يوميات دمشقية

الأحد 2021/08/01
لماذا اندلعت الاحتجاجات

في غمرة ليلة 24 إلى 25 مارس وبعد منتصف الليل بقليل شرعت مواكب أنصار بشار الأسد في التظاهر للمرة الأولى في شوارع وأزقة باب توما وهو الحي التاريخي للمسيحيين الواقع جنوب شرق دمشق. استيقظت داخل غرفتي في الدور الأرضي من منزل دمشقي عتيق على أصوات الصافرات التي كانت تصاحب هتافات التأييد للرئيس السوري: الله بشار وبس وهو شعار يجري ترديده بوتيرة جهنمية لفترة تتراوح بين خمس وعشر دقائق. وللمرة الأولى منذ ستة أشهر غابت موسيقى التيكنو والديسكو التي كثيرا ما كانت تقض مضاجع الأسر المسيحية في هذا الحي الذي يعتبر أرقى فضاء سياحي في دمشق لتحل محلها مظاهرات التأييد والاستفزاز والتحرش هاته والتي لا أحد يعرف ان كانت تلقائية أو بتدبير جزئي من النظام. ومنذ 18 مارس بدأت بعض الاضطرابات في مدينة درعا جنوب سوريا في الطريق الواصلة بين دمشق والحدود الأردنية. لماذا اندلعت الاحتجاجات في هذه المدينة التي يبلغ تعداد سكانها 10000 نسمة التي لم يعرف عنها سوابق في المعارضة؟ ثمة عاملان حاسمان على ما يبدو ويتمثلان في فضيحة الأرض والأطفال الذين جرى تعذيبهم. يبدو العامل الأول دالا على علاقة القوة التي تصل بين الأسرة التي تحكم سورية منذ 1970 وسكان المدينة. سعى رامي مخلوف ابن خال الرئيس والقلب النابض للاقتصاد السوري قبل شهور إلى الاستحواذ على أراض محيطة بدرعا بما يعنيه ذلك من طرد للبدو الذين كانوا ملاكا لها. كانت محافظة درعا التي تملك هضبة حوران تمثل في الحقيقة سلة الخبز السورية. كان البدو الذين تأثروا ربما بالثورة التي اندلعت في تونس ومصر قد جاهروا بمعارضتهم لعملية الترامي هذه دون جدوى؛ لأن محافظ المدينة فيصل كلثوم الذي جرى عزله في 23 مارس لجأ إلى القوة كي يطرد الفلاحين من أراضيهم. تضاعفت ثروة رامي مخلوف مالك شركة الاتصالات السورية والتي تشكل ستين في المئة من الاقتصاد السوري بتأثير تواطؤ المحافظ المرتشي وسياسة مناقضة لمبادئ حزب البعث. منذ عام 1963 أسس حزب البعث والأنظمة التي تولت الحكم باسمه قاعدة سياسية تنهض على أساس توزيع الأراضي على الفلاحين وصغار الملاك. وتعتبر هذه السياسة محصلة مباشرةً لبنية حزب البعث المشكلة أساسا من أعضاء ينتمون الى الطبقة الوسطى القروية والحضرية والمدعومة من لدن أنتلجنسيا بورجوازية صغيرة ذات أصول قروية. وبعد فترة قصيرة من هذا الحادث خرج أطفال صغار في سن الثانية عشرة والثالثة عشرة مدفوعين بحماسة ما جرى في تونس ومصر وهم يرددون شعار: الشعب يريد إسقاط النظام. وسرعان ما اعتقلتهم قوات الأمن ليتم إرجاعهم إلى ذويهم وقد اقتلعت أظافرهم وأسنانهم. وسوف نحيط علما بأن هذين الحدثين سيصبان الزيت في النار داخل سياق إقليمي تاريخي يتسم بالحماسة.

وفي ليلة 24 و25 مارس هاته انبثقت أسئلة عديدة في أذهان سكان حي باب توما. هل كانت مظاهرات الدعم والتأييد للرئيس تترجم بالفعل تعلقا حقيقيا بشخص بشار او خوفا من الفتنة العقدية والسياسية والاجتماعية التي يمكن أن تنجم عن سقوط النظام؟ وإذا كان ثمة بعض التقديس لشخص بشار حقيقة أفلا يشكل ذلك استفزازا عصيا على الاحتمال بالنسبة إلى باقي السكان؟

 

ليلة 25 مارس

علمنا بأن طالبا أميركيا كان يقيم في حلب قد اختفى وكان قد عاد لتوه من القاهرة بعد أن شارك في مظاهرات ساحة التحرير وعقد العزم على أن يضطلع بالدور ذاته في سوريا. وقد بدأت الاعتقالات والتهديد بالسجن تلقي بظلالها القاتمة على جامعة دمشق. وعلى سبيل الاحتفاء بذكرى طالب لقي مصرعه على أيدي الشرطة دعا طلاب على صفحتهم في فيسبوك إلى إحضار شموع من أجل الوقوف دقيقة صمت ترحما على روح هذا الصديق. وقد أعلمتهم قوات الأمن بأنه في حال اجتماع أكثر من ثلاثة طلاب في أيّ مكان فإنه سيجري اعتقالهم وسيصبحون أثرا بعد عين. وبالاستناد إلى إشاعات لا يمكن التثبت من صحتها فإن الاضطرابات المناهضة للحكومة تقترب من العاصمة وتوشك على الوصول إلى الضاحية. وفي قلب العاصمة تتضاعف الإشارات والعلامات الدالة على الارتباط بالنظام وهو ما تجليه الصور الفوتوغرافية العديدة الملصقة بشكل لم يسبق له نظير على زجاج السيارات والحافلات وواجهات المتاجر. وفي الحافلات الخضراء التي تصل بين المواضع الرئيسة والهامة في العاصمة تعلو الأغاني والأناشيد التي تقوم بتمجيد النظام ورئيسه بطريقة تشعرك بالتخمة.

 

ليلة 29 مارس

كانت ثمة مظاهرات تأييد ودعم ضخمة متوقعة للنظام الحاكم. وهي بمقاييس تثير الشعور بالخوف. كانت وسائل النقل العمومية وخصوصا الحافلات الخضراء قد شلت حركتها من لدن الآلاف بل الملايين من الأشخاص الذين نزلوا إلى الشوارع. وفي دمشق وحلب واللاذقية خرج الموظفون والأساتذة وتلامذة المدارس عن بكرة أبيهم وهم يرفعون صور حافظ الأسد وابنه البكر الراحل باسل الذي كان يجري تحضيره لخلافة والده قبل أن يغادر الحياة بشكل مبكر وصور بشار. جبال من الصور الفوتوغرافية تثير الضحك والسخرية أحيانا وتظهر بشار وهو يرتدي نظارات شمسية أو بزة عسكرية أو وسط قلب أحمر بسعة متر مربع. وكان بعض الصبايا قد قاموا برسم العلم السوري على سراويل الجينز أو شعارات تأييد للنظام.

