا بد من نشرح معنى كلمة “كباية” وهي ليست مؤنث كوب أو كأس كما يمكن أن يُظن بل هي من “الكبة”. والكبة هي من أكلات بلاد الشام المعروفة وأشهر ما تكون في مدينة حلب الشهباء القريبة من سهل العمق أخصب بلاد الدُّنيا والذي تُزرع فيه حنطة ممتازة حتى قبل ميلاد السيد المسيح ومن هذه الحنطة يصنع أهل حلب برغل الكبة الذي كان يُدق مع لحمة الهبرة في جن من الحجر ويعمل منها الكبة الحلبية حتى قيل في الكلام الدارج “حلب أم المحاشي والكبب” ومنها كبّة السّفَرجليّة والسّمّاقيّة والقصابيّة والصاجية والمشوية والصينية واللبنيّة والعنتبليّة والأورفليّة والمختومة والمسلوقة والزنكليّة والملقوزة والمحبرمة وهذه الأخيرة تُطبخ بعصير حب الرمان ومن هنا جاءت تسمية كبة “حب رمان” والقائمة تطول. يدخل أحدهم المطبخ جائعاً فيقطف كباية من رأس الماعون أي الطنجرة أو الإناء الذي طُبخت فيه، فيقال هذا المثل لأمر أسرعت في طلبه. هل يمكنكم المتابعة لو سمحتم؟
وطن: وما زلت أيها الساقي إلى الآن تسأل ما المقصود من عبارة دولة وطنية وتستهجن التسمية وكأن العبارة تحتاج إلى تفسير.
الساقي: أنا لا أستهجن القول يا سيدي بل أنكره، لا يوجد في الدنيا ما يُسمى دولة وطنية. يوجد دولة يعيش على أرضها ناس ينتمون بالولادة لهذه الدولة. وهذه حكاية قديمة قدم التاريخ البشري. في الأمس القريب كان سكان العالم يعيشون على بقعة أرض تختلف تضاريسها بين جبل وسهل وبادية وصحراء وساحل وغابة وجزيرة وشبه جزيرة تُسمّى مسقط رأس الإنسان. تتغير حدود هذه المناطق بتغير حدود الدول والإمبراطوريات ويبقى الناس في موطنهم الأصلي يفلحون ويزرعون ويصنعون ويتاجرون ويتزوّجون وينجبون ويسافرون ويرحلون ويعودون والكثير منهم يرحل إلى بلاد بعيدة ولا يعود إلى مسقط رأسه أبداً، كحال من هاجر من بلاد الشام إلى الأمريكيتين في القرن التاسع عشر. وكلنا يعلم أن البدو الرحل لا دولة لهم هم يجولون مع مواشيهم في أرض الله الواسعة يخترقون حدود الدول بحثاً عن الكلأ والماء حين يجدوه يكون وطنهم. هكذا عاش البشر آلاف السنين. فكيف يكون مرعى الكلأ وطنياً؟ ولأزيدك من القصيدة بيتاً فإن كلمة “وطن” ولا تزعل من كلامي، جاءت في المعاجم على أنها مربط الغنم.
وطن: أيها الساقي أنت شرقت وغربت كثيراً وما زلت تُصر على أن الدولة دولة. صبَّ لي كأساً آخر عسى الله ييسر أمري ويُرشدني إلى التفكير المستقيم في شأن هذا الحوار الذي استعصى في عنق الزجاجة ويحتاج إلى المزيد من التركيز ليخرج من هذا المأزق العسير. قال: “وطن” مربط غنم! سامحك الله على كل حال.
الساقي: هل تولد الدولة وطنية أم تصير وطنية، يعني الوطنية التي تُلصقها بالدولة نشأت معها أم هي نتاج وجود الدولة كهيكل اجتماعي أو قل مؤسسة تطورت من خلال حاجة المجتمع إليها. ما رأيكم أن تُعرِّفوا الدولة ليسهل فهم ما تقصدون من تعبير دولة وطنية. وهذه هو كأسكم مثلجاً وألف صحة وعافية.
