ميشيل الناشف عاشق الأمازيغ بالأبيض والأسود
كيف جئت إلى التصوير؟ وهل اتبعت مسيرة أكاديمية ما؟
ميشيل لم أدرس التصوير في الجامعة. بل تعلّمته وحيدا، بالنظر إلى أعمال المصورين الكبار، وقراءة مقدمات كتالوغاتهم ورؤية ما تيسّر من معارضهم. والآن عندما أذهب إلى مدينة كبرى، أعرف المعارض الفوتوغرافية التي يجب أن أزورها، وأعلم أسماء المصورين الذين عليّ أن أطّلع على تجاربهم.
من هم المصورون الفوتوغرافيون الذين تأثرت بهم، وكانوا منابع أخذت عنهم إلى درجة استغنيت فيها عن دراسة التصوير الفوتوغرافي في الأكاديمية؟
ميشيل أحب المصورين الأميركيين. المصورون الأميركيون هم أساتذتي.أذكر هنا أنسل أدمس، ودوريتا لانج، التي صورت مشاهد مذهلة من الغرب الأميركي. أيضا هناك الفرنسي هنري كارتييه بريسونز، أتذكر أيضا روبيرت ديزنو وديوزيد الذي التقط صورا جميلة جدا لأسبانيا، وبوبات وصوره عن فلسطين.. وآخرين.. بالنظر إلى أعمال هؤلاء تعلّمت التصوير وتطورت تجربتي انطلاقا ممّا رأيته لهم وما قرأته عنهم.
أغلب الصور التي التقطتها تستخدم فيها الأبيض والأسود. لماذا تصر على هذين اللونين؟
ميشيل أنا أعشق اللون الأبيض والأسود في التصوير. هما لونان مريحان بالنسبة إليّ. في تاريخ الفن فنانون كبار لم يرسموا إلا بالأبيض والأسود. أحد الفنانين الكبار يزعم أن الأسود يحتوي على كل الألوان. كيميائيا هذا الكلام صحيح. هناك عدد لا نهائي يخرج من تدرّجات الأبيض والأسود. إذا كان هذا يصح في الفن التشكيلي فهو يصح أيضا في التصوير الفوتوغرافي.
أجد الآن سلاما في تصويري للطبيعة. تصوير البشر أمر صعب في هذه البلاد. فأنت مثلا تصور أوراق الشجرة دونما أن تطلب الإذن منها
ضمن ألبوم صورك التي التقطها للطبيعة نجد مجموعة كبيرة تختص بشجرة الزيتون. لماذا ركزت على شجرة الزيتون دون غيرها من الأشجار؟
ميشيل أنا ابن منطقة لبنانية، تكثر فيها زراعة أشجار الزيتون. لقد ترعرعت وكبرت بين أشجار الزيتون. هذا من جهة ومن جهة أخرى عيشي في مدينة أرل، جعلني أتأثر بالفنان فان غوغ، وبموضوعاته التي أراها أينما ذهبت سواء في داخل المدينة أو في محيطها.
بعد عودتي إلى قريتي الجنوبية، أحببت أن أقتفي بفان غوغ، لذا قمت بتصوير شجرة الزيتون، كنوع من العودة إلى الطفولة ومنابعها الأبدية التي لا تنضب. بالطبع هناك دوافع جمالية وراء اختياري لها. فشجرة الزيتون تكتنز بجماليات شكلية لا تنتهي. وهي تتعدى غيرها من الأشجار. كما أن فيها مخزنا تاريخيا ودينيا يعيش بداخلنا.
هل قدسية هذه الشجرة هي التي جعلتك تمنحها هذا الحيز الكبير ضمن ألبومك ؟
ميشيل لا. فأنا لم أصورها لأسباب دينية. لكن قدسية هذه الشجرة متأتية من صبرها وعطائها ومحبتها لنا.