وفي سيارة الأجرة التي أقلتني من باب توما إلى حي أبي رمانة الواقع في أقصى شمال العاصمة أكد لي السائق: هل ترين؟ أنتم الأوربيون تعتقدون بأننا لا نحب بشار. لكنكم مخطئون فنحن نحبه حقا. إلى أي حد يمكن لهذا التأكيد أو يكون صادقا ومخلصا للحقيقة؟ الطلبة الذين يتبعون أستاذهم في هذا الكرنفال المقلوب يرددون الشعارات التي يصدح بها معلمهم. وهذا الأخير مكره بدوره على المشاركة في المظاهرة الوطنية إذا كان راغبا في ألاّ يلاحظ غيابه.

حين عودتي إلى بيتي في بداية فترة الزوال وجدت الصور نفسها على شاشة التلفزيون السوري. تتحدد مهمة طائرات الهليكوبتر التي تحلق فوق المدينة منذ الصباح في تصوير هاته التجمعات الضخمة. وفي تمام الساعة الثالثة بعد الزوال صعدت إلى جبل قاسيون الواقع شمال دمشق كي تتاح لي رؤية بانورامية شاملة للمدينة وخصوصًا ساحة الأمويين التي تحيط بها أوبرا دمشق ودار الأسد للثقافة والفنون ومقر التلفزيون وفندق شيراتون. وبقدومها من ساحة السبع بحرات حيث يوجد مقر البنك المركزي فإن مواكب السيارات والمتظاهرين لم تلبث أن وصلت بأعداد أقل مما كانت عليه في الصباح.

وعند نهاية النهار غادر الأطفال مدارسهم وقد ختم العلم السوري على خدودهم. استمر ترديد الشعارات وأصوات منبهات السيارات إلى وقت متأخر من الليل فيما ظلت صور الرئيس ملصقة على زجاج وغطاء السيارات لعدة أيام بعد هذا الاستعراض المفرط للقوة من لدن النظام.

 

30 مارس

في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال تسمر الجميع أمام أجهزة التلفزيون وقبالة الشاشات الكبيرة المثبتة في الساحات العمومية. ذلك أن الرئيس سيتوجه بخطاب إلى الشعب. وقد كان وفيا للتوقيت المختار حين ظهوره أمام نواب مجلس الشعب وقد خطب لمدة خمس وأربعين دقيقة بثقة ورباطة جأش مثيرتين للحيرة. وكانت كلمته مصحوبة بضحكة مثيرة للدهشة في غمرة هذا السياق المشحون بالتوتر وهتافات النواب: لا يكفيك حكم سوريا. سوف تحكم العالم يا بشار. تحدث بشار عن المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها سوريا ومسؤولية الدول الأجنبية وقد ذكر من بينها الجزائر ولبنان وإسرائيل التي تسعى إلى زعزعة استقرار النظام. وكانت الفكرة المهيمنة تتمثل في ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية في مواجهة المؤامرة الخارجية بهدف تفادي الفتنة التي ستغرق البلاد في الفوضى. وقد تحدث بشار عن جماعات أو عصابات مسلحة في شمال البلاد تطلق النار عشوائيا على السكان. ولم تكن ثمة أيّ إشارة إلى مظاهرات درعا أو المطالب الجديدة للمواطنين أو الاعتقالات أو القتلى. وبالنسبة إلى الأصدقاء السوريين الذين التقيتهم في المساء فإن هذا الخطاب فاق في فظاعته ما كانوا يتوقعونه. وهو إنكار للأحداث التي تشهدها سوريا.

 

15 أبريل

اكتشفنا بأن الصحفي خالد سيد مهند قد اختفى. وكان لزاما على أصدقائه الانتظار بضعة أيام كي يحيطوا علما بأن هذا المراسل الصحفي الحر الذي كان يتعاون بانتظام مع برنامج “فوق الأرصفة” وجريدة لوموند قد اختفى منذ قرابة أسبوع. كان القلق يتعاظم وسط المقربين إليه وكان مرور الزمن يؤكد اليقين في تعرضه للاحتجاز والسجن. كان تاريخ اعتقاله في الحقيقة يعود إلى 9 أبريل. وقد نشرت عريضة احتجاج على الإنترنت كما قام أصدقاؤه بحملة صحفية كي يتحقق انتشار إعلامي لقضيته. وعلى الرغم من أصوله الجزائرية فقد استفاد من دعم السفارة الفرنسية التي سيكون لها في النهاية التأثير الحاسم في إطلاق سراحه في الثالث من مايو.

تتقاطع حكاية اعتقاله مع شهادات أخرى وخصوصا تلك التي يمكن قراءتها في رواية “القوقعة ” لمصطفى خليفة. وفي هذا العمل الأشبه باليوميات الذي دون به اثنتي عشرة سنة من الاعتقال في سجن الصحراء يصف الكاتب حفلات التعذيب اليومي للسجناء وخصوصا الإخوان المسلمين المعتقلين منذ حملة القمع الكبيرة لعام 1982. وكان هو الشأن نفسه بالنسبة إلى خالد سيد مهند فإن الكاتب يذكر شباب وصغر سن بعض السجناء؛ إذ لا يتجاوزون العشرين حسب الأول فيما تتراوح أعمارهم حسب الثاني بين اثنتي عشرة وثلاث عشرة سنة. كان وصف مشاهد التعذيب فظيعا ومقززا بالنسبة إلى الحالتين. تعرض خالد سيد مهند على امتداد يومين للضرب دون هوادة وما يشبه الإيهام بالصعق الكهربائي في كل المناطق الحساسة في جسده قبل أن يصبح شاهدا بالسمع والبصر على مشاهد التعذيب التي يتعرض لها رفاقه في الاعتقال. يصف مصطفى خليفة على امتداد مئتي صفحة مشاهد تنكيل لا حدود لبشاعتها ووحشيتها يعاني منها المعتقلون وأكثرها شيوعا تلك التي تتمثل في شد وثاق السجين إلى عجلة سيارة وضربه على أخمص قدميه بالعصا أو بالأسلاك المفتولة أو بأحزمة المراوح الكهربائية إلى أن ينسلخ وينزع جلد القدمين أو إكراه المعتقلين وخصوصا ذوي الشهادات الجامعية العليا على شرب مياه المجاري والبالوعات أو بصاق ومخاط الجلادين. لعل ما يثير الدهشة في حكاية الصحفي أو يوميات مصطفى خليفة يتمثل في تدخل بعض الأطباء بشكل رسمي للاعتناء بالمعتقلين كي يكونوا جاهزين لحصص التعذيب. ويروي خالد سيد مهند في هذا السياق كيف أن طبيبا كان يمرّ بحقيبته الطبية كل صباح ومساء كي يعالج المعتقلين المرضى. أما فيما يخص مصطفى خليفة فإنه يحتفي ببعض الأطباء وخصوصا الدكتور زاهي الذي أنقذ السارد من الغيبوبة التي سقط فيها عقب حفل الاستقبال في سجن الصحراء والدكتور سمير الذي أفلح في إقناع رؤسائه في السجن بضرورة جلب أدوية لمقاومة وباء التهاب السحايا الذي انتشر في الزنازين ومضاعفة وجبات الطعام لمقاومة داء السل.

