يوحنا الدمشقي
قليلة هي الأسماء التي التصقت بها دمشق، فما عدا المهندس العظيم أبو لودور الدمشقي صاحب عمود تراجان الشهير، وما عدا مؤرخ دمشق الكبير ابن عساكر وما عدا الشاعر الوأواء الدمشقي، هناك أيضاً وربما أولاً القديس يوحنا الدمشقي أو سرجون بن منصور بن سرجون المنسوب إلى قبيلة تغلب العربية على الأرجح، وما عدا تلك الأسماء العظيمة، فالتاريخ لم يحتفظ بأسماء كثيرة حملت اسم الدمشقي، وربما كان سرجون هذا الذي اشتهر بالتاريخ الديني، والتاريخ الكنسي، باسم يوحنا الدمشقي هو الاسم الأكثر شهرة عالمية لغير المختصين.
استطاع قديسنا ورجل الدولة الكبير هذا أعني يوحنا أن يعبر الحدود واللغات والمذاهب المسيحية على شدة ما كان بينها من عنف، واستطاع أن يجعل اسمه واحداً من أهم أسماء المعلمين والمنشدين والمفكرين الدينيين في المسيحيّة قبل انقسامها إلى الكنيستين الأكبر، الأرثوذكسية والكاثوليكية، ثم فيما بعد إلى البروتستانتية وظلت أناشيده وتهليلاته وقصائده الدينية تتداول في الكنائس بلغات عدة باليونانية واللاتينية والعربية فيما بعد.
قارئ التاريخ الإسلامي المبكر يقع في مأزق، فما عدا أن من كتب تاريخ القرن الأول للهجرة وبتحديد أكبر تاريخ العصر الأموي هم أعداء الأمويين السياسيون الذين جاؤوا بعدهم، وقارئ التاريخ الإسلامي سيصاب بصدمة إذ لن يعثر على نص تاريخي واحد عن الفترة الأموية مكتوب في الفترة الأموية، فـ”مروج الذهب” للمسعودي كتب في الفترة العباسية أي بعد أكثر من قرنين على انقضاء ذلك التاريخ، والطبري والواقدي والبلاذري.. أعوذ بالله هل يمكن أن يكون تاريخ الفترة الأزهى في التاريخ الإسلامي، وأعني فترة الفتوحات الكبرى وتاريخ الحرب الأهلية الأولى في التاريخ الإسلامي أي الصراع ما بين أنصار علي وأنصار معاوية، أن يكون هذا التاريخ قد كتب بعد قرن أو أكثر من حدوثه، ومستخلَصاً من ذواكر الباقين على قيد الحياة وبيد أعداء تلك الفترة بغض النظر عن محاولاتهم النزاهة والحياد ففي المسائل السياسية والعقيدية من الصعب النزاهة والحياد.
إذن فتلك الفترة أعني الأموية هي فترة فراغ معرفي ليس هذا فحسب، بل هناك فراغات أخرى لم تغطَّ أبداً: ما هو دور القبائل العربية الكثيرة في بلاد الشام، قضاعة وبطونها، كلب، وبكر وتغلب، وغسان بتلوّناتها. ما هو دور أولئك الناس في الحرب، أو تسهيل الفتح للمسلمين الحجازيين.
وما هو دور البيروقراطية الإدارية الدمشقية الشامية العريقة في المدينية وقيام الدولة، وجباية الضرائب، وبناء الجسور، والإنفاق على الجيوش في تعليم المسلمين الحجازيين على الدور الجديد الذي أوكله لهم القدر حينما أسقطوا الدولة الفارسية العجوز نهائياً. وزلزلوا الدولة البيزنطية وكادوا يسقطونها نهائياً لولا الحرب الأهلية التي امتصت اندفاعهم إلى الداخل.
ما هو دور البيروقراطية الشامية المسيحية في كل هذا؟
ما معنى كلمة الجند الشامي المطيع والذي تحسَّر عليه علي بن أبي طالب وتمنى لو يستبدل كل عشرة من جند الكوفة والبصرة بواحد منهم. وما الذي ميّز جند الشام هؤلاء حتى جعلهم ينتصرون على جند الإمام علي رضي الله عنه رغم تعلّق جند الإمام علي وإيمانهم بقضيته أكثر من تعلّق جند معاوية به، ثم يكمل هؤلاء الجند رحلة الاندفاع الإسلامية الأموية فيصلون أيام الحجّاج إلى حدود الصين، وأيام أبناء عبد الملك إلى حدود فرنسا.
