يوم ونيّف في يبرود
بالأمس ودعت زوجي نيكول في مطار دمشق في السادسة صباحًا عائدة إلى مدريد، كنا قد نجحنا في مغادرة يبرود مع بدء اجتياح الدبابات لها، أي بعد انفجار القذيفة الرابعة. لم نهرب، فعلنا كي لا تضيع فرصة عودتها، وقد فاجأتني برباطة جأشها، تصرّفت وكأن قذائف الدبابات ولعلعة الرصاص من كل جانب أمر اعتادته. قيل لنا فيما بعد إنهم منعوا كل خروج أو دخول إلى المدينة بعد اجتيازنا حاجزي العسكر والشبّيحة بربع ساعة.
ودّعتها وانطلقت عائدًا إلى يبرود. لم أصادف عائقًا لوصولي إلى “عين العصافير” حيث مشغلي. في السابعة والنصف صباحًا كانت الشمس دافئة، فقلت لنفسي، عملاً بالتقليد الروسي بعد سهرة عامرة مع أصدقاء وليلة قضيتها بلا نوم، اشرب كأسًا من البيرة قبل أن تزور أمّك. ما إن تجرّعت رشفتي الأولى حتى ارتجّ الوادي بانفجار القذيفة الأولى، جاءت الإصابة على تاج صخري يعلو مكمني بحوالي المئتي متر. كان الانفجار مريعًا بالفعل، ربما لقربه، ثم تبعه انفجاران آخران في الموقع نفسه. بقيت في مكاني أرقب الجبل علّني أرى حركة ما أو سبطانات الدبابات تطلّ. لم أر شيئًا. ثم توالت القذائف على الجبل المشرف على المشغل. قلت لنفسي: لحسن الحظ أن راعي الماعز الذي يشاركني السفح لم يخرج اليوم بقطيعه. ذلك الراعي طريف: صاح بي من الأعالي يومًا ليقول لي إنني محظوظ لأنني أعيش في عزلة عن الناس! لأنه يعيش في زحام قطيعه!.. مسكين، لا يعرف، أو ربما يعرف، أن ذلك أرحم.
ترافق قصف الدبابات برشق للرشاشات من النوع الثقيل.
ما إن هدأت الأمور ذهبت بالسيارة إلى بيت الوالدة في الطرف الآخر من المدينة. كانت يبرود أشبه بمدينة أشباح، إلاّ أن ثمة مجموعات من الناس هنا وهناك تترقّب وترمق كل مارّ بعيون تريد أن تعرف.
الأرجنتينية العجوز
التقيت والدتي الأرجنتينية العجوز، تلك التي أورثتني قدرة الحضور الغائب وتقضي عامها الخامس والثمانين وهي تسمع أغاني التانغو يصدح بها كارلوس غارديل. علمت أن الإنترنت عن طريق الأقمار ما زال يعمل على الرغم من قطع الهواتف فكتبت لنيكول، وعدتها، قبل وصولها المحتمل بساعة، ثم زرت بيت أخي نمير الكائن تحت بيت الوالدة. زوجة أخي من المطلوبين من قبل الأمن، يعتبرونها ناشطة لأنها تتظاهر! ثم عدت إلى مشغلي.
اليوم خرجت في العاشرة على الرغم من سماعي قذائف الدبابات وبعض رشقات الرصاص. كانت السيارات المتحركة في المدينة شحيحة، المحلات مغلقة والمجموعات المترقّبة موزعة.
ما إن وصلت بيت الوالدة استقبلتني دراجة نارية تحترق وواجهتني دبابة وحوالي خمسين عنصرًا، علمنا فيما بعد أنهم كانوا من الفرقة الثالثة (جيش) وقوى أمن مختلفة وشبّيحة بأزياء عشوائية. كان تمركزهم أمام بيت الوالدة. لاحظت كذلك سيارتي إسعاف تابعتين للهلال الأحمر السوري، علمت فيما بعد أن مهمتهما كانت نقل الشبّيحة! وثمة باص أخضر كبير كتب عليه: “سوريّة للأسد أو نحرق البلد”.
تبيّن أنّني وصلت لحظة مداهمة بيت والدتي وأخي.
أخي نمير محاصر بخمسة عناصر وقائد بلا رتب لم أجد فيه ما يذكّرني بالبشر سألني: من أنت؟ أجبته: شقيقه. هويتك.. صرخ. أعطيتها فعلّق قبل أن يطّلع عليها: تمشي معنا! قلت: لا مانع.