وطن: والله سمعة، نُعرِّف الدولة! وهل تحتاج الدولة إلى تعريف؟
الساقي: نعم، بكل تأكيد، تحتاج الدولة إلى تعريف حتى نفهم دورها في المجتمع ونحل هذه المشكلة التي نشأت من قولكم دولة وطنية وكان يكفيكم قول: دولة.
وطن: يكفينا أن نقول دولة! الظاهر أن من يعد الأقداح هو الذي يسكر وليس أنا الذي يشربها. هل تعرف أيها الساقي لماذا نشرب؟
الساقي: أكيد أعرف، فأنا أقدّم الخمر لروّاد الحانة من أكثر من عشرين عاماً ومع ذلك لا أشرب في حانتي ولا أحب السكر. حقاً إن وعود السكر وعود باهرة، فلذَّة السكر لذَّة آمنة، وفضاءاتها مليئة بالوعود الجميلة غير المكلفة. لكن الاستغراق فيها إلى درجة الاستغناء بها عن اللذَّة الواقعية، إنما هو تعبير عن نزعة عبثية بائسة، وإن كنت لا تعي بأسها وإحباطها.
يتدخَّل المخرج قائلاً:
ها هُنا حكاية ظريفة رواها لنا إخوان الصفا وخلان الوفا في رسائلهم في القرن الرابع الهجري في العصر العباسي. تقول:
ذكروا أن رجلاً من أرباب النعم متديناً له ابن يجاهر بالسكر، وكان الرجل كارهاً لذلك منه فقال له يوماً، يا بني انته عن السكر، حتى أعطيك شطراً من مالي وعقاري، وأفرد لك داراً، وأزوجك بحسناء إحدى بنات أرباب النعم.
فقال ابنه:
– يا أبت ماذا يكون؟ فقال الأب:
– تعيش فرحاً مسروراً متلذذاً ما عشت من عمرك. فقال ابنه:
– إن كان الغرض هو هذا فهو حاصل لي. فقال له أبوه:
– كيف ذلك؟ قال الابن:
– لأني إذا سكرت وجدت نفسي من الفرح واللذة والسرور حتى أظن معه أن ملك كسرى كله لي، وأتخيل في نفسي من العظمة والجلال حتى أرى العصفور في حجم البعير. فقال له أبوه: ولكن إذا صحوت لا ترى ذلك حقيقة. قال الابن: أعود فأشرب ثانية حتى أسكر فأرى مثل ذلك. هل يمكنكم المتابعة لو سمحتم.
الساقي: قيل من لم يأت معك تعال معه، الدول تقوم في العموم على أجهزة أو مؤسسات أو هياكل أساسية لا يمكن الاستغناء عنها وإلا لن تكون دولة. الجيش والشرطة والسجون، هذه هي يد الدولة التي تضرب بها وهي- أي الأجهزة الأمنية – لا تكون وطنية أو بلا وطنية هي موجودة في كل دول العالم قديماً وحديثاً. وعلى ذكر الحديث هل سمعتم حديثاً في حياتكم يتحدث على أن أحد المواطنين حُبس في سجن وطني والمتمرد أو الثائر ضد الدولة الوطنية سُجن في سجن بلا وطنية؟ وهل كان سجن الباستيل وطنياً مثلاً؟ أو هل سمعت أن هذا الجندي الذي يقاتل معنا صنفه “وطني” والجندي على الطرف الأخير الذي يقاتل ضدنا صنفه “غير وطني”؟ جندينا مهمته القتل وذاك على الطرف الآخر من الجبهة مهمته القتل أيضاً، فلا معنى لقولنا جندينا وطني والآخر جنديهم غير وطني. أم هذا تبكيه إذا قُتل وأم ذاك وتبكيه أيضاً إذا قُتل، ومن مهمة الجندي القتل هُنا وهناك.
وطن: مهمة الجندي القتل هُنا وهُناك. هكذا إذاً؟
الساقي: بالتأكيد، هذه الدولة تعتبر جنديها ربَّ الوطنية والدولة على الطرف الآخر تعتبر جنديها ربَّ الوطنية أيضاً، كيف ذلك؟ هذا يعني أن الدولة دولة فحسب ولا يمكن أن تكون غير ذلك.
