خرائط المعنى بعد انفجار التاريخ
ننطلق في هذا المقال من فكرة منهجية أساسية: الدراسات الاستراتيجية، بحكم اهتمامها بالمستقبل، تحتاج أن تتجرّأ على مواجهة اللّامتوقّع واللّايقيني في مجال نظرها. وكي تفعل، عليها أن تخوض في غموض المسافة الواصلة/الفاصلة بين ما يحدث فوق سطح التاريخ من تحوّلات جذرية تمسّ بنية المجتمعات وحدودها وهويتها من جهة (مثلما يحدث الآن على أرض العرب من حروب «كونية» مفتوحة توشك أن تبدّل الجغرافيا العربية)، وما يرافق أو يسبق أو يلحق هذه التحوّلات من تمثّلات ذهنية نظرية وتفاعلات نفسية شعورية تترسّب في الوعي الفردي والجمعي وتصوغ «أخلاقية» و»روحية» الأفراد والمجتمعات (إن بقي متسع للحديث عن مجتمعات في زمن السماء المفتوحة). هذا الغموض (الذي تضطلع بالاشتغال عليه فلسفة التاريخ والفلسفة السياسية وعلم اجتماع الثقافة والأدب بكثير من التشرذم المنهجي) تمثل محاولة استجلائه شرطا لـ»وعي» اللحظة و»عقلها» والامتلاء بمأساويتها أو بوعودها الخفية.
سنحاول بكثير من الجرأة والتواضع أن نستقرئ أثر أو بعض أثر ما يجري فوق أرض العرب (وأرضهم الآن هي قلب العالم) على بنية التفكير والخيال العربي والعالمي بتتبّع ما يجري من تحوّلات على «خرائط المعنى» كونيا ومحلّيا.
انفجار التاريخ وتصدعات المعنى
نحو كينونة (لا هويّة) عربية/إنسانيّة جديدة
ألم يحن الوقت لنشرف على تاريخ العرب الراهن، الهادر المتفجّر من شرفة «وحدة» التجربة الإنسانية، فنخلّصه من سجن خصوصيته المزعومة، وننزّله مكانتَه في خرائط الوعي الإنساني المتحوّل، والمتوسّع في اتجاهات غامضة وغير موطوءة من مساحة الكينونة الإنسانية التي يعتقد البعض أنها ربّما تكون في خطوات صيرورتها الأولى؟
لا ندري على أيّ حالٍ سيخرج العرب (ولا بدّ لهم من خروج مهما كان شكله وثمنه) من هذه التحوّلات الدراماتيكية الجارية على أرضهم بمشاركة كل القوى الفاعلة في العالم: بـ»وعي» جديد و»رؤى» وجودية غير التي دخلوا بها هذا الجحيم التاريخي! أم أنهم سيرتدّون إلى مراحل سابقة من تاريخ تخلّفهم الطويل؟
هل يتّجه العرب نحو «اللاتاريخ»، أم نحو «عدم خصيب» كذاك الذي شهدته أوروبا بعد حروبها الدينية المتوحّشة وبعد غزوها واستعمارها وتدميرها لحضارات وثقافات وشعوب بأكملها (في أميركا بشطريها وفي أستراليا وفي أفريقيا) وبعد الحرب الكونية الثانية بنازيتها وفاشيتها وستالينيتها؟
نطرح هذه الأسئلة ونحن في خضمّ عملية تاريخية حضارية معقّدة يتراكب فيها داخلٌ بمكوّنات قديمة (المعطى القبلي والديني بكل تنويعاته المذهبية والطائفية السياسية والحزبية) وجديدة (إدارة عميقة تمسك بمفاصل السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة الرسمية) من جهة، وخارجٌ لم يعد خارجا بعد أن فرضته العولمة الرأسمالية المحمولة معلوماتيا وماليا وعسكريا إلى كل شعوب الأرض.