في الشمال اللبناني توجد زيتونات يتجاوز عمرها الستة آلاف سنة، وهذا يعني أنها موجودة قبل المسيح بأربعة آلاف سنة. حتى الآن هناك زيتونات معمرة موجودة في قرية “بشعلة” غرسها الرومان ضمن عرفهم بغرس الزيتون في مناطقهم.
في قرية “كوكبة” على حدود فلسطين، أيضا هناك زيتونات قديمة جدا، يقول العرف الشعبي إن السيد المسيح عندما ذهب إلى صيدا وصور، توقف وأرتاح في ظلها. هذا يعني أن عمرها ألفا سنة. العامل الديني لا يدفعني لالتقاط صور بل السرّي وما يتجلى من هذه الشجرة من أسرار لا نهائية، هي التي لعبت دورا في جذب عدستي نحوها. أحب شجرة الزيتون، كما أحب أرزنا الذي يعود إلى أيام النبي سليمان، وهي شجرة أخرى تجذبني لكن لم أصوّرها.
أغصان شجرة الزيتون المتشعبة، وجذعها الأسود، وحباتها التي تكتنز بالخير، تجعلني أقف مرتعشا أمام جلالها وجمالها الأبدي. لذا فقد صورتها، أيام الربيع غارقة في بحر من الزهور، كعروس شرقية. ولم أصور أشجارا أخرى.
ثمة ما هو سرّي، روحي ينبثق من صورك للطبيعة ما مصدر ذلك؟
ميشيل بعد المغرب، أجد الآن سلاما في تصويري للطبيعة. تصوير البشر أمر صعب في هذه البلاد. فأنت مثلا تصور أوراق الشجرة دونما أن تطلب الإذن منها. خذ مثلا ذلك الرجل الذي يمر أمامنا الآن، لقد سألته البارحة إن كانت هناك إمكانية لتصويره فرفض، ثم خفت أن أكرر السؤال.
لنر هذه الشجرة.. صورتها أربع مرات خلال أربع وعشرين ساعة. لم أطلب إذنها، ولم أقل لها يا شجرتي العزيزة اسمحي لي أن أقوم بتصويرك. بينما لو طلبت من امرأة أو رجل أن تصورهما وقلت لهما انتظراني قليلا كي أحضر آلتي فسيهربان. العلاقة مع الطبيعة سهلة. اسأل آنسل أدمس هو سيد التصوير الطبيعي بالأبيض والأسود. تعلمت منه دونما أن نتعارف. نحن والطبيعة أخوة. أنا أرى المشهد وأصوره وأضع شيئا من روحي في كل صورة ألتقطها.
ماهو رأيك بالتصوير والمصورين العرب هل اطلعت على تجارب عربية في التصوير الفوتوغرافي؟
ميشيل أنا منقطع تماما، عن آخر أخبار التصوير الفوتوغرافي العربي. كما أنني لا أعرف أحدا. سمعت عن مصور اسمه فؤاد الخوري، لكنني لم أر أعماله.
أرل، مدينة التصوير الفوتوغرافي، ففيها يقام أضخم ملتقى للتصوير الفوتوغرافي في أوروبا. هل لهذا الملتقى علاقة باختيارك لها مكانا للعيش بعد المغرب؟
ميشيل مجيئي إلى أرل لا علاقة له إطلاقا بملتقاها المعروف دوليا. جئت إلى هنا كي أكون بقرب أولادي، وليس بدافع التصوير. ثمة كثير من الأماكن الجميلة التي يمكن العيش فيها، على سطح هذه البسيطة، أماكن تسطع فيها الشمس ككورسيكا أوالجزرالسردينية، وهي تتناسب تماما مع رؤيتي الجمالية للطبيعة حيث الجبال والنتوءات والبحر والزيتون الخ. أما مدينة أرل، بالنسبة إليّ فهي مدينة عربية بأزقتها الملتوية وزواريبها الضيقة وساحاتها المربعة وأبنيتها المنخفضة.
