سيد القمني غاضبا
قد يكون المفكر والباحث الشهير سيد محمود القمني محقاً في العزوف عن النقاش، كما اشترط على محاوِرته من مجلة الجديد، لأن كثيرين يمكن أن يناقشوه من باب الإيمان والإلحاد، فيصبون زيتهم على نار الحرب المعلنة عليه، والدائرة، منذ زمن، بين الإسلاميين والعلمانيين، على افتراض أن العلمانيين ملة واحدة، ملحدة ومناهضة للإسلام، كما يعتقد الإسلاميون، وبعض ديمقراطيي صندوق الاقتراع، من السوريين خاصة.
وقد اكتوى القمني بهذه النار حتى باتت حياته على المحك. ولعل بعض من يناقشونه من مواقع علمانية يحمِّلونه وزر اختزال العلمانية في مناهضة الدين بوجه عام ومناهضة الإسلام بوجه خاص، من دون أيّ تقدير لقيمة النقد وحرية التفكير، وحرية الرأي والضمير، فيمنحون الإسلاميين مسوّغاً إضافياً للافتراء عليه وتكفيره وهدر دمه.
ولكن الحوار والنقاش «فسحة أخلاقية» للتواصل والتذاوت، وعصف الذهن، وتجديد الفكر والثقافة، ومعرفة الذات، والتشارك في إنتاج الحقيقة، لا للإقناع أو إفحام الخصم. ولا شرط على من يناقش أو يحاور سوى التزام مبادئ الحوار وأخلاقياته، أو إيتيقا النقاش.
لا أدّعي أنني على قدر سيد محمود القمني، أو في منزلته ومقامه، بمن هو «المعلم الأكبر»، كما يصف نفسه، تيمناً بالمعلم الأول. ولكن، من حقّي أن أناقش أفكاره ومواقفه، ولا فصل بين هذه وتلك، بصفتي واحداً من قرائه والمتضامنين معه في محنته، بغض النظر عن مدى اتفاقي أو عدم اتفاقي مع بعض أفكاره، لأنني أعتقد أن منع النقاش و»انقطاع التنافس بين الأفكار كارثة عقلية».
في كتابه «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» يذهب القمني في ما يسميه «البحث العلمي» مذهباً غريباً، هو البرهنة على عدم وجود من ليس موجوداً، في التاريخ، النبي إبراهيم، لكي يضعه في سلة «أساطير الأوّلين» القرآنية. إذ لا طائل تحت نفي وجود إبراهيم الخليل ونفي نبوته، فالأسطورة موجودة في التاريخ، بصفتها هذه، ومؤثرة فيه، وراسخة في وعي مليارات اليهود والمسيحيين والمسلمين، وفي لاوعيهم. والأهم من ذلك أن نفي وجود إبراهيم الخليل في التاريخ، لا ينفي وجود اليهودية والمسيحية والإسلام فيه. ربما ظن القمني أن البرهنة على عدم وجود النبي إبراهيم تنسف تاريخية الديانات الإبراهيمية جميعاً، كأن وجود النبي إبراهيم هو علة وجودها، وكأن البرهنة على أسطورية الديانات الإبراهيمة ونفي تاريخيتها تكفيان لتفنيد الظاهرة الدينية، أو لإخراج الديانات الإبراهيمية من سياقها التاريخي، نعني سياق الظاهرة الدينية، فيغدو التاريخ في الحالين تاريخ الأشياء، لا تاريخ البشر، الذين «يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم» بتعبير كارل ماركس.
يقول القمني «فإننا نجد الأديان الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) في جانب وعلم التاريخ في جانب آخر؛ حيث نجد أن هذا العلم لا يعلم من وثائقه الأركيولوجية والآثارية شيئاً البتة عن النبي إبراهيم. ورغم اتفاق القصة التوراتية مع قصص الإخباريين المسلمين حول موطن النبي إبراهيم الأصلي، والتي تقول إنه هاجر من موطنه الأصلي في بلاد الرافدين إلى فلسطين، وأنه زار مصر زيارة مهمة وخطيرة، وكانت هذه الزيارة لمصر أساساً للثروة الطائلة التي تمتعت بها ذريته فيما بعد» (ص16).