خرائط المعنى الكوني
ربما كان علينا أن نستدعي بعض ارتدادات الصّدى المعرفي والوجداني الذي أحدثته الثورة التونسية (مطلقة موجة الثورات العربية التي لا حرج أن نقرّر مصادرةً أنها موؤودة أو منقلب عليها أو مخنوقة أو مسروقة أو متعثّرة…) في مخيّلة رموز الفكر والأدب والفلسفة في العالم حينها (خوان غويتسولو، خوزيه ساراماجو، تشومسكي، إدغار موران….) من حرارة أمل في تجديد الروح الإنسانية المنطفئة بفعل انسداد أنظمة التفكير الحديث التي انتهت إلى برنامج عمل استعماري وحشي تحت عناوين قاتلة للعقل والحضارة من قبيل «نهاية التاريخ» لفوكوياما و»صراع الحضارات» لهنتنغتون، الذي كان ينهل من أطروحات المستشرق الأشهر برنارد لويس منظّر اليمين المسيحي الأميركي. برنامج انتهى إلى شعار»محاربة الإرهاب». وهو شعار تسطيحي ملتبس ومخاتل يكاد يصبح علامة مميّزة للعصر وبوّابة مشرعة على استراتيجيات استعمارية متوحّشة لا ضابط لها من قانون دولي ولا أخلاق إنسانية ولا أعراف تاريخية.
في عالمنا العربي انطوت مشاريع التفكير الكبرى (الجابري والعروي وأركون وتيزيني وحنفي وجعيط) بموت بعض من أصحابها وكفّ هذه المشاريع عن إلهام الأجيال الجديدة، أو بصمتِ من بقي منهم ذهولا
لن يخرج تفكيرنا حول مستقبل منطقتنا عن حدّين بديهيّين للفكر: حدّ صاغه كارل ياسبرز بقوله «إن الإنسان عليه أن يتغيّر ليعيش»، والآخر صاغه إدغار موران بقوله «إن الإنسان لا يخرج من التاريخ وأن البشرية بالكاد تبدأ تاريخها».
لذلك يجدر بنا أن نضع تاريخنا مهما بلغت درجة تراجيديّته ضمن سياق إنساني عامّ. وهو سياق «طفولي» بمعنى ما (كما شرح المفكر الاستثنائي إدغار موران في مؤلفيه «من أجل فكر شمولي» و»إلى أين يسير العالم») وإلا فكيف نفسّر اندفاع «العقلانية» الغربية الأداتية المنغلقة على حقائقها العلمية نحو تطوير إمكانيات التدمير الشامل بما أبلغها مرحلة استنزاف موارد الكون تحت شعار رفع معدّلات النموّ الاقتصادي، وبما «مكّن» القوى الكبرى من وسائل «إنهاء» الحياة على الأرض بضغطة زرّ واحدة (وليس هذا من قبيل الخيال العلمي طبعا لمن يداخله بعض شكّ).
نحن إذن نتغيّر، شئنا أم أبينا، ضمن خريطة كونية للمعنى. معنى يراوح بين عقلانية مغلقة ترى في نموذج التقدّم الرأسمالي خيارا أوحد أمام الإنسانية وترى في الإنسان الفرد كائنا بيولوجيّا محضا يتحقّق بالاستهلاك الأقصى، وعقلانية منفتحة على «حيرة» عدمية تتساءل عن مكانة الذات الفردية في خضمّ هذه الحرب الأبدية بين مكوّنات المجتمع الواحد وبين قوى هيمنة متنافسة وبين قوى احتلال وقوى مقاومة، وحيرة إيجابية تبحث عن منافذ جديدة للتحقّق الفردي في الكون ضمن كيانات جماعية متضامنة ومتوائمة مع الذات ومع الطبيعة.
لذلك تتجه خرائط المعنى كونيا نحو ترسيمات جديدة أهم ملامحها:
-1 بداية اندثار التفكير الفلسفي الكلّي وانحسار عدد المفكرين الكبار الذين يمتلكون وعيا نظريا شموليا بقضايا الإنسان والوجود في كلّيتها.. لصالح موجة اختصاص «علمي» وتكنولوجي تهدف في ظاهرها إلى تحسين الشروط المادية لوجود الإنسان في الكون ولكنها إذ تهتمّ بهذا فإنها -وهي المتحكّم فيها بقوانين الإنتاج الرأسمالي الصارمة- تدمّر في طريقها كل موارد الحياة في الأرض وتستنزفها بجنون بحثا عن الربح الأقصى والأسرع بعيدا عن المراقبة الأخلاقية والضبط العقلاني.