وطن: وصلت إلى حقي، طريقة تفكيركم هذه عرجاء عوجاء، وغير وطنية بالمرة. لابد أن أحدهم يقاتل لينصر الحق والأخر يقاتل لينصر الباطل، هذا هو الفارق بينهما. ولا تقل لي بأن الصورة هُنا تحتاج إلى إيضاح “بزعل منك”.
الساقي: يا سيدي، نعم، القضية هُنا أكثر ما تحتاجه هو الإيضاح، لأن الصورة “مغبشه” بل تستطيع القول بأنها مسودة صورة وتحتاج إلى شمس وتحميض.
وطن: دخلنا في الكيمياء الآن.
الساقي: لا ليست المسألة في الفيزياء والكيمياء، نعم، عدنا من حيث بدأنا، أنت تزعم يا سيدي بأنك وطني وأن هذا الساقي في هذه الحانة غير وطني وكلانا نعيش في دولة وطنية على حدِّ زعمك، أليس كذلك؟
وطن: بكل تأكيد نعيش في دولة وطنية.
الساقي: الحمد لله، جاء الغجري هبة من السماء، ها هو قد وصل على حين غرة، سيحتسي كأسه الآن ويذهب إلى عمله، ولن أدعه يرحل. ما رأي سيادتكم أن نشركه في حديث الدولة الوطنية لعل عنده ما يُضيف إلى حديثنا بعداً وطنياً آخر.
وطن: وما المانع؟ تفضِّل.
الساقي: أيها الغجري كأسكم اليوم على حساب الحانة ولكن بالمقابل سنطرح عليكم سؤالاً نود من حضرتكم التكرم بالإجابة.
الغجري: إذا كانت الشغلة فيها كأس خمرة بالمجان “فيا هلا بيك” تستطيع أن تطرح أسئلة قدر ما تريد وستجد مني أذناً صاغية ولساناً زلقاً بالجواب الحاضر. هات ما عندكم.
يتدخَّل المخرج قائلاً:
أيها الغجري لو سمحتم لي قبل استكمال حواركم الشيق هذا أن أُعرَّف جمهور الحضور في الحانة على سيادتكم بوصفي مخرجاً لهذه المسرحية. هذه الحقيبة المكلثمة التي ترافق الغجري في حله وترحاله ولا تفارق يده أبداً والتي يحمل فيها أدوات عمله ورزقه. نعم، أحسنتم لقد حزرتم ماذا يعمل. بالتأكيد طبيب أسنان، ولكن مع الأسف دون شهادة جامعية، عنده شهادة خبرة متوارثة من أبيه وجده. يقلع الأسنان والأضراس المنخورة. يصنع جسوراً ويُركبها، يُفصل طقم أسنان لمن يحتاج، يلبِّس الأسنان بالذهب، فيضحك الولد و”تبان” في فمه سن الذهب فتضحك أمه. يُعالج اللثة المريضة ويُقدم نصائح واستشارات طبية لأطباء الأسنان في عملهم. لا يعترف بحدود الدول فيسافر متنقلاً بينها بلا جواز سفر حتى يصل إلى الصين. هل يمكنكم المتابعة لو سمحتم.
الغجري: من شهر تقريباً كنتُ في باريس صادفت رجلاً عجوزاً شارك في الحرب العالمية الثانية فقال مادحاً عيشة الغجر:
وطن: دقيقة، ما هذا، انتظر قبل أن تُخبرنا ماذا قال. قلتم كنتم في باريس، كيف كنتم في باريس، وهل وصلتم إلى باريس مربط خيلنا؟
الغجري: هل حقاً باريس مربط خيلكم؟ لم أر مربط الخيول تلك في زياراتي المتكررة. ما علينا، المهم، وكله مهم، يا سيد وطن طبيعة عملي تحتم عليَّ السفر والتنقل بين دول عديدة، عندي مرضى أعالج أسنانهم في اليونان وبلغاريا ورومانيا وهنغاريا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا.
وطن: أف، ما شاء الله، أنت غجري أصلي. ما هي ديانتكم لو سمحتم؟
الغجري: لا أعرف يا سيدي.