الغريب أنني لم أشعر بأيّ اضطراب، ها هم يعتقلونني وأنا أتفحّص المشهد. جلبة تأتي من الداخل وعناصر تدخل وأخرى تخرج حاملة ما ارتأوا سرقته بمنتهى الصفاقة. طلب “شبه البشر” من أخي هاتفه المحمول ولما وجده من النوع الغالي (أخي ميسور) خبّأه في جيب سترته. شعرت بمثانتي ممتلئة، ذلك لأنّني كنت قد شربت زجاجة بيرة، فسألت: هل بمقدوري التبوّل قبل الذهاب معكم؟ قال بجفاف من يظن نفسه الأعلى: لا، تبوّل على حالك. وعاد ينشغل بأخي. سأله أين سيارتك؟ أشار أخي نحوها. المفاتيح، بسرعة، عوى “شبه البشر” (وسرقوها بالطبع. بالمناسبة، لم أسمع صوتًا إلاّ وحمل لهجة الطائفة إيّاها). كنت أرمقه بنظرة النحّات، تلك التي يبدو أنها تخرمش، إذ وجدته يأمر عنصرًا: رافقه ليبول. مضيت إلى داخل البيت يتبعني العنصر مصوبًا الكلاشنيكوف إلى ظهري. العناصر يعيثون في غرفتين وآخرون يأكلون في المطبخ ما تسنى “يبدو أنهم جوعى” فكرت. باب الصالة التي تكون فيها الوالدة عادة مغلق. رحت أبول والسلاح مصوّب إلى ظهري. “وكأنني سأستخدم عضوي المتهالك سلاحًا!” خطر لي.
رشق الجبل
الحقيقة أن الهلع والقلق كان بيّنًا على سيماء كل من صادفت منهم (تعرّضوا لبعض الكمائن سابقًا في يبرود ونواحيها). خرجنا وقادني باتجاه الباص حيث كانوا قد أدخلوا شقيقي. قبل أن نصل ظهر عنصر يحمل هويتي ويقول: هذا العاصم أتركوه!.. يبدو أن اسمي ليس في القائمة بعد.
أعادوا لي هويتي (أقصد البطاقة اللدائنية، فهويتي لا يمتلكها غيري قط).
أطلق رشاش ثقيل مركّب على بيك أب رشقات باتجاه الجبل.. من قبيل الوداع. ثم تحرّك الفيل المعدني ذو الخرطوم المتيبّس وتبعته بقية آليات الحيوانات الأخرى ناقلين معهم إلى المجهول أناسًا… بينهم أخي.
دخلت أتفقّد أمّي، وجدتها مستلقية، في عينيها المنفرجتين كل تساؤلات العالم، لكنني لم ألحظ أثرًا لخوف ما. لم تدر أنهم اعتقلوا ابنها. قلنا لها بعد أيام إنه سافر إلى الإمارات.
عندكم آثار!
تفحّصت الخراب الذي أحدثوه فيما يسمّونه تفتيش عن الأسلحة! اكتشفت أنهم سرقوا كمبيوتري المحمول الخاص، وكمبيوتر الدار، وأشياء أخرى. أذكر كيف لوّح قرد قصير بوجهي، وأنا ذاهب للتبوّل، بتمثال نصفي صغير حاول صانعه (همام السيّد) تمثيل الماغوط (دون أن يوفق تمامًا) وأهداني إياه: وعندكم آثار؟! وذهب به وكأنه يحمل كنزًا.
سعدت لأنني لا أحفظ في بيت أهلي وإخوتي أعمالاً لي، لأنهم يقدّرونني لكنهم لا يتفهّمون ما أصنع.
زوجة أخي تبكي، أخي شادي المكتئب يتحرّك كالتائه. حاولت إعلام زوجتي بالأمر مستخدمًا حاسوب ابن أخي، لكنني لم أفلح، فقرّرت التوجه إلى المشغل، أقلقتني فكرة أن يصلوا قبلي.
كان هذا سماعي للخطر جهارًا.
كان في السيارة بضع عبوات للبيرة فارغة فقررت التوجه إلى مركز المدينة عساني استبدلها بأخرى مليئة. كان قراري موعدي لمواجهة الموت.. أو يكاد.