البشرية الآن تشهد انقراض سلالة الفلاسفة والمفكرين الكبار الذين يمتلكون القدرة على النظر للإنسان في كلّيته وفي كينونته الشاملة ويمتلكون أدوات فهم الحاضر، باعتبار أن فهم الحاضر، كما يفسّر باقتدار إدغار موران، هو أشدّ تعقيدا وصعوبة وضرورة أيضا من التفكير في الماضي أو التطلّع إلى المستقبل (ويدعو إلى تجاوز كل منظومات التفكير المغلقة وإلى بلورة منهج تفسيري يعيد تأليف كل فروع العلوم الإنسانية لإنتاج معرفة منتبهة لتعقّد الظاهرة الإنسانية بتناقضاتها المخصبة).
انقرضت سلالة هيجل ونيتشه وميشيل فوكو وهيدجر وبول ريكور وجيل دولوز… على سبيل الذكر، وها أن هابرماس وآلان باديو وإدغار موران وتشومسكي يشرفون على المغادرة ليكتمل مشهد نهاية الفلسفة وتطوى مرحلة خصبة من التفكير الحرّ في الإنسان «داخل الكون»، وفي الكون «داخل الإنسان».
وفي عالمنا العربي انطوت مشاريع التفكير الكبرى (الجابري والعروي وأركون وتيزيني وحنفي وجعيط) بموت بعض من أصحابها وكفّ هذه المشاريع عن إلهام الأجيال الجديدة، أو بصمتِ من بقي منهم ذهولا أمام هول اللحظة ووحشيتها وربما غموضها واستعصائها على أدواتهم التفسيرية.
-2 موجة البربرية (وهي حالة توحّش حقيقي تكاد تكون غير مسبوقة) التي تجتاح العالم لا يمكن مقاربتها بأدوات التحليل السياسي الاستراتيجي التقليدية، فليس ما نشهده اليوم من حروب مدمّرة، على أرض العرب أساسا، حروبَ توسّعات إقليمية تقليدية، وليست حروبا حول مجالات نفوذ بين أقطاب استعمارية عالمية متنافسة، وليست حروبا ثقافية دينية بين مجالات حضارية متنافسة، وليست حروب أحلاف سياسية واضحة الحدود والهويات، وليست حروبا اقتصادية بين مراكز رأسمالية متنافسة… إنها كلّ هذا مجتمعا متراكبا متداخلا، مضافا إليه ما عجزت الإنسانية حتى اليوم عن فهمه من نزوع داخلي (ولا نقول غريزيا) في الإنسان نحو القتل والتدمير والهمجية. نزوع لم تفلح الفنون في احتوائه رغم القفزات العملاقة التي قطعها الخيال الإنساني الذي أنتج إبداعات فذّة ما زالت جمالياتها تثير أحلام ورؤى الإنسانية الغامضة (رسوم ليوناردو دافنشي وسلفادور دالي وفان جوخ وماتيس وبيكاسو…، وموسيقى موتسارت وبيتهوفن وباخ وفاجنر… وروايات دستويفسكي وتولستوي وديكنز وقارسيا ماركيز… وشعر ت.س.اليوت وكفافيس وسان جون بيرس…).
كل الفنون التي أضاءت مساحات غامضة في الإنسان وارتفعت بإنسانيته نحو مراتب رقيّ روحي غير مسبوقة، كلّها لم تفلح في منع انحداره نحو الكارثة. وها هو يسابق الزمن في إبداع عقلانية تكنولوجية أداتية (حديدية بعبارة موران، في إشارة لوسائل الحرب) توشك أن تنهي وجوده على الأرض إن لم تبزغ من هذا الجحيم عقلنة أخلاقية/روحيّة جديدة ربّما توجد بذورها الخفية في عمق هذا الجحيم.