يكمن الاختلاف الرئيس في أن خالد سيد مهند لبث في كفر سوسة المقر العام لجهاز المخابرات فيما جرى نقل مؤلف “القوقعة” إلى السجن العسكري بالصحراء حيث بدت له حصص التعذيب الأولى بمثابة استهلال لما ينتظره. تكمن أصالة وفرادة شهادة مصطفى خليفة في الإقصاء المضاعف الذي كان عرضة له داخل السجن. فبسبب كونه مسيحيا كاثوليكيا بالولادة وملحدا بالإضافة إلى ذلك فقد جرى رفضه ونبذه كما لو أنه كافر أو شخص قذر من لدن رفاقه المعتقلين الذين كانوا جميعهم من الإخوان المسلمين وشديدي الورع والتقوى. وكانت القوقعة التي اختار العزلة داخلها محصلة عنف مضاعف من الجلادين الذين كانوا يعذبونه ومن رفاقه المعتقلين الذين تركوه نهبا لصمت مطبق رهيب لسنوات طويلة.

لوحة: شفيق أشتي
لوحة: شفيق أشتي

 

الجمعة 22 أبريل

حبست دمشق أنفاسها في يوم الجمعة؛ إذ كانت ثمة مظاهرات متوقعة للمعارضة بمقاييس ضخمة. وحين وصلت إلى ساحة باب توما الذي كان من المفروض أن يكون مكتظًا بالبشر في الساعة العاشرة صباحا راعني السكون المطبق الذي كان يرين على أرجائها. وجدت عسرا في العثور على سيارة أجرة. وقد أخبرني سائق السيارة التي نجحت في الاندساس داخلها بأن كلمة السر لهذا اليوم تكمن في العزوف عن مغادرة المنازل. مررنا بمدينة ميتة وقلة نادرة من السكان من غامرت وجازفت بالخروج. سافرت في النهاية إلى بيروت في تمام الساعة الواحدة بعد الزوال قبل نصف ساعة من نهاية صلاة الجمعة وهو التوقيت ذاته لبداية الاضطرابات والاحتجاجات. وفي الطريق بين دمشق والبقاع التي ينبغي علينا أن نسلكها كي نصل إلى بيروت لم نصادف أيّ سيارة. وبعد عشرات من الكيلومترات من مغادرتنا لدمشق قدمت لنا نقطة مراقبة تفسيرا لذلك ويتمثل في وجود قناصين مدججين بالأسلحة يمنعون السيارات المتجهة إلى دمشق من المرور.

وفي اليوم التالي كانت الصحف التي اقتنيتها في بيروت في مستوى الاضطرابات المتوقعة. كان الأمر متعلقًا بمذبحة وكانت أعداد القتلى وهي في مجملها محصورة ضخمة وتتجاوز بكثير ضحايا الربيع في البلدان العربية الأخرى..

 

الاثنين 25 أبريل

للمرة الأولى منذ بدء الأحداث لم تعد الاضطرابات محصورة في يوم الجمعة وإنما جاوزته الى السبت والأحد. ولم يترك رد الحكومة الذي كان يراوح إلى حدود تلك اللحظة بين القمع المكتوم وما يشبه الاحترام في الخطابات الرسمية أي مجال للشك في خصوص الموقف الذي ينبغي اتخاذه. دخلت دبابات الفرقة الرابعة إلى درعا كي تسحق وتقتلع من الجذور آخر بذور الاحتجاجات. وكان في مقدورنا أن نرى من خلال الصور التي كانت تنقلها قناة الجزيرة أطفالا صغارا يقذفون بالحجارة الدبابات التي كانت تزحف صوب المدينة. وهو ما يمثل إحياء غريبا للانتفاضة الفلسطينية التي يبدو كما لو أنها غيرت موضعها لعشرات من الكيلومترات. وعلى امتداد عشرة أيام لن تخرج أيّ صورة أو زفرة من درعا التي زار بيوتها الواحد تلو الآخر جلادو الفرقة الرابعة. درعا المدينة المنكوبة والشهيدة وهي نسخة حكم بشار لمدينة حماة التي نكّل بها أبوه. وكي نكوّن فكرة عن حمام الدم في حماة فإن بعض المقاطع اللاسعة من مسرحية “سر عائلي” التي كتبها عمر سواح عام 2006 يمكن أن تسلط الضوء على ذلك. يذكر البطل الذي قتلت المخابرات السورية والده وأشقاءه الكبار بسبب انتمائهم إلى الإخوان المسلمين أمه قائلا “يا له من كابوس! لم أنس شيئا من احداث تلك الفترة. أتذكر كل شيء كما لو أنه حدث بالأمس. صفير الرصاص الذي كان يطلق ليلا بجوار المنزل ورفاقي في المدرسة الذين لن تتاح لي رؤيتهم بعد ذلك. من هرب مع أسرته إلى الخارج؟ من تفجر داخل منزله؟ من جرى ترحيله باحتقار والكل ليس إلا احتقارا في نهاية الأمر. يبتسم بحزن. هل تعتقد بأنه إذا غادرنا البلاد فإن البلاد تغادرنا أيضا؟ أتذكر كل شيء. الجدران المثقوبة بالرصاص ودوي الانفجارات في الفجر. رجال يرتدون ثيابا بيضاء أو بزات عسكرية وهم يدوسوننا بأقدامهم وسماء مشتعلة ليلًا. سوف أتذكر يا أمي دائما إلى نهاية الزمان. سوف أتذكر هذا الصباح حيث اقتحم بنايتنا وكيف جئت لإيقاظي كي نذهب للاختباء فوق السقف. أتذكر المعلمة التي كانت تؤكد لنا أن الجيش يتحرك من أجل صالح البلاد”.