جزء كبير من الصور التي التقطتها، تتناول البربر والأمازيغ. ما الذي دفعك إلى تصويرهم، دون غيرهم من سكان المغرب؟
ميشيل ربما يعود السبب إلى عشقي للحضارات القديمة، التي ننحدر منها جميعا، نحن أبناء هذه المنطقة، كالحضارة الفينيقية والأمازيغية والبربرية، والمصرية والإيرانية، والعربية. هذا ليس تنكرا للحضارة الإسلامية.
لم يكن البربر والأمازيغ مسلمين، لكنهم تأثروا بالمسيحيين الأوائل، واليهودية. لم يكن هناك تشابه بين المسيحية واليهودية في دخولهما إلى المغرب. المسيحية كانت في قرطاجة وفي تونس، ومن هناك دخلت المسيحية إلى جنوب المغرب. أما اليهودية فقد دخلت إلى جنوب الصحراء. هذا ما دفعني إلى تصويرهم. أنا أعتبر نفسي واحدا منهم، وأرشيفا لحياتهم اليومية وتفاصيلها الدقيقة، أرشيفا مخلصا لهم. معهم شعرت أنني أريد أن أصور كل شيء.
نلاحظ في محترفك ذهابك إلى ما هو اجتماعي، فصورك لا تقتصر على الجمالي المحض. ما تفسيرك؟
ميشيل أنا أعتبر نفسي أرزة لبنانية نبتت في المغرب. فحياتي المغربية دامت خمسا وأربعين سنة. كنت، ومازلت مفتونا بالصعود إلى الجبال، وزيارة القرى الأطلسية، وارتقاء القمم، والانزواء فيها، والحياة مع الناس في القرى البربرية والأمازيغية. كيف لا تمتزج مع هؤلاء الناس، وهم أجمل خلق الله، وأطيبهم معشرا. أينما كنت أذهب كنت أجد بشرا مضيافين، فتحوا لي قلوبهم وبيوتهم. لذا فمن الطبيعي أن تتبع عدستي قلبي الذي يختزن كل المحبة للبربر والأمازيغ. التصوير بالنسبة إليّ هو القبض على لحظة هاربة. لحظة من الأبدية. والأبدية هي هذه اللحظة التي قبضت عليها في صورة تعكس حياة أحبائي المغاربة في قرى الأطلس.
يلاحظ في صورك عن البربر والأمازيغ، مقدرتك على التقاط تفاصيل تحيل على تفاصيل الحياة اليومية. ألمْ تواجهك صعوبات، في التقاط مشاهد من يومياتهم؟
ميشيل وجوه المغرب متعددة وهذا يوجب على المصور أن يكون على قدر من الثقافة لكي يعرف كيف يتحدث مع هذه الأرض كمصور، كما في علاقة الحب. فعلى المرء أن يعاشر حبيبته بالمحبة والرقة. كذلك المصور والمشهد كي تدخل عين المصور إلى المشهد. أظن أن دافنشي، جلس ساعات أمام الموناليزا، لكي يرى جمالها وابتسامتها الشهيرة، فالمنظر الطبيعي يصور بحسب تقلبات الضوء والظل. على المصور أن يجيء في لحظة معينة، تتناسب مع الشمس والظلال حينها إن راق لك المنظر تصوّره، وإن لم يرق لك فعليك الرجوع في وقت آخر. كذلك هو الحال مع البشر الذين صورتهم فقد أحبوني وأحببتهم.
يشكل الموسم موضوعا رئيسيا ضمن ألبومك المغربي. ما الذي جعلك تعطي هذا الموضوع جلّ مرحلتك المغربية؟
ميشيل الموسم هو عيد سنوي شعبي في جبال الأطلس، عماده رجل الدين. الناس تجتمع في هذا العيد أولا لتكريم السيد. هذا اللقاء يشكل مناسبة أيضا للتجارة والزواج وإقامة الحفلات أيضا. وقد استفدت من هذا الحدث. وقلت دون شك، هو مناسبة للقاء مع الناس وتصويرهم في احتفالاتهم واجتماعاتهم، وهذا ما حصل في موسم مولاي بو سلهام، وهو مناسبة للشعب للدخول إلى البحر، وهي تنقية بدنية وروحية.