أمّا المجال العربي فقد أخرجه الانحطاط الحضاري ثم الاستعمار القديم والحديث ثم الاستبداد السياسي من دائرة الإبداع الإنساني لفترات طويلة. ولمّا كان حدث الانهيار نفسه يحتوي غالبا بذرة البناء الجديد، فقد اعتملت في كيان العرب إرهاصات الحلم بوجود جديد، فكان حدث الاستعمار نفسه (بما هو أحد مخرجات «الحداثة» الغربية المندفعة نحو كل اتجاهات الأرض بقوانين الاقتصاد والعلوم وبنزعة الهيمنة) محفّزا للتفكير و»فرصةَ ضرورةٍ» لاكتشاف الآخر المتقدّم والقويّ، ولإعادة اكتشاف وتكوين ذات لم تفقد كل أسباب حياتها (ولعلّها لم تستكمل شروط خروجها من تاريخ العالم، فقد ظلّت الثقافة العربية تقيم في ضمير وروح أوروبا -خوفا وثأرا، أو تعايشا واستفادة…- حتى بعد أن غادرتها جغرافيّا بالخروج من الأندلس سنة 1492 ثمّ بانكفاء الوجود العثماني الإمبراطوري إلى وجود تركي قومي حافظ حتى اليوم على «اختلاف» ثقافي عن محيطه الأوروبي) وتتحفّز للتحوّل والاندماج في المسار الإنساني الكوني. فنشأ ما يعرف بعصر النهضة العربية الأولى تحت صدمة حملة نابليون بونابارت العسكرية على مصر (1798-1801)، ثم حركة التنوير والتحديث العربي تفاعلا مع الحدث الاستعماري ثم حركة التحرّر الوطني ثم مسار بناء دولة الاستقلال بنجاحاته وخيباته وما انتهى إليه الآن ممّا يشبه المأزق التاريخي، لننتهي إلى انفتاح هويّتنا الإبداعية على مسارات التفكير والإبداع الإنساني ونشهد حراكا إبداعيا مسّ كل فروع المعرفة والتفكير بازدهار حركة ترجمة في لبنان والعراق ومصر والمغرب أسهمت في حمل العالم إلينا وربطنا بصيرورة التاريخ الإنساني بكل مقتضياتها الإيجابية والسلبية.
لذلك كانت حركة الفكر والاجتماع والسياسة في منطقتنا شبه انعكاس وإعادة إنتاج لتيارات ومدارس الفكر والسياسة العالميين، وشهدنا نفس الصراع والتفاعل بين الفكر الوضعي العلموي والفكر المثالي الديني في شكل تيارات أيديولوجية سياسية ليبرالية واشتراكية وإصلاحية دينية. صراع أبدع في تحويله فنيا وفي وصله بالتجربة الإنسانية الأديب نجيب محفوظ في عمله الروائي الفذّ الذي امتدّ نصف قرن، إلى جانب أسماء أخرى قليلة نسوقها على سبيل الذكر (عبدالرحمن منيف في الرواية ويوسف إدريس في القصة القصيرة ومحمود درويش والماغوط في الشعر).
الثورات خلخلت تاريخ العرب وتاريخ العالم، وكشفت وحدة المصير الإنساني بما يستدعي الآن إعادة التفكير في بنيتين ذهنيتين متقابلتين: واحدة تنتج الاستعمار الهمجي البربري، وأخرى تنتج التعصّب «الديني»
-3 «عولمة المعنى» لتعميمه أو تمييعه: شهدت نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة ثلاثة أحداث/تحوّلات كبرى غيّرت تضاريس الفكر الإنساني وهي بصدد رسم خرائط جديدة للمعنى.
أوّلها انهيار جدار برلين ومن بعده الاتحاد السوفييتي ومن ثمّ كامل الفكرة الاشتراكية كأيديولوجيا سياسية وسقوط القطبية السياسية الثنائية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وتعمّم النموذج الرأسمالي المالي (المحمول معلوماتيا) كخيار اقتصادي واجتماعي وحيد ما لبث أن التحقت به حتى بقية الدول التي لم تتخلّ رسميا عن الشعار الاشتراكي مثل الصين وكوبا، وكنّا نظنّ أن تراجع الحروب الأيديولوجية العبثية سيمنح البشرية فرصا أكبر للاستثمار في تعميم ثمار التقدّم التكنولوجي المذهل الذي تشهده البشرية اليوم، لولا أن تبيّن لاحقا وهم هذا الاعتقاد.