أليس فرض الشريعة الإسلامية على غير المسلمين أو التهديد بذلك موقفاً إسلاموياً متطرفاً، حاوله الإخوان المسلمون في مصر وكانت عواقبه وخيمة على الإخوان المسلمين أنفسهم وعلى مصر والمصريين؟ الغضب لا يشفع لمفكر مثل القمني
جاء هذا الكلام تحت عنوان «التأسيس». فأطروحة التأسيس المركزية تقول «الأديان الثلاثة في جانب وعلم التاريخ في جانب آخر»، وهي أطروحة لا تختزل علم التاريخ وتخفِّضه إلى أركيولوجيا فقط، بل تحذف الأديان الثلاثة من علم التاريخ، وتضعها في جانب آخر (؟)، في حين لا شيء يفلت من التاريخ، ولا شيء من إنتاج التاريخ يبقى على حاله. الدين ظاهرة تاريخية لا تزول إلا بزوال الأسباب التي أدت إلى نشوئها، حسب ماركس وغيره، وهذا ما يفترض أن يكون لب الحديث. و»الروح الذي يسري في الدين هو الروح الإنساني»، القابل للتحقق في العالم وفي التاريخ، حسب ماركس أيضاً.
نحن نتبنّى هذه الأطروحة الماركسية بقوة، لأنها تؤسس مشروع نقد الدين، الذي لم يبدأ عندنا بعد، للانتقال إلى نقد السياسة. نقد الدين شرط ضروري ومقدمة لازمة لنقد السياسة في بلادنا، لتعرية جذور الاستبداد والفساد والعنف في العلاقات والبنى البطريركية والعقائد التي تبطّنها والسلطات الشخصية التي تنتج منها، ونقد الأيديولوجيات التفاضلية والإقصائية التي حلت محل الدين، وتقوم بأسوأ أدواره، نعني نشر التعصب والتطرف والتمييز وقطع الروابط الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية، التي تشد الناس بعضهم إلى بعض. هذا لا ينفي البعد الميثي (الأسطوري) للدين، بتعبير محمد أركون، والأساطير من أجمل نتاجات العقل البشري، الذي لا يزال ينتج الأساطير، والأوهام أيضاً.
القول بأن الروح الإنساني هو الذي يسري في الدين، لا يضفي على الروح الإنساني قيمة إيجابية مطلقة؛ فالإنسانية واللاإنسانية حقيقتان بشريتان، والنكوص إلى الهمجية، كما هي الحال عندنا، في سوريا وغيرها، حقيقة تاريخية. ولا يضفي، من ثم، على الدين قيمة إيجابية مطلقة، ولكنه يؤكد أثر الدين في حياة البشر وفي تاريخهم، إيجابياً كان هذا الأثر أم سلبياً.
إذا عطفنا كتاب النبي إبراهيم على كتاب «الحزب الهاشمي»، وأطروحته المركزية تقول إن النبي محمد ترجم حلم جده عبدالمطلب في توحيد القبائل العربية أو تقريشها وإقامة الدولة العربية التي ستغدو إمبراطورية مترامية الأطراف لا أثر للإسلام في قيامها، لأن الإسلام في جانب وعلم التاريخ في جانب آخر. وإذ لا يمكن نفي أثر الإسلام ودوره التسويغي في ذلك فإن أطروحة القمني، تقدم سنداً «تاريخياً» للشطر الثاني من أطروحة حسن البنا القائلة إن «الإسلام دين ودنيا ودولة.. مصحف وسيف». وفي «حروب دولة الرسول» لا نقع إلا على أفعال السيف، التي ترفع الحجاب عن حقيقة الحزب الهاشمي السياسية.