فمن هم هؤلاء الجند الشاميون، وما سر قوتهم واندفاعتهم لبناء إمبراطورية ستعيش حضارياً لأكثر من أربعة عشر قرناً وإن تلاشى تماسكها السياسي والعسكري وبقي إشعاعها الحضاري والثقافي في انتشار الدين الإسلامي واللغة العربية في تلك الإمبراطورية.
في البدء جاء العرب المسلمون بقيادة يزيد بن أبي سفيان وانتصروا على البيزنطيين في معركة أجنادين عام 634 م. وارتد البيزنطيون مندحرين نحو دمشق ثم رأى سرجيوس قائد البيزنطيين المهزوم أن ينسحب إلى حمص فأنطاكية لينطلق المسلمون يطاردونه ولكن البيزنطيين يوقعون بالمسلمين هزيمة ما قرب حمص عام 635 ويعود المسلمون إلى دمشق يحاصرونها، وعندئذ تقتنع النخب في دمشق أن بيزنطة قد انتهت كما انتهت فارس على يد هؤلاء الحجازيين، فرأوا أن يفاوضوهم على تسليم دمشق، ولما كان الحجازيون المسلمون حديثي عهد في حصار المدن وآليات الحصار، وكانوا خائفين من رجعة البيزنطيين معززين بجيوش جديدة، فهيبة الروم ما تزال قوية فقد رضوا بشروط الدمشقيين التي وضعتها النخبة الدمشقية لصالح المدينة لا لصالح الفاتحين ووافق المسلمون، واستسلمت المدينة استسلامها الأول.
ولكن من كان رأس النخبة الدمشقية، ومن كان المفاوض بالنيابة عن المدينة؟ إنه منصور بن سرجون جد الرجل الذي سيكون كتابنا عنه وأعني منصور بن سرجون بن منصور المفاوض على تسليم دمشق ومدير المالية العام للولاية الفينيقية الغنية والتي كانت دمشق أهم مدنها.
منصور بن سرجون ناظر المالية والمفاوض على تسليم دمشق.. من هو، وإلى أيّ الأعراق ينتمي. الحق ليس لدينا نص صريح على نسبه، ولكن كل الإشارات تدل على أنه من أصل تغلبي، تلك القبيلة التي سنعرف منها فيما بعد الشاعر الكبير الأخطل التغلبي، ولكن ما الذي يرجّح كون منصور هذا من تغلب.
قبل كل شيء، علينا أن نذكر أن القبيلة الأكبر، أو تحالف القبائل الأكبر المنتشر في بلاد الشام كان لقضاعة التي جمعت بين أبنائها أفخاذاً متحضرة، وأفخاذاً رحالة بدوية، ومن أهم أفخاذ هذا التحالف الكبير كانت قبيلة كلب التي استوطنت في القلمون قرب دمشق، والتي ألَّف أبناؤها معظم سكان المزة المتاخمة للمدينة والتي عرفت لزمن طويل باسم “مزة كلب” والتي اعتنقت المسيحية ديناً في مرحلة مبكرة جداً.
هذا التحالف من القبائل (قضاعة) كانوا يعتبرون القديس سرجيوس شفيعهم وكانوا يستخدمون هذا الاسم بصيغة سرجيس وأحياناً سركيس، وأحياناً بصيغة التصغير سرجون أو سرجه وعلينا ألا ننسى أن اسم رصافة هشام القريبة من الرقة حالياً كان اسمها سرجيوبوليس أو مدينة القديس سرجيوس، وعلينا ألا ننسى أن التغالبة كانوا يحملون على راياتهم صورة القديس سرجيوس.
ولنذكر قصيدة الأخطل التغلبي:
لما رأونا والصليب طالعاً ومارسرجيس وموتاً ناقعاً
ورد جرير عليه:
يستنصرون بمار سرجس وابنه بعد الصليب وما لهم من ناصر
ما يهمنا من هذا كله أن رجلنا منصور بن سرجون الجد كان على الأغلب تغلبياً وقطعاً لم يكن يونانياً، ولا لاتينياً.
ولكن ما الذي يجعل رجلاً مثقفاً وبيروقراطياً كبيراً (مديراً لمالية الولاية كلها) يقرر تغيير ولائه من بيزنطة إلى هؤلاء البدو القادمين من الحجاز.
