8 عقود من المغامرة
تتفق الكثير من المراجع الأدبية (1) أن بدايات القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية مثل سائر مثيلاتها في الوطن العربي، خاصة في فترة الثلاثينات الميلادية، وهي المرحلة الأولى التي بدأ فيها نشر ما يسمى بالقصة القصيرة.
وكانت الصحافة(2) هي المسرح الأول لعرض هذا النتاج الجديد على الساحة الأدبية، وقد نُشرت الكثير من النصوص على اختلاف مستوياتها في صحافتنا السعودية، واستمر هذا التواصل مع الصحافة التي هي النافذة الوحيدة، حتى صدرت أول مجموعة قصصية لأحمد عبدالغفور عطار بعنوان: أريد أن أرى الله (3)، وذلك عام 1366هـ/ 1946م، ثم توالى صدور المجموعات القصصية ليصل عددها حتى عام 1384هـ / 1964م إلى خمس عشرة مجموعة قصصية (4).
ويعد هذا التاريخ مفصليا، حيث تحولت فيه الحياة الثقافية مع تحول الصحافة من نظام الأفراد إلى نظام المؤسسات المتخصصة بالصحافة والطباعة والنشر، ودخلت في تنظيم جديد مختلف من الرأي الفردي إلى الرأي الجماعي، وهو الذي انعكس على الصحافة التي كانت تميل كثيراً إلى الأدب وفنونه، فتأثر الكـتّاب في نشر إبداعهم وتحولوا إلى إصدار المجموعات القصصية، مع احتفاظ الصحافة الجديدة، التي تعتمد على الصورة والخبر والتقرير وغيره، على مكانة الأدب والأدباء واحترام نتاجاتهم، بإفراد الصفحات والملاحق الخاصة بهم وبكتاباتهم.
لقد نمت الحركة القصصية وتطلع كتّاب القصة إلى المستقبل كثيرا، فدخلت المرأة إلى الساحة القصصية، وبدأت تنافس الرجل في الكتابة القصصية (5)، وأحدثت الكتابة القصصية الجديدة تغييرا شاملا في مفهوم الكتابة القصصية، مما أثر على حركة النشر والإصدار والانتشار، وبعد خمس عشرة مجموعة قصصية لفترة التأسيس فقط (6)، وهي القصص التي مرت باضطراب المفهوم (7)، وتداخل الأسلوب، وبالتالي انعكس على المضمون الذي بقي تقليديا غير متطور.
نرى أن النقلة آنفت الذكر قد قفزت بهذا الرقم ليصل إلى خمس وثلاثين مجموعة قصصية، وهي الفترة الأولى للتطور الفني للقصة القصيرة السعودية 1399هـ / 1979م ( 8 )!
جاءت بعد ذلك نتائج التغيرات والتطورات الكتابية واضحة للعقد الجديد 1400- 1410هـ /1980 – 1990م، وتجاوزت المجموعات القصصية في عددها الرقم المئة وعشر مجموعات قصصية (9)، واستقبلت القصة القصيرة في المجتمع عامة من خلال الصحافة اليومية، فكانت الصفحات والملاحق الأدبية والأعداد الخاصة تتزايد يوما بعد يوم، والمنافسة تتسع مساحتها بين الكتّـاب أنفسهم، والكل يبحث عن التجديد والتغيير والتجريب في تقنية الكتابة، مما انعكس على مفهوم الكتابة القصصية، ثم نما الاهتمام من خلال الأندية الأدبية التي أولت القصة القصيرة الرعاية بإقامة الأمسيات القصصية والندوات الأدبية والنقدية، فقابل هذا نمو عدد النقاد والمهتمين بدراسة القصة القصيرة من داخل الوطن ومن خارجه، بل إن الاهتمام بالقصة القصيرة ممن يقيم من النقاد وأساتذة الجامعات العرب أكثر بكثير، حتى الذين من خارج الوطن وقد وصلت إليهم هذه الأعمال عبر المجموعات القصصية والصحافة السعودية، فأثر هذا على انتشارها ومتابعتها في الأوساط الثقافية العربية، وأصبح لها قراء وناشرون ودارسون في عدد من الدول العربية.