في هذا الخطاب ذي النبرة المؤسية صفان متقابلان. صف الجنود ببزاتهم العسكرية وصف الإخوان المسلمين بثيابهم البيضاء والبطل الذي أصبح معلوماتيا تتهمه أمه باقتفاء خطى أبيه بحضور حصص قرآنية بعد الصلاة وبالعمل من أجل توحيد الصف الإسلامي. وهي ترتاب في نشره صور سوريين قتلهم النظام على شبكة الإنترنت. تتضمن هذه المسرحية العديد من الموضوعات المميزة للمجتمع السوري وفي مقدمتها مشاعر الكراهة والنفور من الأميركيين والرغبة في الرحيل إلى العراق لقتال المحتل الأميركي وكراهية أجهزة المخابرات. وهي تشهد بالإضافة إلى ذلك على الرهانات الجديدة للمعارضة منذ الألفية الثانية وضمنها دعم شبكة الإنترنت ومرور المعيار الديني إلى مستوى ثانوي فيما يهم التعبئة. وإذا كانت الأم قد استشرفت حالة من الجنون باتهامها لابنها بأنه أصبح مثل أبيه عضوا في جماعة الإخوان المسلمين فإن الابن يبدو اكثر تمردا بتأثير ذكرى المذبحة التي ارتكبها الجيش وأقل تأثرا بالاعتبارات الدينية. ويبدو مثيرا للدهشة في هذا الخصوص صيغ دينية أصبحت جزءا لا يتجزأ من اللغة اليومية وخلو خطاب الابن من أيّ مرجعية دينية. وهكذا يكون خطاب الابن أوفر إيجابية من خطاب الأم ومتميزًا بقناعات عقلانية وليس بحقد أعمى من قبيل ذلك الذي تسعى أمه إلى تسليطه عليه.

وخلال مذبحة حماة والشأن نفسه بالنسبة إلى مذبحة درعا فإن القمع الوحشي والأعمى للجيش يبقى متسما براهنيته. والتعارض المثنوي بين العسكر والإخوان المسلمين يبدو متجاوزا. وتركز شخصية الابن في مسرحية “سر عائلي” على ذلك التطور من التعبئة التي لم تعد بالضرورة متشكلة من الإخوان المسلمين إلى تعبئة تروم الإطاحة بدولة اللاقانون والتي تتسم بقمع لا نظير لوحشيته وهمجيته.

 

الأربعاء 27 أبريل

أتناول طعام العشاء صحبة صديق فلسطيني وأحدثه عن سلطة الجيش في سوريا. كان طالبا في جامعة دمشق وقد ذكر لي تجربته في المخيمات العسكرية الإجبارية في السنتين الأولى والثانية من سلك الإجازة. وعلى امتداد أسبوعين يجد الطلاب انفسهم في قلب الصحراء في بادية الشام أو صحراء سوريا التي تمتد من شرق دمشق إلى تدمر والعراق. وفي غمرة حرارة حارقة تصل إلى خمسين درجة لا يرى الطلبة في فترة الزوال وعلى امتداد خمسة عشر يوما إلا الدبابات والرمال. يخضعون بعد استيقاظهم في الرابعة والنصف صباحا لتمارين رياضية تستغرق ساعتين ونصف الساعة. ويعقبها تناول الإفطار في السابعة والنصف ثم الإصغاء الى خطابات الضباط وتتمحور حول الوطن والرأسمالية والاستعمار إلى حدود منتصف النهار ثم يخلدون إلى النوم إلى حدود الخامسة بعد الزوال أي في الفترة التي تكون فيها الحرارة خانقة للأنفاس. يتناولون بعدها طعام الغداء ثم يتعلمون استخدام السلاح لساعات طويلة. وفي الأخير يلعبون الورق ويغالبون السأم في انتظار موعد الخلود إلى النوم والمحدد في الثامنة مساء. سوف تتحدد أولوية صديقي في السنوات القادمة في تجنب الخدمة العسكرية الإجبارية بالنسبة إلى الفلسطينيين رغم انتمائهم النسبي إلى المجموعة الوطنية. وإذا كان الحق في العمل وملكية الأراضي والبيوت مكفولة للفلسطينيين فإنهم يبقون محرومين من الحق في التصويت والأهلية وإن كان هذان الحقان لا معنى لهما في دولة اللاحق. ويتم الحصول على الجنسية السورية من خلال الأب. ويترتب على ذلك أنه إذا كان الأب فلسطينيا والأم سورية فإن الأبناء يصبحون بدون جنسية ولا يتوفرون إلا على بطاقة إقامة مؤقتة للفلسطينيين أو وثيقة سفر. بيد أن الخدمة العسكرية تبقى رغم ذلك إجبارية. وبعد فترة تدريب تتراوح بين خمسة وأربعين يوما وتسعة أشهر في صفوف جيش التحرير يلتحقون بالجيش الوطني السوري ويتم تعيينهم حسب المستوى الدراسي في الإدارة والشرطة وخدمات أخرى. يستغرق التجنيد الإجباري الآن سنة وتسعة أشهر. وكانت في السابق تستغرق سنتين ونصف السنة قبل أن تقرر الحكومة تخفيضها بسبب بعض الاحتجاجات في صفوف الجيش. وكي يتفادى هذه الفترة الطويلة التي يعتبرها غير إنسانية ووسيلة لتعذيب البشر والحط من كرامتهم فإن صديقي يعتزم السفر إلى الخارج لمتابعة دراسته. وهو يعرف في كل الأحوال أنه في حال مكوثه خارج سوريا أكثر من اربع سنوات كي يفلت من الالتحاق بالخدمة العسكرية فإنه سيكون مضطرا حين عودته إلى دفع البدل ويتراوح بين 500 دولار في حال ازدياد الشخص خارج سوريا إلى 10000 دولار. وهو يعرف شخصا وجد نفسه مضطرا بعد حصوله على دكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون واعتزامه العودة إلى سوريا إلى دفع مبلغ 6000 دولار. وسيتعذر عليه في حال الامتناع عن الدفع البقاء في سوريا أكثر من بضعة أيام.

ساق لي صديق كردي الخطاب نفسه ويرغب مهما كان الثمن في الإفلات من الخدمة العسكرية فيما التزم آخر ذو انتماء درزي برؤية مختلفة. ذلك أن تجربته في التجنيد الإجباري كانت فرصة اغتراب عميقة وانفتاحا على سوريين من كل المحافظات: ثمة شيئان يتيحان للسوريين فرصة اللقاء: التجنيد الإجباري والجامعة. وهو ما يستلزم نجاحا نسبيا للخدمة العسكرية في تحقيق اللحمة الوطنية بصرف النظر عن الاختلافات الجهوية والعرقية والعقدية. وهو ما يذكرنا بالمثاليات التي دافعت عنها فرنسا إبان الجمهورية الثالثة.

يجمع الجميع في كل الأحوال على أولوية الجيش والأجهزة الأمنية في الحياة السياسية السورية وداخل المقاهي والمطاعم يكون من السهل رصد هاته الآذان المتيقظة من خلال المعاطف الطويلة والسحن المتجهمة. وتسري بعض الشائعات التي مفادها أن النظام استورد جهازا للتجسس يتوفر على تكنولوجيا عالية من صنع إيراني. وما من شك في أن أجهزة التلفون والعناوين الإلكترونية والفضاءات العمومية تخضع سلفا للمراقبة الدقيقة. وقد تمكّن مواطن سوري كردي جرى اعتقاله من الإنصات إلى الحديث الكامل الذي أجراه داخل مطعم في مدينة جرمانا والذي تم تسجيله بدقة متناهية من خلال جهاز تسجيل ثبت أسفل الطاولة. وما من شك في أن التعاون بين الدول التي تلتزم بمواقف صلبة وغير مهادنة تجاه إسرائيل يصنع الأعاجيب فيما يهم تطوير أجهزة مراقبة وقمع لا يطولها العطب.