كانت آرام أو بلاد الشام بصيغة اسمها العربية تعاني دائماً من وفرة في الثقافة والحضارة، ونقص مريع في القدرة على إنشاء دولة مركزية كما حصل في بلاد الرافدين وبلاد النيل، وكانت آرام ممزقة بين آرام دمشق، وآرام حماه، وآرام صوبا، ويمحاض.. إلخ. حتى جاء الفرس فداسوا على رقابهم ببسطارهم الفاحش واستعبدوهم كما استعبدوا سكان الشرق حتى جاء الإسكندر المقدوني والذي يعتبر “بييرروسي” صاحب كتاب “مدينة إيزيس أو التاريخ الأصلي للعرب” فيه أن حرب الإسكندر لم تكن غزوة خارجية، بل كانت انقلاباً داخلياً ضمن الثقافة الآرامية نفسها، تلك الثقافة التي كانت سيدة في فارس ومقدونيا واليونان، وهذا ما يفسر سهولة اندفاع الاسكندر من مقدونيا وحتى الهند، فالشعوب الخاضعة للإمبراطورية الفارسية لم تقاوم. ولم يقاومون؟ أللدفاع عن الطاغية داريوس؟
دخل الإسكندر محرراً ومعه فلسفة أرسطو ورسائله، فمجَّده التاريخ الشرقي، فهو من أبعد البرابرة عن عواصم الحضارة، ترى هل كان من أقام السد ضد يأجوج ومأجوج هو الإسكندر، ومن يأجوج ومأجوج أصلاً؟ أهم بداة آسيا الوسطى الذين أدمنوا مهاجمة عواصم الحضارة ودمارها وأكل الأخضر واليابس؟ ترى هل مجَّد الإسلام الإسكندر في تمجيده ذي القرنين، مجَّده حتى قارب به النبوة؟ ولنذكر أن القرآن يحدث عن الرسل (غير المعروفين)، فيقول “ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك (سورة النساء). فهل كان ذو القرنين الإسكندر واحداً منهم؟ الله أعلم! ولكن ما نعلم هو أن ذكرى المقدوني كانت ذكرى محترمة جداً حتى أن التاريخ ظلَّ لأكثر من ألف عام يؤرخ بوفاة الإسكندر.
عاش الشاميون فترة زاهية خلت من بطش يأجوج ومأجوج، ومن استعباد الفرس لهم حتى جاء البسطار اللاتيني فسحق تلك المرحلة الزاهية، ولكن الشاميين استطاعوا اختراق البسطار اللاتيني حينما استوعبوا الهجمة المتوسطية وابتلعوها ومن ثم أعادوا إنتاجها فأرسلوا بعدد من الشاميين أباطرة على روما، وحصلوا على حق المواطنة الرومانية في تحالف الديكابوليس الشهير، وفي المشاركة الفاعلة في الحضارة الرومانية بمهندسيهم أبولودور الدمشقي وشعرائهم وكتابهم لوقا السميساطي وميلياغروس من جادارا.. إلخ. فكانت دمشق المتوسطية في تلك الفترة تنتمي لبيئتها ونظرائها، ولم تعد مختبأة في الداخل الشامي.
ولكن الحلم بدولة مركزية شامية لم يفارقهم، وهكذا حاولت زينب – زنوبيا الحلم في تدمر، وجاءت روما بكل آلتها العسكرية فمزَّقت تدمر وحلمها، ثم جاء الأنباط في سالع ومدائن صالح وصنعوا ما يشبه الإمبراطورية إلى أن أحس البسطار اللاتيني بالخطر، فمزقهم شر ممزق، بل حاول حتى اليهود الثورة في ما سمّي بثورة الماكابيين ولكن العقوبة كانت في تدمير أورشليم وتحريمها عليهم. وكانت المسيحية الدين الشامي، ألم أقل إن آرام كانت أقدر على الثقافة والحضارة منها على تشكيل الدولة المركزية، أفلم تستطع آرام نشر لغتها الآرامية في العالم المتحضر كله دون عون من جيش (كبريطانيا) أو تكنولوجيا إعلامية شديدة التطور (كأمريكا) المعاصرة مثلاً.
وكانت المسيحية ثم كان المجمع الخلقيدوني الذي حرَّم وكفَّر الفرق المسيحية المخالفة للمجمع الخلقيدوني وهكذا كُفّر وحُرِّم اليعاقبة في مصر والشام (أتباع يعقوب البرادعي الشامي) وحرم الأريوسية والمرقيونية والنسطورية.. إلخ، وبدأ العذاب والاضطهاد الديني وجاءت الحروب الفارسية البيزنطية وكانت دمشق أولاً، ثم الشام تالياً الضحية.
