“اللايقين” بوصلة الطريق في عالم اليوم
يفيد اليقين التأكيد التام والكامل على صحة شيء ما. إنّه الشعور بالاقتناع التام الذي ينتاب المرء بواقع حقيقة ما، أو حقيقة فكرة معيّنة، أو عند قول شيء يقيني. إنّه حقيقة رأي ليس لدينا شك فيه: حقائق مؤكدة لا مجرّد فرضيات. أمّا اللايقين، فيحيل في علم القياس على الارتياب الذي يحصل عند تشتت القيم المنسوبة إلى مقياس معيّن. إنّه مجال للقيم المحتملة التي لا يمكن أن تقبل قيمة دائمة مستمرّة.
لقد جعل هذا الأمر مبدأ اللايقين، أو مبدأ الارتياب (بالإنجليزية Uncertainty Principle) من أهم المبادئ العلمية في نظرية الكم، بعد أن صاغه العالم الألماني فرنر هايزنبرج عام 1927. ينصّ هذا المبدأ على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة، أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة متناهية (ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى، ويشيع تطبيق هذا المبدأ بكثرة على خاصيتي تحديد الموضع والسرعة لجسيم أولي. فهذا المبدأ معناه أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة متناهية. كما أنّه لا يمكنه قياس كل شيء بدقة، وإنما هناك قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه.
بعد تشكله في دائرة الفيزياء المعاصرة، تسرّب هذا المفهوم إلى المجتمع والسياسة والاقتصاد المعاصر، فأصبح اللايقين أكثر العبارات تداولا في علم اليوم، حيث تحوّل إلى نموذج تفسيري، وإلى براديغم إرشادي جديد للقطاعات القيمية والإنسانية والثقافية. لم تكن دلالة اللايقين تثير هذه الحالة من الهلع فيما مضى، ولا حتّى مشاكل معرفية في الماضي، عدا كونها تحيل على الموقف السلبي من المعرفة. لكنّ اللايقين الآن تحوّل ليسم راهننا، بل أصبح هو الذي يغذي وضعنا البشري المعاصر بالمزيد من الاحساس بالتيه والضياع.
فالظاهر من المستجدات الكثيرة التي طالت عمراننا أنّنا، فعلا، غدونا ننظر إلى الأشياء على أنّها غير محدّدة كفاية، بل مموّهة ومجهولة لنا قياسا إلى مساحات الشك الشاسعة التي طالت كلّ شيء تقريبا. إنّه نوع من عدم اليقين في كلّ شيء، فقط حالة النقص والحاجة ما يتسيّد العالم والحياة، فبقايا الماضي لم تعد مقنعة، وقيمنا الإنسانية سرعان ما تحوّلت إلى ما يشبه ميوعة سائلة.
لقد غيّرت الجائحة ما تبقى من آمال معلّقة على هذه العولمة الاقتصادية، كما سلّط الوباء الضوء على عدم اليقين من السياسة، العلم، الطب، المعرفة والقوى والحياة برمّتها. فجأة أصبح كلّ شيء تقريبًا – من القرارات اليومية الدقيقة إلى السياسات العامّة للدول – محفوفًا بعدم اليقين. والظاهر أنّ هذا الوضع ليس واقعا جديدا، بل سيرورة انتهت إلى ما نراه الآن من سيولة الخوف وطغيان الشرّ، بل وانتصار البلاهة وعودة الجهل المقدّس لتقديم الدروس عمّا يلزم للمزيد من التحطيم والهدم.
ليست حالة التفكّك هاته وليدة الصدفة، وإنّما هي نتيجة تسيّد طغيان الاستهلاك، وانتشار اللامبالاة بالأنظمة الإيكولوجية الطبيعية التي طالها التغيير السلبي، نتيجة التدمير المستمر للرأسمالية المتوحشّة. والآن، يظهر أنّه من المستحيل البحث في مكان آخر للهروب، كما كشف عن ذلك وباء كوفيد – 19؛ لذا، أصبح الإحساس بعدم اليقين هو النصيب العادل الذي عمّمته الجائحة الحالية.
وفي هذا الإطار، اقترح الفيلسوف دوريان أستور التفكير حول حالة اللايقين العامة التي بدأت ترخي بثقلها على القلوب والعقول. [- Dorian Astor, La Passion de l’incertitude, Édition de l’Observatoire, Paris, 2020, p.134]. فالوضع الراهن يشي بأنّ التأمل العميق قد أصبح لا غنى عنه لمواجهة اللايقين المعاصر. إنّ شغف اللايقين ليس بأيّ حال من الأحوال مسألة عقل خالص، ذلك أن مسألة اليقين وعدم اليقين هما فوق كل شيء مسألة غريزة وعاطفة وجدانية؛ إنّها متعلّقة في المقام الأول بالمعتقدات والقناعات قبل أن تكون مرتبطة باستنباط الاستدلال والاستنتاجات والحجج.