وطن: كيف لا تعرف؟
الغجري: لم أسأل، كنتُ مشغولاً في تعلم المهنة عن أبي، وألم أجد الوقت المناسب لسؤاله عن ديننا فقد مات فجأة.
وطن: أنت تمزح.
الغجري: لا والله لا أمزح، هذا ما حصل.
وطن: وأنت الآن “حاف” بلا دين؟
الغجري: نعم، تقدر أن تقول حاف بلا دين، وليس في ذلك غضاضة، فأنا أعيش كما ترى موفور الصحة كثير المال والعيال، اتنقل بين الدول كما أريد، وأعيش حراً كما أريد، سقف بيتي رقيق ووطني أرق، أو قل بلا وطن، الغجر لا يعترفون بالحدود والأوطان كما تعلم، قد أكون اليوم في الأردن وغداً في لبنان أو اليونان. في الماضي كنا أكثر حرية، اليوم حبسونا في دول وطنية. وبذلك ألبسونا ثوباً من الحرية أضيق. ولكننا نتحرك على كل حال، فما زالت تقاليدنا في الترحال راسخة وتستجيب لها الحدود في الكثير من الأحيان: أنت غجري اعبر، رافقتك السلامة. وتعبر إلى دولة أخرى.
وطن: هل سمعت أيها الساقي حتى الغجري قال دولة وطنية.
الساقي: نعم، سمعت. ولكنه قالها في سياق مختلف قصد منه الذَّم وليس المدح.
الغجري: يا سادتي، لا ذاماً ولا مادحاً، أنا لا أعترف بوجود الدولة أصلاً. الدول الوطنية حبست مواطنيها ضمن حدودها، ومن ثم لا بد من استخراج جواز سفر كي تُسافر من بلد إلى بلد. في دولنا الوطنية هذه والتي ينجح فيها رئيس الجمهورية في انتخابات عامة، وعلى الأغلب مزوَّرة، ثمَّ يجلس في السلطة إلى ما شاء الله أو قُل حتى وفاته. في هذه الدول الوطنية تضيق الحرية ويسجنون بابها الذي بكل يد مضرجة يُدق.
وطن: والله، “مانك قليل” أيها الغجري، ها أنت تمتلك وعياً سياسياً ظاهراً.
الغجري: قيل للمسمار لماذا تدخل في الخشب؟ فقال من دق المطرقة على رأسي. وبالعودة إلى حديث العجوز الفرنسي الذي التقيته في باريس من فترة قصيرة، كان يمتدح عيشة الغجر ويتغنى بها. ويؤكد أن سبب الحروب التي قامت بين البشر من فجر التاريخ الإنساني هي المصالح الضيقة التي قامت عليها دول العالم التي سعت وتسعى للتضيق على حرية الفرد في كل مكان.
الساقي: مثلاً.
الغجري: لبنان، وأنا ولدتُ في لبنان، حيث تعيش فيه طوائف دينية متعددة وخاضت فيما بينها حروباً مدمرة، كان المقاتل في “بيروت الغربية” عندما يُقتل يُسمى شهيداً وعندما كان المقاتل في “بيروت الشرقية” يُقتل يُسمى شهيداً أيضاً، وماذا كانت نتيجة ذلك غير خراب البلد وهجرة أهله. ما هي القواسم المشتركة للعيش على هذه الرقعة الصغيرة التي تُسمّى لبنان؟ الأمر أبسط مما نتصور، دع الناس كما كانت تعيش دائماً في مناطقها، وأهل مكة أدرى بشعابها. لا تفرض على الناس عيشاً مشتركاً مع الآخر لا هم يريدون ذلك ولا الآخر يريد. ولا يريدون العيش في دولة وطنية. وإذا ألغيت لهم الدول “بكون أحسن”.
الساقي: نُلغي لهم الدولة! كيف يكون ذلك؟
الغجري: خذ المثل التالي: عندما تعقد عقد زواج يضمن لك الطلاق ضمناً، وهذه رابطة مقدسة في مختلف الديانات في بعضها يتسامحون في مسألة الطلاق وفي بعضها الآخر يتشددون. ولكن الزواج المدني يضمن حق الطلاق لكل الناس، حتى للغجري. أنت سيء الأخلاق بخيل لا يمكن العيش معك، من حق الزوجة ان تُطلقك.