واحتل الفرس الساسانيون الشام وسمعت قريش والحجاز بهذه الهزيمة فشمتوا بالرسول الكريم. أفليس المهزومون أهل كتاب كما هو الإسلام، وسعدوا لانتصار الوثنيين الفرس على أهل الكتاب الروم، فنزلت الآية القرآنية “غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين” (سورة الروم)، وهذا ما كان، فلقد استرجع البيزنطيون الشام، ولكن الضحية كانت دائماً هي الشام، جيوش تأتي فتحرق وتنهب وتغصب، وجيوش تمضي فتحرق وتنهب وتغصب.
عاد الروم، وكان منصور بن سرجون مدير المالية قد دفع الخراج كاملاً للفرس مئة ألف دينار، ولما وصل الروم طالبوه بدفع الخراج نفسه، فلما اعتذر بأنه قد دفعه لأسياد البلد السابقين الفرس رفضوا وأصروا على أن يدفع الخراج الجديد مئة ألف دينار، ودفعها منصور بن سرجون، وحملها في قلبه غضباً وألماً للظلم المزدوج.
وجاء الحجازيون واستيقظ الحلم الشامي في دولة عربية لا يحكمها فارسي ولا رومي. ترى أكان هذا هو الدافع الداخلي لمنصور بن سرجون في نقل ولائه من بيزنطي غريب وإن اتفق معه في الدين إلى ابن عم عربي وإن اختلف معه في الدين.
سنرى الموقف نفسه يتكرر بعد حوالي أربعة عشر قرناً حين نقل الشاميون ولاءهم من حكام القسطنطينية بيزنطة سابقاً إسطنبول حالياً رغم اتفاقهم معهم في الدين إلى حجازي اسمه فيصل بن الحسين. أعرف أن هناك اختلافات في التشبيه، ولكن ما يهم هو الحلم الشامي في إقامة دولة خاصة بهم لا يكون ولاؤها لبرسيبوليس الفارسية ولا للقسطنطينية الرومية.
وما يقوّي اعتقادنا في أن منصور بن سرجون الجد حين سلَّم دمشق للحجازيين المسلمين أول مرة كان يعرف ما يفعل وعن سبق تصميم بدليل أنه عند معركة اليعقوصة، أو الواقوصة، أو معركة اليرموك، حين أمره باهان باسم الإمبراطور هرقل أن يدفع رواتب الجند البيزنطيين الذين سارعوا لنجدة دمشق بعد أن تخلى الحجازيون عنها وأعادوا الجزية والغرامة الحربية لأهلها حين عجزوا عن حمايتها مؤجلين الأمر إلى ما بعد المعركة الفاصلة والتي ستكون في اليرموك.
حين طلب القائد البيزنطي باهان من منصور أن يدفع رواتب الجند وكان قد دفع الخراج مرتين، مرة للفرس، ومرة للروم فأجاب منصور بأنه لم يعد يملك ما يكفي من المال، وكان ينتوي على الأغلب أن يصنع ثورة في المدينة ضد بقايا الحامية البيزنطية ويعيد تسليمها للعرب، واضطر باهان أن يتابع مسيرته إلى اليرموك دون مال، وضرب معسكره على وادي الرقاد أو يعقوصة ومضت أيام والجيشان متهيبان البدء بالحرب، وأخيراً خرج منصور من دمشق يحمل المال الذي جمعه من المدينة كما أعلن ليقدمه لباهان.
اقترب منصور ومعه جمع كبير من أهالي دمشق وكان الوقت ليلاً، اقتربوا يحملون المشاعل وفجأة أمر منصور من معه بقرع الطبول ونفخ الأبواق وإطلاق الصرخات. أكان هذا فعلاً بريئاً يريد أن يبلغ باهان بوصوله، أم أنه كان يريد لما حصل أن يحصل. البيزنطيون حين رأوا المشاعل وسمعوا الطبول والأبواق ظنوا أن مدداً للجيش العربي قد وصل وأن الخطة تقضي بكبسهم من الوراء والأمام، فذعروا، ورموا بأنفسهم في وادي الرقاد، فهلكوا وحسمت المعركة بين المسلمين والروم.