 

الجمعة 29 أبريل

سوف أعود إلى فرنسا لأقضي أسبوعا والإحساس بالقلق يراودني من اضطراري للمغادرة يوم الجمعة. وفي باريس ليس ثمة أيّ قناة تلفزيونية أو نشرة أخبار تتحدث عن سوريا. الأمير وليم يتزوج كيث ميدلتون وأنظار العالم مصوّبة على فستان زفاف بيبا ميدلتون.

باريس جميلة مثل قصيدة لبول إيلوار ولم أتوقف عن التنقل بين القنوات التلفزيونية طوال فترة ما بعد الزوال.

“الحقيقة تكمن وراء جبال البيريني والخطأ هناك”.

لوحة: شفيق أشتي
لوحة: شفيق أشتي

 

الأحد 8 مايو

عدت إلى دمشق دون تأشيرة. لكن بعد أخذ ورد ومماحكات سلمتني أجهزة الأمن في المطار تأشيرة مدة صلاحيتها شهر بعد أن أكدت لهم أنني طالبة وبأنني أنهيت سنتي الدراسية. وحين خروجي من المطار لاحظت وجود نقطة مراقبة تقوم بمراقبة الداخلين. يتعلق الأمر بإجراء جديد منذ يومين ومخصص للسوريين الراغبين في مغادرة البلاد والذين لا ترغب السلطات في رحيلهم. لا يجري إزعاج أو توقيف الغربيين ولكن السوريين يخضعون لفحص هوية كي يتأكدوا إن كانوا مبحوثا عنهم أو موضوعين قيد الإقامة الإجبارية. أخبرني أصدقائي الذين جاؤوا لانتظاري في المطار أن البلاد خلت من السواح خلافا للمألوف في هذا الموسم حيث تكون أعدادهم كبيرة. فقد عمد موقع وزارة الشؤون الخارجية والأوروبية الفرنسي على الإنترنت إلى تغيير الصفحة المخصصة لسوريا. تحدد خانة “نصائح إلى المسافرين” أنه على الرغم من أن المواطنين الفرنسيين ليسوا مستهدفين الآن بشكل مباشر فإنه من المستحسن تغيير مشاريع السفر في اتجاه سوريا أو مغادرة البلاد بالنسبة لأولئك الذين لا يعتبر وجودهم ضروريا. وقد رفعت السفارة الفرنسية من حالة الطوارئ وإن ظل في مستواه الأول. بما يستدعيه ذلك من التصريح بالمغادرة فيما يعادل المستوى الثاني للتحريض على ذلك والثالث المغادرة على جناح السرعة.

يخيم جو من الكآبة على العاصمة ولم تعد بطاقات تعبئة الإنترنت صالحة فيما خلت المطاعم والمقاهي التي كانت فيما مضى مكتظة من روادها. وقد جرى التحذير بصرامة من أيّ تنقل خارج دمشق. ولم تعد للأجانب أيّ رغبة لزيارة المواقع الأثرية في البادية. وقد عمق الشعور بالحبس والاحتجاز من عصبية وسخط الأجانب المقيمين.

ما يفتأ حي باب توما محافظا على صخبه وحيويته في الساعة الثامنة مساء. لكن الطلبة الغربيين الذين يقصدونه أو يحجون إليه لشراء عصائر الفواكه أو تناول كأس في باراته العصرية المسايرة للموضة مثل نينار وأفتر سبعة ومرمر تبخروا وأصبحوا أثرا بعد عين.

 

10 مايو

منهمكون بمعية أستاذتنا في ترجمة أحد خطابات الرئيس الموجهة إلى الحكومة الجديدة التي تم تشكيلها في 14 أبريل. استهل الرئيس الخطاب بالترحيب بالأعضاء الجدد الذين يشكلون “الدم الجديد” والأفكار الجديدة التي لا يسع الاستغناء عنها في عالم محكوم بالتطور السريع والذي يحملنا على أن نتقدم بالوتيرة ذاتها كي نؤكد بأننا في طريق التنمية. تحدث بعد ذلك عن الآمال التي يعقدها الشعب في الحكومة الجديدة والتي تعتبر ضرورية. ذلك أنه لا يمكن لأيّ حكومة أن تحقق ما ترغب فيه في غياب تأييد شعبي. وقد أتاحت له لقاءاته في الأسبوع الفارط بنواب الشعب بأن يحيط علما بالهوة السحيقة التي تفصل الشعب عن مؤسسات الدولة. وهو ما قاده إلى التشديد على أهمية “الثقة” التي لن تتأتى إلا إذا تحققت الشفافية الكاملة والوحدة بين الحكومة ومؤسسات الدولة والشعب. ويضيف بأننا نتقدم في اتجاهات متوازية فيما يتمثل مكمن الخطورة في التناقض بين الاتجاه الذي نسلكه والاتجاه الذي يسلكه الشعب. سوف يكون الإنتاج صفرا ولن نفعل عدا التقهقر. ويشدد أيضا على أن غياب التواصل مع المواطنين يخلق شعورا بالكبت والغضب خصوصا في حال وجود حاجات ملحة. ومن هنا إرادته في فتح حوار شامل مع المجتمع وخصوصا مع النقابات والمنظمات التي تمثل غالبية المهن والمصالح.

بعد هذا الاستهلال ذي النبرة الاجتماعية التوافقية يعود الرئيس إلى الفكرة التي هيمنت على خطابه السابق والتي تتحدد في المؤامرة التي بدأت منذ حصول سوريا على استقلالها والتي تعتبر مكونا طبيعيا لا يسعنا إلا تجاهله. ذلك أن الأهم يكمن في المناعة الداخلية التي تشتمل عليها سوريا. ويضيف في هذا السياق بأن الإصلاحات ينبغي أن تكون رئيسية وأساسية وبأنه ينبغي أن تستجيب لما يطلبه المواطنون: عندما نتحدث عن الاحتياجات فإننا لا نقصد فقط الاقتصاد والمتطلبات الضرورية للحياة اليومية – وإن كانت في حد ذاتها مشكلة كبرى- وإنما أيضا الخدمات والأمن والكرامة. وكل هاته العناصر تتكامل فيما بينها. ولم يلبث الرئيس أن أشار إلى “الرشوة” ودعا إلى فضحها والتخلص منها.

