ثلاثة رؤوس لمثلث لكي أتفادى متاهة الدائرة
لا يتعلق الأمر فقط بقدرة السلطة على تزييف وعي الجماهير، وإنما بعدم قدرة المثقف على التواصل مع الجماهير، وإقناعها بنبل رسالته. وقد ضيع بعض النبلاء أعمارهم فعاشوا حتى شهدوا نهايات تراجيدية لأفكار صاروا هم أنفسهم ضحاياها. أحد هؤلاء نصر حامد أبوزيد، وقد تواطأ عليه اليمينان السياسي الرسمي والديني، واضطر للمغادرة والإقامة في المنفى، وفي زياراته لمصر كانت تؤلمه حراسة الشرطة وهو ذاهب لمناقشة رسالة علمية لأحد الباحثين، في جامعة القاهرة التي وصفها سعد زغلول منذ حفل الافتتاح عام 1908 قائلا «هذه جامعة دينها العلم».
يسهل اتّهام الجماهير بالغفلة؛ فالضحايا لا يدافعون عن أنفسهم، ولا يجيدون دائما فنون هذا الدفاع. وكما يتردد ـ عن حق ـ كلام في ضرورة الإصلاح الديني، إصلاح الخطاب، والبحث عن فقه جديد، فإنه يندر أن يتردد كلام شجاع مواز في نقد الخطاب الثقافي، والبحث عن خطاب جديد يناسب التباين الهائل في قطاعات وفئات أصبح الكثير منها جزرا منعزلة، حتى لا يظل منتجو هذا الخطاب هم مستهلكوه، تاركين الشارع لتضليل سياسي أو ديني. لم يعترف كثيرون بالقصور في تصوّراتهم القديمة في قراءة سيكولوجية الشعوب العربية، حتى بعد أن فاجأتهم الثورات من خارج أيّ أطر جاهزة. ويتراكم الخطأ في فجوات تشمل عدم دقة قراءة الخرائط الاجتماعية، وافتقاد إشارات صحيحة للتفاعل تستطيع الجماهير التقاطها.
وفي الحوار الشامل مع صادق جلال العظم أتوقف أمام ثلاث قضايا. أولها قوله إن «الجماهير التي خرجت إلى ميادين التحرير في كل من تونس والقاهرة وصنعاء هي جماهير متديّنة ولكنّها رفعت شعارات تتعلق بالحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهي قيم تعود في الأصل إلى الثورة الفرنسية. فهذه الجماهير لم تقل في البداية مثلا بأن الإسلام هو الحل». كنت أودّ التفرقة بين كون الجماهير مؤمنة، لا يمنعها الإيمان ـ بهذا الدين أو اعتناق هذا المذهب ـ أن تحترم المختلف ولو كان ملحدا، وبين كونها متديّنة؛ فالتدين طريق غالبا ما ينتهي بالانحياز إلى شعار ديني ولو لم يكن «الإسلام هو الحل». والذين خرجوا تلقائيا في «جمعة الغضب» وأسقطوا حسني مبارك فعليا مساء ذلك اليوم كانوا ينشدون الحرية ولم يرفعوا لافتة دينية. وفي الأيام التالية لم يشهد ميدان التحرير هذا النوع من الشعارات، إلا حين تأكد لليمين الديني أن النظام يتهاوى. وتجربة الميدان في أيام البراءة تثبت أن الحرية هي ما يمكن أن يُجمع عليه الشعب لو حسنت أدوات التواصل معه، إذ كان الشعار منذ اندلاع الاحتجاجات في 25 يناير «تغيير ـ حرية ـ عدالة اجتماعية»، أثق في أذني وهي تستغرب شعارا معدّلا صار أكثر شهرة ورسوخا: «عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية ـ كرامة إنسانية»، وأستند في ذلك إلى الفيلم القصير «نافذة ع التحرير»، لعمرو بيومي.
العظم يقول إنه منذ وقت مبكر كان «واعيا بمدى حضور وأهمية العامل الديني في المجتمعات العربية وإمكانية تحوّله إلى ملجأ ومنقذ ولكن لم أتوقّع يوما أنه سيصل إلى هذا المستوى من الراديكالية الجهادية. لكن الآن بعدما حصل هذا، أحاول أن أفسّر وأفهم لماذا اتجهت الحركات الدينية هذا الاتجاه؟ طبعا العامل الأكبر حسب رأيي هو فشل العسكري والدولة الوطنية في ميدان التربية وغياب المعرفة العلمية في العالم العربي وغياب المؤسسات المواكبة للعالم الحديث وأسسها ومن بينها الديمقراطية والحريات». ربما يكون في هذا الربط تبسيط للظواهر، وعدم اهتمام بأوّل الخيط، ففي مرحلة يعتبرها بعض الهواة من الباحثين الحالمين تمثيلا لليبرالية، قبل 1952، نجح الإخوان في تنفيذ بعض الاغتيالات، قبل وجود الحكم العسكري. والنار الإرهابية ـ تحت راية الجهاد ـ تأكل حتى المختلفين في الرأي أو الرؤية، بمن فيهم أهل التيار نفسه؛ ففي عام 1953 قُتل سيد فايز، ابن الميليشيا التي أسسها حسن البنا، في صراع إخواني ـ إخواني على قيادة التنظيم السري. أهداه إخوانه صندوقا من الديناميت في شكل حلوى بمناسبة المولد النبوي، وأدّى الانفجار إلى قتل شقيقه الصغير «تسع سنوات» وطفلة تصادف مرورها تحت الشرفة المنهارة. وتكرر في ستينات القرن العشرين تدريب الإخوان على تفجير الديناميت، هذا ما كتبوه ويرددونه بفخر عن أحداث 1965، ثم نفذت جماعات تناسلت عن الإخوان اغتيالات لوزير الأوقاف حسين الذهبي وفرج فودة وغيرهما، ولم يكن لذلك علاقة بالديمقراطية التي يرونها كفرا.
العظم يرثى حال الفلسفة في مناهج التعليم بالمجتمعات العربية «السبب الرئيسي حسب رأيي يعود أولا إلى غياب الحرية في التفكير والتعبير في هذه الدول». هذا بيت القصيد، وما تحذره وتحظره الأنظمة الدكتاتورية العربية.. عسكرية كانت أم عشائرية، كلاهما يصادر الحق في المعرفة، وأحيانا يجرّم ما يسفر عنه الجدل والاجتهاد ونقد التراث البشري ونقضه، لأن السّير في هذا السبيل إلى نهايته ينتهي بالمطالبة بحقوق كاملة للمواطنة، والمناداة باقتسام الثروة، والحق الطبيعي في السلطة، نزولا على إرادة جماهير لا يستطيع أحد أو تيّار فرض وصاية عليها إذا تمتّعت بحدّ أدنى من الوعي، ويظل هذا الوعي فريضة غائبة، ومعركة يحسم فيها النصر لجيل يستحقه.