الساقي: حلوة هذه الفكرة، المرأة تُطلق الرجل!
الغجري: وهذا الأمر أولى بالمواطن حيث له الحق في أن يكون حراً حتى لو طلَّق موطنه، قلَّة أوطان في هذا العالم. أنت غير مرتاح في وطنك أهجره، لماذا تلزق به، لا أنت تُناسبه ولا هو يُناسبك. في النهاية الدولة الوطنية هي المسؤولة عن هذا الخراب الذي يعمّ في المجتمع. أم أذكركم بدولة غاية في الوطنية صنعت المعتوه أدلف هتلر الذي كان عريفاً في الجيش؟
وطن: أيها الساقي “عجبتك” هذه المحاضرة من الغجري وهذه الأحجار التي رمانا بها؟
الساقي: ماذا تقترح؟
وطن: ماذا أقترح! بماذا؟
الساقي: في شأن الدولة الوطنية.
يتدخَّل المخرج قائلاً:
سيداتي سادتي لا بد في النهاية أن نسدل الستار على هذا العمل المسرحي الذي أسهمتم في تأليفه فقد سجلت حواركم كاملاً في هذه الأوراق. وأعتقد من وجهة نظر شخصية بأنه كان موفقاً إلى حدٍّ كبير. أما الخلاف في وجهات النظر حول مفهوم الدولة الوطنية فيمكننا حله ولكن ليس بالرجوع إلى السياسيين لأن أفق تفكيرهم أضيق من أن يتحمل حلولاً جذرية لمشاكل المجتمع المستعصية. وعلى سبيل المثال في الحرب السورية بين مكونات المجتمع انقسم الناس إلى فرقاء وتمِّ الاصطفاف على أُسس مذهبية أو عرقية أو قومية أو حزبية. ما العمل، ما الحل؟ جماهير غفيرة لا تُحسن العيش المشترك مع الآخر لا بد إذاً من الفصل بينهم، هم يريدون ذلك، حقق لهم هذه الأمنية، دعهم يعيشون في مناطقهم ويشكلون دولة اتحادية مع الآخر المختلف، دع لهم مجالسهم المحلية وبرلمانهم وحكومتهم وجامعاتهم وصحافتهم وتلفازهم على غرار الكثير من الدول، دع الديمقراطية تعمل براحتها. ماذا تخسر أنت أيها السياسي؟
يُتابع المخرج حديثه ملتفتاً إلى الجمهور بعد توقف قصير لالتقاط الأنفاس:
أما عن شائعة “العيش المشترك” فلا تلتفت إليها لأن العربي يتزوج عربية والأمازيغي يتزوج أمازيغية والكردي يتزوج كردية والشركسي يتزوج شركسية والأرمني يتزوج أرمنية والآشوري يتزوج آشورية. وإذا انتقلت إلى الدائرة الأضيق في العيش المشترك، فستجد النتيجة المنطقية التالية: السني يتزوج سنيّة، والدرزي يتزوج درزيّة، والعلوي يتزوج علويّة، والإيزيدي يتزوج إيزيديّة، والشيعي يتزوج شيعيّة، والماروني يتزوج مارونيّة، والقبطي يتزوج قبطيّة، واليهودي يتزوج يهوديّة. وإن قلت لي والعلمانية أين هي؟ أقول لك بلا علمانية بلا بطيخ.
يتوقف المخرج مرة أخرى، يلتقط أنفاسه، ثمَّ يُتابع:
أما الاستثناءات التي تتغنى بها، فدعك منها، فقد كان السني يتزوج شيعية وهذا من زمن مضى وانقضى. والدرزية تروح خطيفة مع زميلها في الجامعة وهو ليس درزياً فتُحارب من طائفتها وتُقاطع من أهلها. كذلك الأمر في الديانات والقوميات المختلفة. وليكن في علمك أن الأرثوذكسي حتى بدايات العقد السابع من القرن العشرين كان لا يستطيع الزواج من بروتستانتية. هذه هي شائعة العيش المشترك في الدولة الوطنية. وألف سلام وتحيّة.
يُسدل الستار