لعلّ عزل الإسلام والتراث الإسلامي عن الظاهرة الدينية الكونية وتاريخها، وعدم التفريق بين الدين، بصفته ميلاً بشرياً عاماً إلى التقديس والتأليه، وبين المذاهب الدينية المختلفة والمتخالفة، التي يدعي كل منها بأنه الــ»دين»، بأل التعريف الجنسية، هو أساس البلبلة في الدراسات الإسلامية وغيرها، حتى ليبدو كل مذهب من المذاهب الدينية عالماً ماهوياً قائماً بذاته.
لوحة: دارين أحمد
ثمة صلة بين أوهام المركزية الإثنية وبين ادّعاء كل جماعة بأن دينها هو الدين الحق، وغيره كفر وشرك. فالبشر هم الذين أنتجوا الدين، وليس الدين هو ما أنتج البشر. هنا تلزم العودة إلى الاغتراب، بوصفه علَّة التقديس والتأليه، أو علَّة التدين، عند لودفيغ فيورباخ، التي لا تزال ماثلة في معلولها، وبوصفه علَّة ظهور الملكية الخاصة، عند كارل ماركس، التي لا تزال ماثلة في معلولها أيضاً.
ويؤكد ذلك التضامن التاريخي المطَّرد بين الدين والملكية الخاصة، وهو أساس التضامن التاريخي المطَّرد بين الدين والسلطة. إذ الدين سلطة معنوية ناعمة، تحظى بمقبولية طوعية، مع عدم استبعاد أشكال القسر السياسي المعروفة في التاريخ، لفرض عقيدة الغالب بقوة السيف، على نحو ما عُرف عن الفتوحات الإسلامية والحروب الدينية. لذلك يعدّ نقد الدين مقدمة لازمة لنقد السياسة. ولذلك كانت السلطات الشخصية والنظم المستبدة في حاجة إلى الدين، لفرض سيطرتها، على مر التاريخ. (راجعوا وصايا الملوك).
أردنا مما تقدم أن نشير إلى الطابع السجالي والبعد الأيديولوجي (العلماني، القومي، اليساري..) لأعمال سيد القمني، وموقفه من الأديان الثلاثة، لا من الظاهرة الدينية. فنحن لا نستطيع أن ندرج أعماله في مدرج نقد الظاهرة الدينية أو نقد الدين، على نحو ما رأينا ذلك عند فيورباخ وماركس، على وجه التحديد.
يؤيدنا القمني نفسه في هذا إذ يقول «في الفترة الأخيرة، وجدت عددًا كبيرًا من المسيحيين في مصر ينشرون على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي نبوءات للمدعو زورًا وبهتانًا بالنبي إشعياء، ليقولوا إن نبوءاته تتحقق الآن. عندما أجد في الظروف الصعبة التي تمر بها بلدي أناسًا شامتين ينشرون هذا السفر الذي يتنبأ بخراب مصر من جميع الجوانب وجفاف النيل وقتل المصريين بعضهم البعض، والقول إن مصر إلى دمار حتى لا يعود لها رئيس، وفي ذلك الوقت ستعود مصر للربّ الحقيقي يهوه. من ينشر هذا الكلام لا يجب أن يقول إن الإسلام فقط فيه إرهاب وهو متمسك بسفر إشعياء والتوراة وهما أصل الإرهاب. من يعتمد إشعياء والتوراة يكون أسوأ مما جاء في تاريخ الإسلام من حروب فاتكة، وما دامت هذه مرجعيته لا يجب أن يغضب حين يتم إخضاعه لحكم إسلامي يفرض عليه الجزية». نعتقد أن هذا سجال غاضب. وقد أشرنا غير مرة إلى اقتران الأيديولوجيا بالسجال العقيم وازدراء الخصم وإهانته، واقتران الفكر بالنقاش والحوار.
