المسرح ميزان حرارة الشعوب ومعدل نبضها الثوري
مازال المسرح ومنذ ابتدعه اليونانيّون القدامى، نبراسا يضيء سبيل الإنسانيّة، وفتيلا يشعّ في دروب الرّوح. إنّه محرار الشّعوب ومعدّل نبضها الثوري ولم يكن اعتباطيّا نعــْـته بأبي الفنون، فالمسرح جامع لكلّ جمال، محرّك لكلّ القيم والعواطف، ملطّــف لكلّ بــــلاء، نبيل في مقاصده ومساراته، يدعوك في كلّ حين للتّساؤل والاستكشاف والتأمّل.
ولأنّ المسرح حيويّ بطبعه فهو الذي يقود البشريّة نحو رقـــيّ إنسانيّ ملحوظ، فقد شهد وعلى مـــرّ العصور تطوّرا هائلا تغيّرت فيه تمظهراته من المعبد إلى الكنيسة إلى الساحات العامّة إلى قاعات العرض الحديثة كما نراها اليوم، لذلك فالمسرح تحديثيّ تقدّميّ أو لا يكون.
ولعلّنا نرى كيف أنّ الأمم كلّما مــرّت بأزمات وحاصرتها الآفات وتملّكها الضّعف والوهـــن، إلاّ ولجأت إلى فنونها وآدابها تنبش فيهما مستنجدة بهما لاجئة إليهما باحثة عن أجوبة وحلول لكلّ مأزق يلـفـّـها.
وفي هذا السّياق، كان اهتمامي بالدراما التّاريخيّة من خلال العودة إلى تراثنا وأعلامنا ووقائعنا، إيمانا منّي بأنّه لا يمكن لنا أن نتعاطى مع واقعنا وأن نفهمه إلاّ إذا ما فهمنا ماضينا وأخذنا منه العبر والمواعظ، فجاءت «داحس والغبراء» و»أصحاب الأخدود» و»علي بن غذاهم» و»المنصف باي» و»السّقيفة» و»احتقان» و»أو لا تكون» وغيرها من المسرحيّات نتاجا لـــريح الـسـّـموم الذي نراه يعصف بالأمّة في هذا الزمن المسمّى ربيعا عربيّا..
و لعلّ الأمر كان كذلك في خمسينات وستّينات القرن الماضي، حيث لجأ كبار الكتّاب إلى التّاريخ يستجوبونه عن حاضرهم بعد الحرب العالميّة الثّانية ومآلاتها في المنطقة، فكانت نصوص مثل «الزّير سالم» و»الحسين شهيدا» و»أهل الكهف» و»جميلة بوحيرد» و»أحمد عرابي» و»الفتى مهران» و»مراد الثّالث» و»صاحب الحمار» وغيرها لكتّاب من المشرق ومن المغرب، ومن قبلهم كان الشّاعر الإنكليزي شكسبير قد لاذ بالتّاريخ في أغلب أعماله (الملك لير، مكبث، عطيل، تاجر البندقيّة..).
إلاّ أنّ العودة إلى التراث والاستلهام من التّاريخ إنْ هو إلاّ مسمار يعلّق عليه الفنّان لوحاته، فالمسرح فعل بناء، والبناء لا يكون إلاّ للمستقبل.. بناء الأوطان، بناء الأمم، بناء الإنسان من قبل ومن بعد، لذلك لن تجد ولو عملا فنيّا واحدا يدعوك إلى الموت حتّى في المآسي الكبرى، أكثر الأعمال تراجيديا.
فالمسرح يحرّضك على نفسك أوّلا ويدعوك للثّورة على ضعفك ووهنك ويستنفر الإنسان الكامن فيك.. إنّك لا ترى مشهدا واحدا على خشبة المسرح يدعوك للحضيض..
لاحظْ أنّك ترفع هامتك منذ اللّحظة الأولى وأنت تطأ صالة المسرح.
ستشعر هناك أنّك تسبح في فضاء مخمليّ شفّاف، ستلامس السّحاب بيديك وتستنشق هواء لم تعتده، وترى عيناك ما لم ترياه من قبل.. إنّه عالمك السّحريّ الخلاّب وجنّتك المفقودة.
لا أحد يستأهل المسرح سواك. خــذْه بكلّ قــوّة وطـــرْ به إليك.. حــلــقْ بعيدا، بعيدا ستفهم ما معنى أن يكون لك جناحان.
إن أنت امتلكت جناحيــْـك، فلن تتخلّى عنهما أبدا.
إنّه دبــيـب الحرّية، همـْـسها يناديك، فســـرْ إليها ولا تتردّد.
أمّا لماذا المسرح دون سواه، فذلك لأنّه حـــيّ مباشر وتلقائيّ، لا كذب ولا نفاق فيه، إنّه الآن وهنا حيث أنت، حيث الوجود النّابض من حولك، إنّه نبضة من نبضات قلبك وطرفة من طرفات عينك، لذلك ترى كلّ متــســلـّـط يخشاه، لأنّه يعلم أنّه يتسـرّب إلى الأفراد والجماعات.. إلى ذات الإنسان يتسرّب مع كلّ لــمسة ودّ. مع كلّ شهقة حـــبّ.