ثرفانتيس بعد 400 عام
مُطالعة رواية هي كالرحلة، فالراوي الناجح هو من يستطيع أن يُحرّك خيال القارئ، فيحملهُ إلى زمان وأماكن الأحداث، ويجعل شخصيات الرواية قريبة من القارئ وفي حوار معهُ.
كانت رحلتي مع رواية دون كيخوت منذُ حوالي ثلاث سنوات، رحلة لم تكُن عادية، فقد شاءت الصدف أن أُطالع الرواية وأنا في أسبانيا، غير بعيدٍ عن الإطار المكاني للأحداث. في بعض الحالات كانت ما يُعرف بالروايات العالمية تخيبُ أمالي، فلا أنهيها إلا وأنا مُنهك، أتركُها سعيدًا بانتهاء رحلة مع رفيقٍ ثقيل الظل، أما رواية دون كيخوت فقد منحتني أكثر مما كنتُ أنتظر.
تحيي أسبانيا والعالم هذه السنة ذكرى مرور 400 سنة على وفاة ميكال دي ثرفنتس، الذي توفي في 22 أبريل 1616، وبهذه المُناسبة تم تنظيم العديد من التظاهرات الثقافية والمُلتقيات العلمية، كتظاهرة «ثرفنتس وتونس» التي نُظمت على هامش معرض الكتاب، أيام 02 و05 أبريل 2016 أو الملتقى العلمي اثرفنتس والجزائرب الذي نظمتهُ جامعة أبو بكر بلقاید بتلمسان أيام 26 و27 أبريل 2016.
كذلك بهذه المُناسبة قامت بعثة أسبانية بالعمل على تحديد مكان رفات ثرفنتس، الذي يرقد ابكنيسة المُثلثينب بحي الحروف في مدريد، فكما تذكر جريدة «الباييس» في عددها الصادر يوم الجمعة 22 أبريل 2016، نجحت هذه البعثة بعد تحليل المُعطيات التاريخية والاختبارات العلمية في تحديد مكان رفات ثرفنتس بدقة تقارب 100 بالمئة، والذي وُجد في قبر يضُم رفات 16 شخصًا آخرين، من بينها رفات زوجته.
بالإضافة إلى اكتشاف مكان رفات ميكال دي ثرفنتس فقد نجح ديغو دي صابينو أحد الباحثين الأسبان في السنة الماضية وبعد بحث أرشيفي دقيق في الوصول إلى ما يُعتقد أنها وثيقة تعميد الشخصية الحقيقية التي استلهم منها ثرفنتس شخصية البطل الثاني في روايته أي سانشو بانثا، والذي يحمل في الحقيقة اسم سانشو غايونا، وهو ما جعل هذا الباحث يذهب إلى أن قرية دون كيخوت التي يذكرها ثرفنتس دائمًا في روايته بـبفي مكان ما من لامنتشاب هي قرية أسكيفياس غير البعيدة عن طليطلة والتابعة لإقليم كاستيا-لامنتشا، والتي تم في كنيستها اسانتا مارياب العثور على وثيقة تعميد سانشو غايونا، كما أن زوجة ثرفنتس، كاتالينا دي سالاثار أصيلة هذه القرية.
على الرغم من هذه الاكتشافات المُتعلقة بحياة ووفاة ثرفنتس وروايته، فإن العديد من الألغاز مازالت لم تُحل، فأين تنتهي الحقيقة ويبدأ الخيال في أن رواية دون كيخوت قد دُونت بالألخاميدية (كتابة الأسبانية بحروف عربية) وتم نقلها إلى الأسبانية عن طريق الموريسكي الذي يطلق عليه ثرفنتس في الرواية سيدي حماد بن أيلي، في حين يؤكدُ بعض الباحثين أنهُ الموريسكي الغرناطي ميكال دي لونا، أحد أشهر الكتاب والمُترجمين المُوريسكيين الذين عاشوا في الثلث الأخير من القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر؟ ثُم لماذا اختار ثرفنتس أن يكون الراوي موريسكيًا وهي الفئة التي كانت تُحرّض عليها الكنيسة بصفة متواصلة على أساس أن إيمانها المسيحي غير صادق إلى أن تم طرد كل الموريسكيين ما بين سنتي 1609-1614؟ وما هو الموقف الحقيقي لثرفنتس من هذه القضية؟ فهل هو ذلك الموقف المُتعاطف مع الموريسكي الريكوتي الذي عبر عنهُ في الجزء الثاني في الفصل 54، أم هو ذلك المُتحامل الذي يُمجد قرار الطرد الذي اتخذهُ فيليب الثالث، والذي نجدهُ في الفصلين الـ64 والـ65؟
ألهمت رواية دون كيخوت العديد من الموسيقيين، المسرحيين والسينمائيين، حيث أن أُولى الاقتباسات الموسيقية لهذه الرواية تعود إلى نهاية القرن السابع عشر، في حين أن الاقتباسات السينمائية تعود إلى خمسينات القرن العشرين، أما فيما يخص الاقتباسات المسرحية فقد كُنت محظوظًا منذ حوالي ثلاث سنوات بحضور مسرحية اأنا دون كيخوتي دي لامنتشاب بطولة الممثل الأسباني المعروف خوسيه ساكريستان.