ذكر الرئيس أيضًا بأن الدم الذي سال في سوريا قد آلمنا بشدة. لقد أدمى ذلك قلوب كل السوريين. ولذلك فإن لجنة تحقيق منهمكة في البحث عن الأسباب والبحث عن المسؤولين ومطالبتهم بدفع الثمن. تمت الاستجابة لبعض مطالب إخواننا المواطنين وخصوصا منح الجنسية للأكراد بغية تدعيم اللحمة الوطنية أو تعيين لجنة تشريعية لبحث رفع “حالة الطوارئ “في غضون الأسبوع المقبل. يبدو مثيرا للدهشة أن يؤكد الرئيس أنه على يقين من أن رفع حالة الطوارئ سيعزز الأمن في سوريا والحفاظ على كرامة المواطنين”. يشدد بشار الأسد على الدور الأساس للشرطة التي تتحدد مهمتها في ضمان حماية المتظاهرين و”الأشخاص الآخرين” في آن واحد. وينضاف إلى ذلك حماية الممتلكات الشخصية والعمومية من أيّ محاولة للتخريب والتدمير والمساس بأمن المواطنين.

لم يلبث هذا الخطاب الذي بدا بالانفتاح على الحوار والإصلاحات أن اتخذ نبرة الوعيد والتحذير من أيّ محاولة تروم التخريب. ويؤكد الرئيس رغم ذلك بأن “الشعب السوري متحضر وملتزم يحب النظام ولا يطيق الفوضى والعماء. وقد أعقب ذلك ذكر سلسلة من الإصلاحات المزمع إنجازها وفي مقدمتها إصلاح قانون الأحزاب الذي حددت له الحكومة موعدا وتطوير طويل الأمد للاقتصاد السوري وقطاع الزراعة وضرورة جلب الاستثمارات وتجاوز الفروق بين الجهات. كانت موضوعات النظام ومسؤولية كل شخص مهما كان الموقع الذي يشغله طاغية على هذا البرنامج.

أكدت لي أستاذتي بعد انقضاء عشرين دقيقة أن “السوريين قد أدركوا الآن أن الاضطرابات كانت بالفعل محصلة رغبة خارجية في زعزعة استقرار سوريا. شعرت بالدهشة فسألتها إن كانت تشاطر أصدقاءها هذا الرأي وكان جوابها أن المسالة تبدو لها بديهية منذ أسبوع بفعل استمرار أحداث جديدة كل يوم في زرع الفوضى. هاجمت جماعة مسلحة بالأمس على سبيل المثال حافلة تقل سوريين في ضواحي مدينة حمص حين عودتهم من العمل في لبنان وقتلتهم ببرود. وتعتبر في هذا الخصوص أن لبنان والعربية السعودية وإسرائيل هم المسؤولون الرئيسيون بوصاية الولايات المتحدة عن هاته الاضطرابات. وتتمثل الغاية في خلق كيانات دينية مسيحية في لبنان ودرزية في الجبل الدرزي القديم وسنية في سوريا. ثمة نظرية أخرى تتمثل في أن رفيق الحريري الذي كان يحمل للصدفة العجيبة الجنسيتين اللبنانية والسعودية قد ترك في الوصية التي كتبها مبلغا ماليا ضخما مخصصا لزعزعة استقرار سوريا.. وقد وجهت أصابع الاتهام للمخابرات السورية بالضلوع في عملية اغتياله في 14 فبراير من عام 2005. وقد أكد التقرير الذي سلمه المحقق ديتليف مبهليس للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان هذا الاتهام على الرغم من الثغرات التي اعتورته.

أجملت أستاذتي درسها بقولها إن ثقة السوريين في رئيسهم لم تزدها الأزمة إلا رسوخا. في سنوات الثمانينات والتسعينات حين شروعها في ممارسة مهنة التدريس سعى العلويون المالكون لزمام السلطة إلى إحباط وتثبيط همم الأسر الدمشقية العريقة التي تنتمي إلى واحدة منها. وتتذكر أنه قبل عشر سنوات كانت “جدتي تمتلك خادمتين علويتين تدفع لهما مسبقا أجرة سنوات من العمل. وكانتا مرتبطتين بها فيما يشبه وضع العبودية. كنا ننظر إلى العلويين النصيريين حين قدومهم من اللاذقية باعتبارهم محدثي نعمة وكنا نزدريهم ونحتقرهم. لكننا نحن الدمشقيين ما نلبث أن نتعود في أعماقنا على كل شيء”. وتضيف قائلة “نحن في حالة جيدة في سوريا وغم كل شيء. فالصحة مجانية للجميع في المستشفيات العمومية وتقوم الدولة بتدعيم أسعار الإسمنت والوقود علاوة على متاجر السكر والخبز والأرز. كما أن كل السلع الأساسية متوفرة بأسعار تتحدى أيّ منافسة.. وتضيف بأن الحكومة منحت في السنة الماضية مبلغ مئة ألف ليرة للجميع لتغطية نفقات الوقود ولم تستثن أحدا باستثناء الأطباء الذين يعتبرون الأكثر دخلا وثراء في سوريا.

أبديت اعتراضي فيما يخص المستشفيات التي لا تحظى بسمعة طيبة. ثمة غياب لبرامج وقائية ضد العدوى في المراكز الصحية ينجم عنه استشراء بعض الأمراض مثل التهاب الكبد الفيروسي وبعض الالتهابات البكتيرية الناجمة عن الإقامة في المستشفيات. وهكذا تضحى فترات الاستشفاء في هاته المراكز بوصفها تجارب عن غياب أدنى اهتمام ولا مبالاة وحط من الكرامة الإنسانية. ويحفل كتاب المسرحي الكبير سعدالله ونوس “رحلة في مجاهل موت عابر” بإشارات دالة على همجية ووحشية الأطباء والممرضين؛ “ولأنني كنت قد فقدت ذاتيتي وكبريائي، وتحولت موضوعا بين أيديهم، فقد بدا لي زهو الدكتور سفيان نوعا من العدوانية والتعالي والازدراء. لا أدري لماذا صفق عدة مرات، وهو يتهيأ لكي يرتدي قفازات النايلون المعقمة، كي يضع لي قسطرة البول. وحين عرّاني مع الممرضة شعرت أنني منتهك حتى العظم، وتراءى لي مع الألم الشديد أن سفيان والممرضة يتبادلان ابتسامات غامضة” (سعدالله ونوس “رحلة في مجاهل موت عابر” ص96).

وأيضا “شقت أول عرق ولم تجده ملائما ثم شقت الثاني غير عابئة بتأوهاتي” (سعدالله ونوس “رحلة في مجاهل موت عابر” ص96).

تتسم مشكلة المستعجلات بفداحة منقطعة النظير. ثمة ندرة لسيارات الإسعاف والطواقم الطبية. وحتى في العيادات الخاصة حيث يعمل أطباء أكفاء تلقوا تكوينهم في الولايات المتحدة وأوروبا فإن المعدات والأجهزة لا وجود لها في الغالب. وفي كل الأحوال فإن هذه العيادات تبقى بعيدة عن متناول غالبية السوريين.

