المسرح أكثر الفنون التصاقا بالوعي والمقاومة
لقد كان ولازال المسرح فعل إرادة ومقاومة، خاصة إذا ما نظرنا إلى أن القاعدة الأساسية لمفهوم الدراما حسب التعريف الأرسطي هي «فعل نبيل تام»، فالفعل هو أساس وكيان المسرح مهما اختلفت المشارب والأغراض، وقد كان المسرح منذ نشأته حمالا إلى الفعل الإنساني مع ذاته ومحيطه وحتى الآلهة، والذي تنزل عن طريق مسرحيات سوفوكل من الصراع الإنساني الإلهي إلى الصراع الإنساني المحض وخاصة من خلال مسرحية أنتيجون التي حولت الصراع والمقاومة وبالتالي الفعل، إلى رفض السلطة والتوق إلى الحرية والتحريض إلى التمرد ضد القوى المكبلة للحرية الفردية والداعية إلى التحكم بحياة الآخرين.
و لعله ليس بغريب أن يكون المسرح أكثر الفنون التصاقا بالوعي والمقاومة والدعوة إلى التغيير والنمو بالفكر الإنساني منذ عهد الإغريق ومرورا بالمسرح الروماني ثم محاولات الفرق الجوالة لفن الكوميديا دي لارتي الإيطالية وإعادة إنعاش هذا الفن وإنقاذه من براثن الكنيسة وصولا إلى المسرح الإليزابيثي أين سيعرف الازدهار والانتشار. لقد كان المسرح منذ وجوده قائما على الباث والمتقبل ومهددا بالتغيرات السياسية والمناخات الاجتماعية التي كانت تمنعه حينا وتحرمه أحيانا لما يحتويه من آليات مؤثرة من أجل استنهاض ذوات وقيم الشعوب ولما يمتلكه من آليات لنقد السلطة مهما كانت طبيعتها ولما يتسم به به من طبيعة آنية واقعية.
يعرف المسرح بكلمة «الآن وهنا» فطبيعته المتجددة والمتطورة والمحيّنة بين العرض والآخر وبين المكان والآخر تجعله وسيلة ذات أهمية وخطورة لا يستهان بها للتأثير في نفس المتلقي خاصة من المسرحيات التي تنفذ إلى عمق الذات البشرية وما تحتاجه من قيم وجودية جدّ ملحة مثل الحرية والعدالة والمساواة والحب.
لقد أصبح المسرح بوابة من خلالها تنطلق الأفكار لتحلق في سماء الاختلاف والتنوع من أجل تغذية الذات الإنسانية بالهوية الحقيقية ألا وهي أنه كيان مفكر قادر على الفعل والتغيير، ولعل من أبرز المحطات المسرحية التي يجب أن نتوقف عندها في مسرح الفعل والمقاومة والتغيير والتمرد الفكري والفني، مؤلفات شكسبير وكل هذا الإرث والزخم الفكري الذي تركه مخلدا بذلك قدرة الإنسان ضد ذاته ومصيره وخاصة من خلال مآسيه الأربع الشهيرة: هاملت، الملك لير، عطيل، مكبث والتي من خلالها مهد لولادة مسرح يسائل الذات والوجود، ويحاكي الآخر سلطة كان أو قدرا متسما بالانفتاح والإنسانية في الطرح، متجاوزا في قضاياه كل الأمكنة والعصور.
وتتدافق التجارب والآراء والاتجاهات والتجارب في المسرح بالعصر الحديث، ويتحول ليصبح فنا قائما بذاته ومتخلصا من هيمنة سلطة الكاتب، إلى بناء متكامل تساهم فيه كل الوسائل والتقنيات والاختصاصات، فكان حاضرا ومحرضا في الثورات في عصر النهضة وباحثا عن سبل وطرق أخرى لمخاطبة المتلقي في فترة الحداثة ومناهضا للسياسة من خلال المسرح البرشتي، ومتمردا ومغتربا في خطابه في فترة ما بين الحربين العالميتين من خلال تجارب مسرح العبث، ومفتاحا إلى المستقبل الجمالي والفكري من خلال التجريب في ما يسمى بفترة ما بعد الحداثة.
لقد احتوى المسرح دائما على الفعل الفلسفي والفكري والسياسي والاجتماعي وكان دائما على اتصال وثيق بالمتلقي الذي تنوعت مراتبه ومشاربه ومستوياته، مثل مسرحيات لوركا الخالدة ومسرحيات الغرب الأميركي مثل تينيسي ويليامز، الذين بالرغم من تنوع واختلاف أزمانهم وأوطانهم كان المسرح لهم سبيلا للمقاومة والتحريض على التغيير، إضافة إلى الموروث الشرقي وملاحمه وفنونه التي اعتمدها كبار المخرجين المعاصرين أمثال بيتر بروك وأريان موشكين لتبيان الرقي البشري وعمق التفكير الإنساني مهما كان مأتاه وأينما وجد.
وأما فيما يخص اختلاف المسرح عن بقية الفنون، فأعتقد أنه ليس هناك اختلاف لأنه ببساطة أن المسرح هو كل الفنون مجتمعة فهو يحتوي الكتابة والموسيقى والديكور والتصوير والنحت السينوغرافي والحياكة للملابس والأزياء والنجارة والتقنيات الكهربائية والتكنولوجية واللياقة البدنية للممثل بالرقص وغيره من المهارات البهلوانية وقد تم استعمال الوسائل السمعية البصرية مؤخرا كذلك داخل الفرجة المسرحية بتوظيف وسائل العرض السينمائية الضخمة بالمسارح.
وإن أردنا المقارنة فسنجده فنا حيا نابضا متجددا ومتطورا حسب الزمن ونوعية الجمهور ومكان العرض وإن أردنا التدقيق أكثر فسنجده حاملا لرسائل وجودية إنسانية، فهو يهب الحياة و»هو الحياة» في حد ذاتها حسب تعريف المخرج الكبير «بيتر بروك».
فالمسرح بزخم مكوناته وآلياته وما يكتسبه من تمازج لفنون عدة قادر على النفاذ بسهولة والتأثير للتغيير ولهذا اعتمد جل زعماء التاريخ في بناء شعوبهم على المسرح ولا غرابة أن يسمى «بأبي الفنون» لأنه المعين والأسبق والشامل لجلها.