يقول الدكتور طلعت صبح السيد في كتابه: القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية بين الرومانسية والواقعية “وهكذا يمكن أن يصبح فن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية قادرا، بما توفر إليه، على أن ينتقل من مجاله الإقليمي، ومن بيئته المحلية إلى مجالات أخرى أرحب وأوسع، ويصبح كاتب القصة القصيرة في المملكة هو الفنان الذي توفرت عنده عناصر الشكل الفني، واكتمل له المضمون العالمي” (10)
ويفرد الدكتور محمد صالح الشنطي في كتابه “القصة القصيرة المعاصرة في المملكة العربية السعودية”، فصلا كاملا بعنوان “القصة المحلية والقصة العربية -التماثل –التباين –التميز والخصوصية – شهادات الكتاب” (11)، يكشف ويحلل قصص هذا العقد المنشورة في الصحافة أو التي صدرت في مجموعات قصصية، وهي التي تبين أن القصة السعودية توازي تماما مثيلاتها في الوطن العربي، وبين مواقع هذا التماثل والتقارب، بل إنه توصل إلى تميزها عن غيرها وتجاوزها إلى الأجمل والأفضل.
ثم جاءت حرب الخليج الثانية (12) وما أعقبها من أحداث وتحولات وتغيرات في مسيرة الحياة، فتأثر كتاب القصة القصيرة بهذه الأحداث كغيرهم من المبدعين والكتاب والأدباء، فتوقف منهم الكثير وتحول بعضهم إلى مجالات الحياة الأخرى أعداد مماثلة، وقد أورد الدكتور الشنطي في كتابه آنف الذكر قائمة لأسماء الكـتّاب والكاتبات الذين تعرضت لهم دراسته، حيث وصلت إلى واحد وخمسين أسما، لم يتبق منها الآن في كتابه القصة القصيرة إلا تسع وعشرون مبدعا (13).
والحديث نفسه ينطبق على كتاب الأستاذ راشد عيسى “معادلات القصة النسائية السعودية”، حيث أورد في نهايته قائمة بخمس وأربعين كاتبة قصصية سعودية، لم يواصلن الكتابة ولم يتبق منهن إلى يومنا الحاضر إلا اثنتا عشرة كاتبة للقصة القصيرة (14).
إن هذه التحولات لا تعني أبدا أن القصة القصيرة في السعودية قد توقفت، بل إنها تجددت وظهرت أسماء أحدث في التقنية الكتابية، والتناول الموضوعي، والعمق الإبداعي، والانتشار العربي.
وقد قوي البناء القصصي، فكونت الأجيال مع بعضها متانة وقوة لكتابة القصة القصيرة، وخرجت في هذه المرحلة الجديدة نصوص أكثر تميزا ونضجا، مما دفع النقاد إلى طرح هذا الإنتاج أمام طاولات التحليل والدرس والنقاش، ثم دخلت هذه الأعمال إلى الجامعات لتكون مادة خصبة في الدراسات العليا، وحصل عدد كبير من الباحثين على درجات الماجستير والدكتوراه من خلال دراسة القصة القصيرة السعودية (15).
وبما أن الإدارات الرسمية ممثلة بالأندية الأدبية قد أولت القصة القصيرة اهتماماً واضحا (16)، فإن وجود نادي القصة السعودي 1399- 1422هـ (17) قد رفع شأنها، ووضع للقصة مكانا يليق بها، حيث انصب كل اهتمامه وعمله وتخطيطه الراهن، آنذاك، والمستقبلي من أجل القصة وكـتّابها، فكان له أثر واضح في حركة النشر والمتابعة والوصول إلى القارئ والمتلقي العربي.