أثناء تصويري لمشاهد الموسم في عيد سيدي بوسلهام، وجدت أن الصورة شاهد يعيد بناء الواقع بطريقة جمالية، لذا يجب عدم نسيان لا الأمكنة ولا الوجوه ولا التفاصيل .لا أنسى ما حييت، الألوان والمشاهد، وشبه الجزيرة التي يجب عبورها مشيا على الأقدام للوصول إلى الشاطئ الهادئ. عيد مولاي بوسلهام لم يعد موجودا الآن بسبب تحول المكان الذي كان يستقبل العائلات والجمال إلى منطقة صناعية. كان يستقبل كل عام أربعة آلاف شخص. كانت العائلات تأتي بخيولها وجمالها وتقيم مدة عشرة أيام قرب الضريح. يا لروعته، يا له من موسم. أعتقد أنني قمت بالتقاط صور وأنا راض عنها جماليا.
هل هناك مواسم أخرى صورتها ودخلت في ألبومك؟
ميشيل نعم فقد صورت احتفالات الموسم في إيميلشيل، وهي قرية في الأطلس العالي يجتمع فيها الناس في نهاية أعمال الحصاد حول رجل دين، معروف في تلك الناحية. الاجتماع هو مناسبة للخطوبة ولتعارف شباب قبيلة أيت بن حدو مع بناتها. إذا ما تم الوفاق، يخطب الشباب الفتيات أمام شيخ القبيلة، الذي يمتلك صفة مدنية. أيضا هو مناسبة للطلاق. والجميل عندما تتم الخطوبة يأتي الشاب ويدفع مسبقا ويحسب الفلوس، وفي الطلاق أيضا يجب أن يدفع ما وجب عليه أمام الشيخ. وأنا صورت هذه اللحظة.
وهناك ألبوم آخر التقطت صوره في طانطان، وهي مدينة في الجنوب المغربي حيث تجتمع القبائل الصحراوية لتكريم رجل دين معروف، بوجود القبائل مع جمالهم، وتتسابق تلك الجمال. في الصحراء ترى هناك مناظر لا تراها في أي مكان في العالم. ما جذبني إليهم هو رغبتي باستكشاف عالمهم ونقله للعالم.
يلاحظ تركيزك على البناء والهندسة المعمارية للبيوت التي التقطت لها صورا. ما مصدر الافتتان بما هو معماري؟
ميشيل بعد 45 سنة من العمل في المغرب الكريم، أتنزه في أرشيفي الذي احتفظت به كاملا، فأتفاجأ كل مرة، باكتشافات جديدة تنبثق من الصور التي التقطها. ففي القرى البعيدة والمنزوية والمختفية في رؤوس الجبال، نجد هندسة معمارية مدهشة، في البيوت الجبلية. نجد جماليات تحيل على المزيج بين الحضارتين العربية الإسلامية والأمازيغية. وافتتاني وتركيزي على المعمار الأطلسي ربما يعود إلى والدي الذي كان بناءً في قريتي جون في منطقة الشوف.
والآن، بعد هذه التجربة المغربية الطويلة، ما هي المواضيع التي تتوق إليها عدستك؟
ميشيل الآن، وقد انتهى عملي رسميا كمصور في المغرب نفسي تتوق إلى الجماليات الطبيعية كالأشجار، والشروق والغروب والأنهار والفصول. الخريف بأوراقه وأشجاره العارية، والربيع بأزهاره، والجبال بثلوجها. أنا شاهد وما يهمّني هو أن أكمل الذاكرة بصوري.
أجري الحوار في ارل -فرنسا