أما بالنسبة إلى الخادمات العلويات فقد جرت الاستعاضة عنهن بالخادمات السيريلانكيات في الأحياء الراقية لدمشق مثل المالكي والمزة وباب توما. وغالبا ما نراهنّ وهن يتبادلن الحديث والرسائل بين شرفات المنازل. هؤلاء السيريلانكيات اللاتي يمكن اعتبارهن جواري العصر الحديث مجبرات على تسليم وثائق سفرهن إلى مشغليهن حين وصولهن وبعد أن يوقّعن عقود عمل بلغة لا يفقهون منها حرفا.. وما أن يصبحن عاملات في المنازل والشقق حتى يصبح مستحيلا عليهن الخروج. وغالبا ما يخلدن إلى النوم في المطبخ أو غرفة الأطفال أو الدهليز أو الشرفة. وليس لهن من يلجأن اليه في حال تعرضهن لسوء المعاملات أو للتعذيب الحقيقي أحيانا.. وفي بلدٍ لا تحترم فيه الحقوق والقوانين ما الذي يمكن أن تأمله خادمة منذورة لأحط الاعمال؟

 

15 مايو

يخلّد العالم العربي ذكرى “النكبة “التي أعقبت تأسيس إسرائيل والفتوحات الترابية الأولى. وفي سوريا حال السياق المأزوم دون تنظيم تظاهرة ولو سلمية. وكل تجمع وخصوصا لأفراد ينتمون إلى الأقليات الكردية أو الفلسطينية يعتبر عملا انتحاريا. وقد أصبح تنظيم تظاهرة رياضية مثل مقابلة لكرة القدم أصعب فأصعب. وتسري بعض الشائعات بان ملعب دمشق الكبير قد تحول إلى سجن كبير لمواجهة آلاف الاعتقالات التي تتم يوميا.

علمنا في المساء بإن الجنود الإسرائيليين أطلقوا النار على سوريين هاربين من مدينة تلكلخ القريبة من حمص. وبعد درعا التي انسحبت منها المدرعات جاء دور حمص التي حاصرها الجيش بهدف القضاء على آخر جيوب الاحتجاج. وكان هؤلاء السوريون يفرون في اتجاه بلدة وادي خالد الحدودية شمال لبنان. تم الإعلان عن مقتل امرأة سورية وخمسة جرحى ضمنهم ثلاثة سوريين وسيدة لبنانية وجندي لبناني. وهو يعزز أطروحة المؤامرة الإسرائيلية اللبنانية السعودية ضد بلاد الشام.

جرى الكشف في اليوم نفسه عن مقبرة جماعية في درعا. علمت من جهة أخرى من صديقة في السلمية أنه جرى اعتقال خمسة وسبعين طبيبا شيوعيا قبل خمسة عشر يوما في هذه المدينة وضربوا بشكل مبرح كي يوافقوا على توقيع بيان يلتزمون فيه بالكف عن التظاهر ضد النظام. وحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فإن الحصيلة في كل القطر السوري تتمثل في 8000 معتقل و700 قتيل.

لوحة: شفيق أشتي
لوحة: شفيق أشتي

 

16 مايو

يرغمك التجول في دمشق راهنا على اختبار غريب يكمن في الترجمة من العربية إلى الفرنسية. ومن شارع بغداد الطويل الذي يحيط بشرق المدينة القديمة إلى نادي بردى الذي يعتبر النادي الرياضي الأفخم للعاصمة الذي جرى فتح مسبحه فإن مواقف الحافلات واللوحات الإشهارية جرى حجبها بشعارات تحث الشعب على اتخاذ المبادرة. كان من الميسور رصد السلسلة الأولى من هاته اللوحات الشعاراتية. تذكر الأولى بحذق وذكاء بموضوعة الحرية وهو مطلب يحظى بالأولوية عند المتظاهرين: الحرية لا تبدأ بالعنف وإنما بالحوار والإصلاحات. الحرية لا تبدأ بالفوضى وإنما بالمسؤولية. تقارب السلسلة الثانية مبدا مشروعية ” الولد والبنت سواء أمام القانون” أو “الصغير والكبير سواء أمام القانون” أو “المتفائل والمتشائم سواء أمام القانون”، “اليسار واليمين سواء أمام القانون”. ثمة في الأخير الأكثر بروزا للعيان والأكثر وفرة والتي تستعيد ثابت “الوحدة الوطنية” والذي جرى تحويره إلى “مستقبلك هو مستقبلك ونحن مع سوريا”، “مصيرك مصيري. نحن مع سوريا”، “لقمتك هي لقمتي نحن مع سوريا”، “مطالبك هي مطالبي نحن مع سوريا”، “مصلحتك هي مصلحتي نحن مع سوريا”. ثمة تشكيل وتركيب من الصور لا يمكن أن نتخيل ما يفوقها نمطية مبثوثة في كل مكان. وعلى أحدها نقرأ لا التي تحتل نصف الملصق وتحيل إلى أصناف ملحقة دالة على كل ما ينبغي التخلص منه أو طرحه من قبيل الفتنة والفوضى وتجليها رسوم بالأحمر والأسود دالة على الدمار والموت. وفي النصف الآخر كلمة نعم وتؤشر على كل القيم والمثاليات التي تصبو إليها البلاد وتتمثل في المسؤولية والحرية والأسرة وبألوان زرقاء صافية.

هل للأمر تعلق بدعاية وقحة ومفضوحة؟ يناصر كثير من السوريين هاته الثوابت ويشددون يقينا على ضرورة تحسين الأوضاع ولكن ليس عن طريق العنف. وثمة آخرون وغالبيتهم من الشباب يؤكدون بأن الوقت قد تأخر لأن النظام اختار سبيل المواجهة وأنه لم يعد في المقدور النكوص والرجوع إلى الوراء.

 

18 مايو

أعرب أحد أصدقائي السوريين عن ابتهاجه لظهور حركة تدافع عن حرية التعبير في الإنترنت والمقاهي والمطاعم ورغم خضوعها للحراسة المشددة وبشكل أقل في الجامعات بسبب الاعتقالات قبل شهرين. وهو يساند بدء حصول الوعي عند الناس بحتمية تنظيم المعارضة وتحديدا باستمرار اعتقاد الرأي العام الدولي بأن الإسلاميين هم وحدهم من سوف يستفيدون من سقوط النظام.. ويؤكد رامي مخلوف في جريدة نيويورك تايمز في عددها الصادر بتاريخ 11 مايو 2011 أن انهيار النظام سيودي إلى قيام جمهورية إسلامية وإلى الحرب ضد إسرائيل. وإذا كانت سوريا مشكّلة في الحقيقة من غالبية سنية فصديقي يعرب عن يأسه المتمثل في استمرار الغربيين في الجهل الكلي بالفرق بين أغلبية سنية معتدلة ومتطرفين يشكلون أقلية لا يعتد بها بالإضافة إلى شيطنة الإخوان المسلمين الذين قبلوا باللعبة البرلمانية في العديد من الدول العربية. وبتأثير الخوف من الإخوان المسلمين تدعم الحكومات الأوروبية الأنظمة الاستبدادية التي تقمع شعوبها ولا تترك لها أملا في استشراف أفق حديد. وبالنسبة إلى صديقي فإن مختلف الطوائف التي تشكل المجتمع السوري العلماني متحدة حول ثوابت الحرية والعدالة الاجتماعية وغير مستعدة لأن تلقي بنفسها في أحضان الإسلاميين كما يتخيل الكثير من الأوروبيين. وقد ذكرني بالشعار الذي رفعه الأكراد حين وعدهم الرئيس السوري بالجنسية قبل شهرين: نحن نريد الحرية وليس الجنسية. وهو مطلب جرى تداوله بشكل مكثف من لدن الطائفة الفلسطينية. وليس الدين بالنسبة إليه غاية وهدفا إذ يقدم نفسه بوصفه ملحدا وإنسيا علمانيا. وقد أكد لي بأن أسرته تفضل دائما أسئلة الاندماج وتحسين أوضاع المجتمع على النقاشات الدينية.