هذه من المميزات التي تضاف إلى حركة الكتابة القصصية، مع التي ذُكرت في العقد الذي سبق، وأضافت إلى نفسها مع الكيف والمضمون الكم الكبير جدا، حيث نجد أن الإصدار لكل عام يوازي مراتب متقدمة من تاريخ النشر للمجاميع القصصية في المراحل السابقة (18)، وأصبح وجود المجموعات القصصية في المكتبات العامة والمتخصصة والتسويقية من الأمور الاعتيادية، بعدما كان وجودها نادرا، وفرضت القصة القصيرة السعودية نفسها على المجتمع بصورة واضحة، بعد أن تجاوزت الأوساط المثقفة والنخبوية، ومثلما بدأت في الثلاثينات مع بدايات القصة القصيرة العربية، ها هي تتجاوز بما أتيح لها من إمكانات متنوعة مثيلاتها العربية، وتقف الآن في مقدمة الكتابة والإنتاج والانتشار عربيا، ولعل دليل ذلك القوي هو التراكم الكمي والكيفي لأكثر من ثمانية عقود مضت، حيث وصلت إلى هذا اليوم ما يفوق ألفين مجموعة قصصية (19)، تم تصاعدها بصورة منطقية وعقلانية في حركة النشر الأدبي، وجاء ذلك من كتّابها أنفسهم، ومن الجهات الناشرة، ذلك لأن القصة القصيرة كتابة إبداعية رصينة لايتطاول عليها ولا يجيدها إلا من خبر مضانها ودروبها، وترفض كل قلم يدعي المعرفة بكتابتها والغوص في عالمها.
هوامش
1- بكري شيخ أمين/ الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية – بيروت: دار العلم للملايين، 1972م؛ منصور إبراهيم الحازمي/ فن القصة في الأدب السعودي الحديث – ط2 – الرياض: دار ابن سينا للنشر، 1420/ 1999، وغيرهما من الكتب والأبحاث التي درست تاريخ القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية.
2- سحمي ماجد الهاجري/ القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية – الرياض: النادي الأدبي، 1408هـ /1987م.
3- صدرت هذه المجموعة في طبعتين الأولى عام 1366هـ / 1946م وقد طبعت في القاهرة وكتب مقدمتها الأستاذ سيد قطب بقوله: يسرني، على كراهيتي لكتابة المقدمات، أن أقدم إلى العالم العربي أول مجموعة من الأقاصيص تنشر لأديب حجازي …. ) أما الطبعة الثانية التي هي نسخة من الأولى فقد صدرت عام 1398هـ/ 1978م وقد أصدرتها دار ثقيف للنشر والتوزيع حينما كانت في الطائف.
4- سحمي ماجد الهاجري/ المرجع آنف الذكر.
5- انظر مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية، مج 14، ع 1 (المحرم – جمادى الآخرة 1429هـ / يناير – يونيو 2008م): الإنتاج الإبداعي للمرأة في المملكة العربية السعودية: ببليوغرافيا، وفيها حصر كامل لكل الإنتاج الشعري والروائي والقصصي والمسرحي، مع تحليل ببلومتري يكشف عن العقود المتتالية لعطاء المرأة منذ عام 1380هـ وحتى تاريخ البحث.
6، 7 – سحمي ماجد الهاجري/ المرجع آنف الذكر.
8- يحيى محمود الساعاتي/ الأدب العربي في المملكة العربية السعودية: ببليوغرافيا – الرياض: دار العلوم للنشر، 1399هـ.
9- خالد أحمد اليوسف/ الراصد : ببليوغرافيا – الرياض: المؤلف، 1410هـ / 1989م.
10- طلعت صبح السيد/ القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية بين الرومانسية والواقعية – الطائف: نادي الطائف الأدبي، 1408هـ / 1988م.
11- محمد صالح الشنطي/ القصة القصيرة المعاصرة في المملكة العربية السعودية – الرياض: دار المريخ للنشر، 1407هـ / 1987م.
12- في عام 1990م حدث تغير كامل في تكوين منطقة الخليج العربي، بعدما قامت العراق بغزو جارتها الكويت، فأحدثت شرخا في الكثير من المفاهيم والأسس الوطنية والقومية، وانعكس هذا على الناس أجمعين.
