ويكيليكس: السردية الرقمية

يحضر التفاعل السردي (narrative interactions) في صلب ممارسة الحياة، في داخله يتنازع المزيد من العمليات المعقدة والمركبة، حيث يحاول مرة اللجوء إلى التخفي والسرية والكتمان، بما يضمن له حماية المصالح والأهداف. وفي محاولة أخرى يتوجه نحو الكشف والعلن والصراحة، من أجل إشباع الفضول. هذا التفاعل السردي يحرك فيه الفعل والمضمون والموضوع.

مثلت سردية ويكيليكس صدمة عنيفة على مستوى العالم، حيث استطاعت أن تغيّر المعنى والعلاقات، لاسيما حين استطاعت القضاء على نرجسية الوثيقة، والعمل على إسقاط المكانة التي كانت تتمتع بها. إنه التسلل في صميم الخصوصية حتى غدا المهم في أشد أحوال البساطة.

إنها أحوال السردية الرقمية التي عملت على تغيير العالم من خلال القضاء على ثنائية المكشوف والمخفي، والسعي حثيثا نحو رسم معالم العالم الجديد المستند إلى الشفافية. لم يعد العالم يعيش على توزيعات الحقب والمراحل التاريخية التقليدية، بل إن التطلع نحو فهم العالم صار يتم من خلال التركيز على دراسة الوضعيات. إنه السرد الرقمي وأحوال السيطرة والتوجيه والتفاعلات السردية التي تعمل على إنتاج المعنى الذي ينتجه العصر الذي نعيش فيه. السرد الذي يقوم على أهمية تمييز التفاعلات المجازية في الخطاب الرقمي (Michael Sinding, 2014 Body of Vision: Northrop Frye and the Poetics of Mind, University of Toronto Press, p 108)، والعمل على رصد الدلالات التي يزخر بها الحدث الذي تم فيه عمل الفضح، والكشف للمجمل من العمليات التي نالت الحظوة والقيمة والمكانة التقليدية، حتى جاء ويكيليكس ليجعل منها في أشد حالات الوهن والضعف والإحراج (Justin B. Richland, 2008, Arguing with Tradition: The Language of Law in Hopi Tribal Court, University of Chicago Press, p 122.  هنا لا يمكن ترصده عبر مسار واحد، بقدر ما يقوم على المسارات المتعددة، فهم يتعلق بالمزيد من كمية الدلالات والمعاني.

تفاعل لا يلبث أن يظهر على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والأمني طبعا، ويعمل بكل وضوح على اختراق المنظومة الراسخة من الوقار، والسمعة القديمة للمؤسسات العريقة، من خلال الكشف عن الأساليب التي تعمد إليها وتمارسها في الخفاء. إنها باختصار سرد فضائحي لمجمل الأسرار التي بقي الفضول الإنساني يسعى جاهدا للتعرف عليها، فيما جاءت لحظة ويكيليكس ليجري فيها رفع النقاب عن الخفاء (Michal Beth Dinkler, 2013, Silent Statements: Narrative Representations of Speech and Silence , Walter de Gruyter Gmbh, Berlin, p 205).  وهكذا يكون التفاعل السردي بمثابة الوسيلة التي يتم من خلالها الوقوف على جعل الواقع مختلفا، وكيف تكون التفاصيل تحمل ملامح أخرى، لاسيما بعد أن تجري إزاحة السردية الكبرى عن السطوة والحضور المركزي. إنها الفسحة التي يتم فيها منحها إلى العقل من أجل جذب الأنفاس، ومن ثم القدرة على التحديد والتمييز (Alexandra Georgakopoulou, 2007, Small Stories, Interaction and Identities, John Benjamins Publishing Company, London, p 89.

 الصدمة العنيفة التي تعرض لها الناس، وهم يتعرضون لهذا الكم من الوثائق التي تكشف عن الأسرار، والتفاصيل المتعلقة بطريقة التعاطي مع الأحداث، عمل على قلب المعادلة السردية، وطريق التلقي لدى عامة الناس، الذين باتوا يعيشون أحوال التناقض والتداعي والشك حول جدوى العالم. بل راح الإنسان يفكر في طريقة التعاطي مع التجارب الشخصية، وكيف يمكن له الوثوق بهذا العالم الذي تحركه الأسرار (Uta M. Quasthoff, Tabea Becke, editors, 2004, Narrative Interaction, John Benjamins Publishing Company, London,  p 109.). إن الأمر هنا لا يتعلق بطريقة التلقي المباشر، لكن التفاعل السردي  يكشف عن مستوى الانفعال الإنساني وتأثيره على السرد بصورة عامة، حيث التفكير في المهم والأقل أهمية، وكيف يمكن طرح الأسئلة حول هذ العالم الذي غدا هشا وضعيفا وهزيلا، بعد أن تم هتك الأسرار.

 إنها الفضيحة التي تلاحق كل شيء، وأيّ شيء في ظل سطوة وسيطرة السبرانية التي لا حدود لقوتها وسيطرتها (Michael G. W. Bamberg, editor, 2007, Narrative – State of the Art, John Benjamins Publishing Company, Amsterdam, p 173.).  لا سيما حين يدخل الإنسان في عقد المقارنة المباشرة بين قوة المؤسسة الرسمية التي تمتاز بالقوة والسلطة والسيطرة، وبين قدرات الإنسان المحدودة للحفاظ على أسراره الشخصية. وكيف يتمّ انتهاك كل هذه القوة على يد موقع إلكتروني لا يعرفه أحد، آمن بفكرة الشفافية، وعمل على التعاطي مع العالم وفق الرؤية التي يراها ويعتقد بها. إنه السرد المختلف الذي يتعامل مع العالم بناءً على أنواع مختلفة من التفاعل السردي (Uta M. Quasthoff, Tabea Becker, editors, 2004, Narrative Interaction, John Benjamins Publishing Company, Amsterdam, p 15.).

إنها أحوال التداعي لطريقة التفكير بمستوى العلاقات حول سرد الذات وسرد الآخر وسرد العالم، وإمعان التفكير بالطريقة التي يتم فيها التعاطي مع هذا العالم الذي ما انفك يعيش أحوال التحول (  James A. Holstein, Jaber F. Gubrium, 2012, Varieties of Narrative Analysis, SAGE , Los     Angeles, p 125.).  إنه الحضور للمجمل من التفاعلات الاجتماعية، ومدى تأثيرها في طريقة التفاعل السردي حيث المعطيات التي يجسدها طريقة الفعل الصادر عن المبادرة البشرية الفردية، بعد أن كان الفعل محصورا في التأثير الكبير والهائل الذي تقوم به المؤسسة  (  Marina Grishakova, Marie-Laure Rya, editors, 2010, Intermediality and Storytelling,  De Gruyter, Berlin, p 208.).  وهي الأحوال التي راحت تبشر بأن العالم لا يمكن أن يتم النظر إليه بناء على السائد من الأفكار، بقدر ما يقوم على التفاعل السردي، والذي يمكن أن يحمل المزيد من أحوال إعادة إنتاج المعاني (JoAnn Phillion, Ming Fang He, F. Michael Connelly, editors, 2005, Narrative and Experience in Multicultural Educatio, SAGE , London, p 226.).