عدم اليقين، إذن، له علاقة بالإحساس بالخوف، في حين يلزم أن يظلّ اليقين تغلبا بيّنا على هذا الخوف، وكذا الجهل والبلاهة. لقد نسي الناس، حسب اعتقاد بليز باسكال أنّ ما يجعل الترفيه ضروريًا كونه ينسينا ويحوّلنا من الاضطرار إلى التفكير في حياتنا الخاصة؛ وذلك كي لا نضطر إلى التفكير في موتنا ونهايتنا.
لكن، لمّا منعت الجائحة كثيرا من الناس مغادرة بيوتهم، صارت العودة إلى الذات أمرًا أصعب من أن يحتمل، وبخاصّة لأولئك الذين لم يتعوّدوا نمط حياة التفكير والتأمل الذاتي. نتيجة لذلك، تسلل إلى الجميع الشعور بعدم الاستقرار وهشاشة الحياة، وعاش أغلب الناس ضيق الإقامة، فخافوا من اللايقين الذي نجم عن قلق الوجود وضجر الملل.
تجعلنا هذه الأزمة نعيش ما سبق أن وصفه بليز باسكال بالوضع الهشّ للإنسان، أي ذلك الوضع البشري القاصر الناجم عن العزلة والضعف. فالخوف من اللايقين ومن الغرف المنعزلة يفرضه ضعف تحمّل البشر لأنفسهم ووهنهم وهشاشة وجودهم. لذلك ليس بالأمر الغريب أن يعيش الناس حياتهم لحظة بلحظة، حيث ينتقلون من تحفيز إلى آخر بحثا عن المعنى في مجرى اليومي. لكن، ما يتغافل عنه هؤلاء، هو أن جوهر حياتهم يكمن في الدينامية التي تحدثها الجدلية بين سعيهم وراء المعنى وعبثية الأشياء. وفي ظلّ هذه الجدلية، تستمر الحياة دون أن تضمن السعادة لأحد، وبذلك يبقى القلق ملازمًا لها، حتى وإنّ تجاهله الإنسان نتيجة الانغماس والبحث الدؤوب عن المسرّات.
البيّن ممّا سبق أنّنا دخلنا بالكثير من الضجيج دينامية التغيير العميق للغاية. لكن، ما الدرس المستفاد من كل هذا الذي يقع الآن؟ لقد كشفت جائحة كوفيد – 19 عن هشاشة وضعنا البشري الراهن، كما بيّنت حاجتنا الملحّة إلى ضرورة فعل شيء من أجل المناخ. فكما يقول دومينيك بورغ» عندما نكون أمام ظاهرة من مستوى مختلف، أي أمام خسائر من مستوى مختلف، تنهار كل تدابيرنا المعتمدة على التقنيات. والمواجهة لا تتم إلا بشكل جزئي؛ والطريقة الوحيدة لمواجهة هذا الواقع هي العودة إلى الأساسيات، وإلى السلوكيات اليومية. لا يتم التقليل من انبعاثاتنا على المستوى العالمي بالتقنيات، بل بالسلوكيات. هذا هو الدرس المستفاد» [دومينيك بورغ، «أزمة كورونا مؤشر على بداية انهيار الحضارة الصناعية»، ترجمة أحمد رباص، نشر في موقع أنفاس نت، بتاريخ: 30 تشرين1/أكتوبر 2020؛ أنظر الرابط: https://anfasse.org].
يبدو الوضع البشري الراهن متوتّرا بل يزداد تعقيدًا أكثر من ذي قبل؛ فالمسرح العالمي الآن منغمس في تحول لا ينتهي، وهو التحوّل الذي يمنعنا، في كثير من الأحيان، من فهم معنى النظام الدولي الحالي. بالتالي، فإن فقدان العلامات المرجعية للتقييم، يثير شعورًا خاصًا، يمكن تلخيصه في صيغة إيليا بريغوجين الحائزة على جائزة نوبل في الكيمياء، عندما قالت “اليقين الوحيد الذي يمكن أن يتمتع به المرء، هو أننا نعيش في عالم من اللايقين”[Sebastian Santander, «Un monde entre accélération et incertitudes», dans le site de l’université Liège: http://www.reflexions.uliege.be/cms/c_359576/fr/].