13- أما الذين انقطعوا عن كتابة القصة القصيرة أو توفوا فهم: أحمد بوقري، حصة التويجري، حصة العمار، رجاء عالم، سباعي عثمان، سلطانة السديري، سليمان الحماد، سليمان سندي، عبدالعزيز مشري، عبدالله بامحرز، عبدالله جفري، عبدالله السالمي، عبدالله سعيد جمعان، عبدالله الكويليت، علي حسون، علي الشامي، علوي طه الصافي، فوزية البكر، مسفر القحطاني، هند باغفار، نجاة خياط، هديل الحضيف، زياد السالم.
14- راشد عيسى/ معادلات القصة النسائية السعودية – الرياض: مؤسسة إصدارات النخيل، 1414هـ / 1994م، والكاتبات اللاتي ذكرهن وتوقفن أو ابتعدن هن: أمل شطا، إيمان الدباغ، تمام عبدالله، جواهر العسعوس، جوهرة المزيد، جميلة فطاني، سارة أبوحيمد، سميرة خاشقجي، عائشة زاهر، فاطمة بن طالب، فاطمة حناوي، فاطمة الدوسري، فوزية العريفي، مريم الغامدي، منى الفقيه، منيرة الغدير، نجاة عمر، نجوى هاشم، هيام الكيلاني، وغيرهن كثير.
15- حسين علي محمد/ مراجعات في الأدب السعودي – الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 1421هـ / 2000م، ص ص 113-124؛ كذلك هناك رسالة ماجستير بعنوان: القصة القصيرة السعودية في كتابات الدارسين العرب للباحثة أميرة علي الزهراني، تكشف فيها الأفق الواسع لانتشار القصة القصيرة السعودية في الكتب والدوريات وكيف تناولها النقاد والباحثون والدارسون وقد تحولت إلى كتاب صدر عن دار ابن سينا للنشر عام 1423هـ / 2002م في 218 ص، ومن المعلوم أن الكتب التي درست القصة القصيرة في السعودية قد تجاوزت المئة وخمسين كتابا، معظمها صدر خارج السعودية، أما البحوث والدراسات المتخصصة بالقصة القصيرة في السعودية فلم أستطع إحصائها حتى الآن، لأن الدوريات المحلية والعربية لا تخلو من نشر دراسة عنها منذ ثلاثين عاما، وذلك بسبب التوجه العلمي والأكاديمي العام لمتابعتها ودراستها والحصول على درجات الترقية والشهادات العلمية من خلالها.
16- يحسب للأندية الأدبية من ضمن اهتماماتها إقامة الملتقى الأول الخاص بالقصة القصيرة في رحاب نادي أبها الأدبي عام 1414هـ، ثم تلاه الملتقى الثاني في رحاب مكتبة الطائف العامة بالتعاون مع النادي الأدبي وهيئة السياحة في الطائف عام 1419هـ، ثم تلاهما الملتقى الثالث عام 1429هـ في نادي القصيم الأدبي، ومازالت القصة القصيرة تحتاج إلى ملتقى ينظم بشكل دوري.
17- هو ناد أنشأه الأمير فيصل بن فهد الرئيس الراحل للرئاسة العامة لرعاية الشباب، وقد سانده بصورة عملية، فدعمه من خلال وجوده بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، فكان له نشاط بارز منبريا ونشرا وتفاعلا مع الكتابات الجديدة، فأصدر حوالي ثلاثين عملا ما بين مجموعة قصصية ورواية ودورية متخصصة، وأقام خمس مسابقات لكتابة القصة القصيرة، أما الأمسيات فقد كانت أسبوعية على مدى أربع سنوات، وله أنشطة قصصية أخرى.
18، 19- للباحث عدد كبير من الببليوغرافيات التي ترصد وتتابع الحركة عن كثب، وقد بدأ في نشرها منذ عام 1407هـ/ 1987م، ثم تتابع تجددها كل عام منذ عام 1419هـ/ 1999م، وفيها إثبات أن الإنتاج القصصي يزيد في كل عام عن عشرين مجموعة قصصية حتى استقر عدد المجموعات القصصية في هذا العام 1439هـ / 2018م ما بين الستين مجموعة قصصية، والسبعين مجموعة قصصية، وهذا الرقم مستقر منذ عشرة أعوام تقريبا.