ثانيها أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تبعها من إعلان القوة الأكبر في العالم عن «الحرب على الإرهاب» الإسلامي ممثّلا في تنظيم القاعدة الذي نسبت إليه أكبر عملية استهداف لأميركا على أرضها سنوات قليلة بعد إطلاق فضائيات إعلامية (عربية بالصدفة!) تقوم بالتصوير المباشر للحروب وتنقل خطابات ورسائل زعماء الحرب الجدد على شاكلة بن لادن ثم الظواهري من أماكن لا يصل إليها غير هذا الإعلام «الشبحي»، قبل أن تصبح لهذه التنظيمات دولة وأرض وجيوش وأسلحة متطوّرة، تنتجها وتبيعها وتتحكم في مسارها قطعة قطعة مراكز التصنيع الحربي في الغرب الرأسمالي، وتصبح محاربتها، باستباحة حدود العرب أساسا وبتجاوز كل الأعراف والمؤسسات الدولية، «برنامج عمل» موحّد لتحالفات دولية سياسية وعسكرية لا يجرؤ أحد على معارضتها، وهي الآن تحيل أرض سوريا وليبيا والعراق واليمن إلى هشيم في حين تنتظر باقي دول العرب على حافة هذا الجحيم. بالتوازي مع هذا الجنون البربري يجري تعميم مصطلح الإرهاب إعلاميّا والنفخ في أدوات الحروب الدينية والعنصرية بكل ما يصحبها من تسطيح نظري وقتل لملكة التفكير العقلاني النقدي في ظلّ إغراق إعلامي يستهدف تمييع المعنى وتشريده في غياهب طوفان الفوضى الاتصالية المنفلتة من كلّ ضبط أخلاقي. فوضى إعلامية مبرمجة إلى حدّ أنها لا تغطّي بصورة واحدة مظاهرات مليونية في «وال ستريت» تدعو للثورة على الاستعمار المالي الحديث.
ثالثها ثورات عربية انطلقت من تونس أواخر 2011 وبشّرت بنهاية أنظمة سياسية رهنت تاريخ العرب ومستقبلهم لدى عائلات تتوارث الاستبداد والفساد والعمالة، وحشدت إرادة شعبية حيّدها القمع عقودا في معركة بناء ديمقراطية حصل شبه إجماع وطني على أنها ضرورة تاريخية لاستئناف مسار النهوض العربي المعطّل منذ استقرار الدكتاتورية في أرض العرب. غير أن هذا المسار سرعان ما تمّت محاصرته واحتواؤه بنفس الأدوات التي صعّدت «فلسفة» محاربة الإرهاب الذي أريد له أن يكون «إسلاميا» بتكوين وتأطير وتمويل وتسليح شباب عربي يعيش على هامش الاقتصاد والثقافة والسياسة في مجتمعات راكدة منذ عقود.
هذه الثورات خلخلت تاريخ العرب وتاريخ العالم، وكشفت وحدة المصير الإنساني بما يستدعي الآن إعادة التفكير في بنيتين ذهنيتين متقابلتين: واحدة تنتج الاستعمار الهمجي البربري، وأخرى تنتج التعصّب «الديني» الذي سبقتها الأولى في إنتاجه وترجمتْه في حروب تطهير ديني في أسبانيا وأميركا قبل أن تنجح هي نفسها في خلق ترياقه بعناء ولكن بقدر كبير من النجاعة. ترياق اسمه «فلسفة حقوق الإنسان»، قبل أن تعود موجة الأصوليات العنصرية الحالية لتكتسح المجال الحضاري الأوروبي والعالمي.
في خضمّ هذا الحراك التاريخي المفتوح على اللاّيقين وهذا التشكّل الجديد لتضاريس الجغرافيا السياسية وجغرافيا الأفكار، يجد العرب، وفي مقدمتهم تونس مطلقة شرارة هذا التغيير، أنفسهم أمام طريقين: طريق الانكفاء على وهم الخصوصية الحضارية و»الأمة ذات الرسالة الخالدة» وتغذية مناخ التعصّب والانقطاع عن الإنسانية الكونية بدعوى الأصالة، بما يغذّي مناخ الاحتراب الداخلي فيها وبما يوفّر لمراكز الاستعمار مبرّرات إضافية لاستهدافهم وربّما إبادتهم، أو طريق المساهمة الحرّة والفاعلة والواعية في تسديد بوصلة الفكرة الإنسانية نحو مزيد من الحرية المنفتحة على مجاهل الكينونة الإنسانية، مجاهل لا يمكن إضاءتها إلاّ بخيال حرّرته فنون وآداب وعلوم.. ما زال حظّ العرب منها يسيرا جدّا.