 

الاثنين 23 مايو

صوت الاتحاد الأوربي لصالح عقوبات ضد بشار الأسد وتسعة من أعضاء حكومته وبطانته وقد حرموا جميعهم من تأشيرة الدخول إلى دول الاتحاد الأوروبي. وقد جمد في السياق نفسه كل أرصدتهم وفرض حظرا على الأسلحة الموجهة إلى سوريا. ويؤيد الكثير من الوزراء وضمنهم آلان جوبي وغويدو ويستيرويل ووليام بشدة هاته العقوبات.

 

الجمعة 27 مايو

ذهبت إلى حمام أمونة الذي يعتبر أكثر حمامات دمشق استفادة من الإصلاح والترميم. بني في القرن الثاني عشر الميلادي. وقد استفاد من برنامج الإصلاح والترميم الذي يشرف عليه المعهد الفرنسي للشرق الأوسط. وقد سألتني المشرفة على الحمام التي سبقت لي رؤيتها مرارا قبل أن أبدا حصة النقش بالحناء عن البلد الذي أنتمي إليه. وقد علقت بالإنجليزية حين أخبرتها بأنني فرنسية: كيف تسمحون لأنفسكم أنتم الفرنسيون بأن تصوتوا لصالح عقوبات ضد رئيسنا الذي يجمع كل السوريين على محبته. إنه الأفضل من بين كل السوريين.

شرحت لها بأن الحكومة الفرنسية هي من صوتت لصالح العقوبات وأن كثيرا من الفرنسيين لا يوافقون على هذا القرار وكان جوابها: أنتم الأوروبيون من زرعوا المشاكل في المنطقة. كانت ثمة قبل الحرب العالمية الثانية مافيا يهودية في أوروبا وخصوصا في ألمانيا وقد منحتموهم وعدا بدولة يهودية على تراب فلسطين والآن تنتقدون رئيسنا فيما المشكلة الأساسية بالنسبة إلينا هي فلسطين.

أجبتها بأن الحالة الفلسطينية مشكلة بالنسبة إلينا أيضا وبأن الشكوك التي تساورنا فيما يهم شعبية النظام مصدرها صور المظاهرات والاحتجاجات التي نراها على شاشات التلفزيون. أردفت قائلة بأن قنوات مثل بي بي سي والعربية وخصوصا الجزيرة قنوات سياسية تستخدم صورا لبلدان أخرى وتقوم بتحويرها باستخدام تقنية الفوتوشوب وأن لا شيء يحدث في سوريا. وهل ترين الآن مظاهرات في الشوارع؟ الحق أقول إنني لم أشهد أيّ مظاهرة. أردفت قائلة: هل تعلمين كم من شركة فرنسية توجد في سوريا؟ إذا قمنا بمقاطعة كل المنتجات الفرنسية فستعانون حتما من مشاكل اقتصادية كبيرة.

علمت في المساء بفضيحة حمزة الخطيب المراهق الذي جرى تعذيبه والذي قامت أسرته بتصوير جثته ونشر الفيديو على الإنترنت كانت صفحة فيسبوك التي أنشأت لدعم الفتى البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما والتي تحمل شعار كلنا حمزة الخطيب تضم خمسين ألف صديق بتاريخ 30 مايو. وقد وجدتني من جديد أتذكر مقطعا أخر من نص “سر عائلي”: تذكرت اليوم الذي أحضروا فيه جارنا عمار إلى منزله. تعالى صراخ أمه الذي لم تره منذ سنة. والذي تكتشفه الآن أشلاء ووجها مشوها ملطخا بالدماء كان بعض الأشخاص يحاولون تهدئتها كي يتمكنوا بسرعة من دفن الشاب. وكانت الأم تلطم وجهها وصدرها. وكان الكل يبكي.

ليس تعذيب الأطفال بالأمر الجديد في سوريا ولا يمكن اعتبار حالة حمزة استثناء. بيد أن انتشار وشيوع الشعور بالعجز عن الاحتمال حيال هذه الظاهرة يشكل النقطة التي قد تتسبب في قلب الأغلبية التي ظلت الى حدود تلك اللحظة صامتة.

 

فاتح يونيو

عدت إلى مطار دمشق كي أقفل عائدًة إلى فرنسا وهذه المرة بشكل نهائي. وبالأمس كانت حانات حي باب توما مكتظة من جديد. وقد اختفت هذا الصباح نقطة التفتيش التي كانت تقوم بعملية الفرز عند مداخل المطار. وقد توحدت كل الصحف الفرنسية حول هذا العنوان العريض: حمزة الخطيب محمد البوعزيزي الجديد. هو ذا رمز جديد يولد.

والكل هنا في انتظار شهر رمضان.

 

ترجمة وتقديم عبدالمنعم الشنتوف

 

********************************

إشارة

كتبت جيرالدين دوليانس هاته اليوميات التي يمكن اعتبارها في الآن نفسه نصا رحليا بامتياز أثناء إقامتها في العاصمة السورية دمشق بقصد دراسة اللغة العربية قبيل وإبان بدء ما أصبح يعرف بالربيع العربي. ويمكن للقارئ في هذا السياق الإحاطة علماً بتفاصيل دالة من السيرة اليومية للسوريين في بداية الحراك وردود أفعالهم الإيجابية والسلبية حياله. ولا ننسى في هذا الصدد التشديد على الوجه القبيح للنظام من خلال سطوة وتغول وشراسة الأجهزة الأمنية.

جيرالدين دوليانس كاتبة وأكاديمية فرنسية متخصصة في أعمال مارسيل بروست. أصدرت عددا من الكتب في هذا المجال ونذكر من بينها “بروست والرواية الحديثة آفاق مقارنة”، “حكاية الهوامش في أدب مارسيل بروست”، “كلمات منتصف الليل”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.