هذا الموقف والذي يذكره ابن البطريق ويذكره ابن العميد ألا يفسر لنا ضيق الشاميين بالحكم البيزنطي البغيض والذي لم يتبق من فضائله بعد هزائمه الكثيرة أمام الفرس، واضطهاده المقيت للفرق المسيحية التي لم تقبل بقانون الإيمان الخلقيدوني لم يتبق منه إلا الجابي القاسي والطماع الذي لا يفكر في إبقاء بعض الحليب للعجل بعد ابتزاز البقرة حتى النقطة الأخيرة.
هذا الموقف الذي اتخذه منصور بن سرجون التغلبي العربي ربما يفسر الكثير فيما بعد. يفسر اعتماد الحكم الأموي عليه وعلى جهازه البيروقراطي في إدارة بلاد لا خبرة للحجازيين بإدارتها، ويفسر التدلل ودالته وابنه وحفيده فيما بعد على الخلفاء الأمويين. فهم ليسوا من سلَّم البلد فقط، بل هم من درَّبوا الحكام الجدد على فن إدارة البلاد، وأشرفوا على تدريب الجند من البدو المتطوعين على فن إدارة الحرب وعلى إقامة الكراديس على الطريقة الرومانية، وعلى حسن التدريب والطاعة اللتين تنتصران دائماً على الشجاعة الفردية الأمر الذي يفسر مقولة علي فيما بعد عن طاعة الجند الشامي، فالطاعة هي بنت التدريب والاحتراف.
فيما بعد وحين سنتابع منصور الحفيد صديق ونديم يزيد بن معاوية وصديق الأخطل ونخبة المثقفين الشاميين في البلاط الأموي سنتابع أيضاً طرائق التعليم الجديدة التي أدخلها الشاميون المسيحيون إلى البلاط الأموي، الفلسفة والمنطق والجدل، وسنتابع أيضاً نقل الجدل اللاهوتي إلى الإسلام، وقيام غيلان الدمشقي والقدريّين .
يوحنا الدمشقي أو منصور بن سرجون وبعد أن يتخلّى عن العمل لدى عبدالملك ويترهبن في دير مار سابا قرب بيت المقدس سيدخل مرحلة جديدة من دراسة اللاهوت وفي الكتابة في علم اللاهوت الأمر الذي سيجعل المؤرخين يكتبون عنه فيما بعد: لم يكن تأثير يوحنا الدمشقي على معاصريه ولا على من تلاهم فقط، بل كان كتابه “ينبوع المعرفة” مصدراً معرفياً أساسياً للمفكر المسيحي الكبير توما الأكويني، ثم يضيف: والأمل أن يأتي اليوم الذي تضع فيه الكنيسة (الكاثوليكية في روما طبعاً) كتاب ينبوع المعرفة للدمشقي إلى جانب موسوعة توما الأكويني اللاهوتية خدمة للوحدة بين الشرق والغرب.
والآن ما الذي تبقى من الأمويين ومن يوحنا الدمشقي؟
إن زائر الجامع الأموي الآن حين يصل إلى ضريح النبي يحيى، فيرى الموحدين الدروز وهم يقدمون نذورهم وأدعيتهم إلى النبي يحيى، ويرى إلى جانبهم المسلمين السنة، يقدمون نذورهم وأدعيتهم إلى النبي يحيى، وإلى جانب هؤلاء وأولئك يرى مسيحيّي العالم بكل طوائفهم يقدمون نذورهم وأدعيتهم ليوحنا المعمدان الاسم الآخر للنبي يحيى، فيدهش لهذا التعايش. ولكن الزائر حين يترك المصلى ويخرج إلى الباحة ليرى المسلمين الشيعة الإثني عشرية وهم يزورون ويقدسون مشهد رأس الحسين عليه السلام. لن يدهش فقط بل سيذهل.. فهذا الجامع الذي يجمع المذاهب والأديان في معبد واحد ظاهرة لا مثيل لها في العالم كله، فلن تجدها في معبد مسيحي آخر، ولا معبد مسلم آخر.
ظاهرة التعايش والتسامح هذه في الجامع الأموي هي التراث الذي تركه لنا الأمويون.. منصور بن سرجون أو يوحنا الدمشقي إنه التراث الذي علينا أن نحفظه فهو ما أبقى دمشق على التاريخ، وعلى المحبة وعلى التعايش. إنها دمشق واسطة عقد المتوسط، ومفتاح الغرب على الشرق.