حصلت على بغيتي لأنّ صاحب الحانوت المغلق يسكن خلفه، فأسدى لي الخدمة. توجهت بعد ذلك إلى تصالب الشارعين الأساسيين في المدينة القديمة: شارع السوق وتصالبه مع شارع الكنيسة، فلمحت على مبعدة خمسين مترًا، أمامي، أربعة عناصر مسلحة يتحركون بقلق باد وأنا أتجه صوبهم، لأنها الطريق التي يجب أن أسلكها، ما إن دنوت منهم (حوالي الثلاثين مترًا) حتى بدأوا بإطلاق جنوني للنار في كافة الاتجاهات. إنه تصرف الخائف، يطلق النار على كل ما يتحرك أو يتخيله. كالبرق حولت السيارة وعرجت على زقاق إلى يميني. طول الزقاق 15 مترا ولا مخرج للسيارة منه. توقفت إذن وبحثت عن مخبأ. ثمة في الزقاق بابان متواجهان. قلت لنفسي: أختبئ خلف باب. قرعت الجرس فسأل صوت نسائي عن الطارق. قدمت نفسي وطلبت أن يفتحوا الباب لأقف خلفه لأنهم يطلقون النار على كل من يتحرك لكن الصوت أجاب: لا نملك المفتاح!
هكذا تنتهي!
بخطوتين كنت أضغط على ثلاثة أجراس في الباب المقابل وأنتظر وأنا أقلّب بصري نحو مخرجي الزقاق والرصاص لا يكفّ. بعد لحظة بدت لانهائية أطلّ رأس امرأة من شرفة الطابق الثاني فكرّرت طلبي. أجابت أنها لا تستطيع أن تفتح لأحد. سرعان ما سمعت ضجيج آليات تأتي من شارع السوق والضجيج يقترب فقرفصت أمام مقدمة السيارة لعلها تخفيني عنهم، لكن احتمال أن يظهروا خلفي كان واردًا كذلك. لم يخطر ببالي وقتذاك أسلم الحلول وأسهلها: أن أستلقي داخل السيارة.
كان ضجيج الرصاص قريبًا للغاية. قلت لنفسي: وهكذا تنتهي يا عاصم في زقاق سخيف وضيّق من يبرود!
الغريب أنني ما كنت خائفًا إلى درجة تمنعني من التفكير تمامًا. خطر لي أن أخرج زجاجة بيرة وأشربها مقتعدًا أرض الزقاق.. لكن الظرف ما كان يشي بأنهم سيحجمون عن قتل سكير ما.
أطلّت المرأة مرة أخرى واقترحت عليّ أن أخرج من الزقاق بمحاذاة الجدار وأن أدلف على زقاق تال إلى اليمين حيث باب آل سركيس مفتوح دومًا.
فعلت، بالقدر الممكن من الطبيعية، التفتّ إلى المكان الذي كان فيه العسكر فلم أر أحدًا (يبدو أنهم تحركوا نحو أسفل السوق). ما إن دلفت الزقاق القصير (حوالي 40 مترًا) فوجئت بباص أبيض للشبّيحة طلي رقمه بالأبيض ينتظر راكبيه، فالمحرك يعمل والسائق في مكانه. رأيت بابًا حديديًا مواربًا فدفعته لأجد سلمًا طويلاً جدًا. جلست على الدرجة الثالثة بعد أن أطبقت الباب دون أن أغلقه (لعطل فيه). ربما دام الأمر دقائق عشر، ثم راودني: وماذا لو خطر للشبّيحة العودة إلى الباص متفقّدين كل الأبواب؟ أقصد اللبط بالطبع، لأنه من طباعهم.. وبابي سينفتح ليروا طلعتي البهية.
صعدت إلى أعلى الدرج وطرقت على باب، سمعت القفل يدار مرتين، وصوت نسائي ثالث يقول: زوجي ليس في البيت ولا أستطيع فتح الباب لأحد. ثلاث نسوة يرددن من بيوت لم يخرج رجالها للعمل بالتأكيد. جلست مرة أخرى مغلوبًا على أمري. ثمة مرارة في فمي وحلقي، لعله بفعل الخوف أو القلق. بعد برهة سمعت صوت صبي من خلف الباب يصيح: الله ينصركم.
أنا إذن عند باب عائلة موالية للمجرمين! وماذا لو أشارت لهم أن هناك من اختبأ في مدخلهم؟! انحدرت خارجًا بشكل آلي. رأيت عسكريًا مسلحًا على بعد عشرة أمتار، سألته بالإيماء ما إذا كان بمقدوري الخروج، هزّ رأسه أن لا، ثم غيّر رأيه. سألته ما إن صرت بمحاذاته ما إذا كان بمقدوري ركوب سيارتي، قال: أيوه، لكن باتجاه الكنيسة.
صادفت حاجزًا آخر، قال من أخذ هويتي: أنا شايفك. أجبته: ربما بالتلفزيون.
كان جوابًا سحريا لأنه أمر سياراتهم القاطعة للطريق بالسماح لي بالمرور، بينما يناورون كنت أنظر إلى مجموعة من المعتقلين يركبون حافلة خضراء أخرى. أول ما فعلته بعد وصولي إلى المشغل كان فتح زجاجة بيرة.