إنه امسرح روميهب، الذي يقعُ في وسط مدينة مُرسية القديمة، غير بعيد عن كنيسة سانتا ماريا، التي تقفُ صومعتها الضخمة شامخةً كمنارة، أهتدي بها كلما ضعتُ وأنا أتجول في أزقة مدينة مرسية. مسرح جميل، يعود إلى أكثر من مئة وخمسين سنة، السقف مُزين برسوم نباتية وسماء زرقاء وبيضاء، أما المقاعد فذات لون أحمر وجوانب خشبية مُذهّبة.
أُطفئت الأضواء بشكل مُتدرج، موسيقى خافته. انتظرتُ أن يخرج الممثلون من وراء الستار، فإذا برجل من بين الجمهور يسير مُتثاقلاً نحو خشبة المسرح، وتحديدًا نحو الركن الذي كانت توجد فيه آلة الكونترباص، عدّل الأوتار، ثم عزف مقطوعةً موسيقية جميلة، يبدو أنها تعود إلى العصر الذهبي. ثم خرجت شابة في عتبة العشرين، وبدأت تقوم بحركات تُعبّر عن بداية استعدادها للعرض المسرحي، ثم شخص يبدو بدينًا بعض الشيء، فممثل فارع الطول يُمسك كتابًا أنشد يقول بلغة أسبانية قديمة اذلك الزمن الخالدةزمن أمنديس الغالي والفروسية الجوالةةب، ثم صَمَتَ، ليُسعفهُ الممثل البدين والذي لم يكن إلا سانشو بانثا، ببقية الكلام. هل نسي دون كيخوت هذا العصر دورهُ؟
من الكُتيب الذي قُدم لي في مدخل المسرح أدركتُ بأن المسرحية وإن كانت إعادة تمثيل لرواية دون كيخوت، فهي بشكل يتماها مع روح هذا العصر، مع أسبانيا الأزمة، مع العشرية الثانية المجنونة للقرن الحادي والعشرين.
بين الهزل وتعليقات سانشو بانثا وأمثلتهُ التي لا تنتهي، وحبه للأكل وللنبيذ الذي يُمكن أن يجعلهُ ينظر إلى السماء لأكثر من ربع ساعة وهو يحاول أن لا يترك أيّ قطرة في الجرّة، وابنتهُ ذات التعليقات التي تبدو في بعض الأحيان ساذجة وفي أحيان أخرى حكيمة، ومُغامرات دون كيخوت المُختلفة مع طواحين الهواء، أو البغالين البنغاليين، مغامرة الأسود وكهف مونتسيرو، والشخصيات العديدة التي لقيها: كجندي معركة لبونت البائس، المتجول كعبد بين القسطنطينية وتونس وقصة هروبه من الجزائر برفقة ثريا، أو الموريسكي الريكوتي المطرود والمطارد، والذي أخبر دون كيخوت بأنهم يحبون أسبانيا أينما كانوا، وبطبيعة الحال حُبه الخالد لدولثينا، أجمل السيدات في كل العصور، ومن يمكن أن يقول غير ذلك؟ مرت المسرحية دون أن أشعر بمرور الوقت، إلا ودون كيخوتي يُخبرُ سانشو بانثا بأنهُ كان يُريدُ أن يصبح راعيًا وبأن يتخلى عن كل ألقابه، االفارس حزين الطلعةب، افارس الأسودب، لكن ساعة الموت قد حلت يا صديقي سانشو.
موسيقى حزينة، دون كيخوت يجلس ميتًا في ركن المسرح، أما سانشو فقد وضع رأسهُ بين قدميه، فقط تقدمت ابنتهُ لتسألهُ عن إرث سيّده، وخصوصًا عن أسلحته وحصانه، ثم قالت لوالدها سلّحني في محاولة لأن تكون وريثة دون كيخوت، أو أن تُعبر عن الأمل في محاربة الفقر والظلم الاجتماعي السائد في هذا العصر، ورؤية مخرج المسرحية لدون كيخوت، ليس كمجنون بكتب الفروسية كما صورهُ راهب القرية، وإنما كشخصية تُعبّر عن كل أولئك الذين يحلمون اليوم بالحرية وبمجتمع عادل، أولئك الذين يخرجون اليوم في شوارع مدريد، أثينا، تونس، دمشق، القاهرةة مُطالبين بالحرية وبالعدالة الاجتماعية، يُحاربون طواحين الهواء أو إدارات طحن أحلام الشباب، ومردة هذا العصر أو الشركات مُتعددة الجنسيات، وسحرةً من كل الأنواع والأشكال يسمّونهم رجال سياسة.
دون كيخوتي الذي أفاق من موته لينهي الجدل بين سانشو وابنته، لم يمُت ولن يموت، زهرة الفروسية الجوالة، وأمل المُستضعفينة، وقف شامخًا، فصمت الجميع، ليقول ابهذا تنتهي كُلّ الكلمات، أنا دون كيخوت دي لامنتشاب.
إن عظمة ومُتعة رواية دون كيخوت ليست فقط في ألغازها العديدة وما تطرحهُ من أسئلة، أو في التقنيات السردية المُجددة التي اتّبعها ثرفنتس، بل كذلك في أنها رواية لا تموتُ، رواية مُعاصرة أكثر من بعض الأعمال المنشورة حديثًا.