ويضيف «عندما كنت أنقد التراث الإسلامي كان يصفّق لي المسيحيون، ولكن عندما اقتربت من تراثهم المسيحي شنّوا هجماتهم الضارية ضدي، مع هذا، أنا لم أقترب بعد من نقد الأناجيل، وقد حذرهم تلاميذي من أن أقترب من تلك المنطقة. من يضع الدين قبل الوطن هو ذميّ وليس أكثر من ذلك، ويحتاج لمن يتكلم معه اللغة الإسلامية؛ اركع يا ذليل لسيدك المسلم وسأطبق عليك الشريعة ما دمت طالبًا لمصر خراب إشعياء». قد يبدو من قبيل اللؤم أن نتساءل: من الذي أو ما الذي حرض القمني على «نقد التراث الإسلامي»؟ من المؤكد أنها أحوال المسلمين، وظهور الجماعات السلفية والأصولية والجهادية، التي عملت على هدر الوطن المصري والمواطنة المصرية، وأساءت إلى الإسلام والمسلمين. فلا يخالجنا شك في غيرة القمني على مصر والمصريين كافة، وعلى العرب والمسلمين كافة. ولكن قوله «اركع يا ذليل لسيدك المسلم» يتناقض مع تمنّيه لو أن عمرو بن العاص لم يفتح مصر، ولو أن الإسلام لم يدخل إليها.
لكننا نربأ بالقمني أن يتبنى «اللغة الإسلامية» وأن يصدر عن «حميّة إسلامية»، أو عصبيّة إسلامية، بل جاهليّة إسلامية، إذا جاز القول، لا تختلف عن جاهلية الإسلامويين المتطرفين وجهلهم «اركع يا ذليل لسيدك المسلم، وسأطبق عليك الشريعة، ما دمت طالباً لمصر خراب إشعياء». أليس فرض الشريعة الإسلامية على غير المسلمين أو التهديد بذلك موقفاً إسلاموياً متطرفاً، حاوله الإخوان المسلمون في مصر وكانت عواقبه وخيمة على الإخوان المسلمين أنفسهم وعلى مصر والمصريين؟ الغضب لا يشفع لمفكر مثل القمني.
سأغامر بالقول، إن هذا ليس كلام مؤرخ أو مفكر، بل كلام مناضل أيديولوجي، تحلّ الأيديولوجيا في ذهنه محلّ الدين. فلا أحد يعرف ما الذي كان سيحدث لو أن عمرو بن العاص لم يدخل مصر، أي لو أن الإسلام لم يدخل مصر من طريق «الاحتلال». والقمني يعلم أكثر من غيره أن )لو أن..) لا تعمل في التاريخ
ثم كيف لمواطن مصري، يدرك مبادئ المواطنة وقيمها، أن يمنّ على المصريين المسيحيين بالدفاع عن حقوقهم، «حين كانت الكنيسة مصابة بخرس لساني وشلل رباعي»!؟ الغضب دليل سيّئ ومرشد أعمى في الحياة اليومية، فما بالك في الفكر والسياسة! ثم لماذا يلوم القمني المسيحيين ما دام هو نفسه يشعر أن «الشارع الآن (إسلامي ومسيحي) وصل إلى أقصى درجة من الانهيار الأخلاقي»، بسبب هدر المواطنة وهدر الوطن. وأن «قيم الوطن غابت عند المواطنين وعند الحكام، (ويخص) بالذكر، الحكام الحاليين، ومن ثم غابت قيمة العلم». وكان ينبغي أن يقول وضاعت قيمة الدين أيضاً، لأن الدين هو أحد المعايير الثلاثة التي يقترحها القمني على سلّم القيم، الذي يمكن أن يصعد المجتمع من خلاله، وإن كان الدين في المرتبة الأخيرة، «لتعدد مذاهبه وطوائفه». الدين، إذن، أحد معايير صعود المجتمع، وإن لم يكن المعيار الأساسي المحجوز للوطن، ويليه العلم، ولكنّه أحد المعايير على سلّم القيم، فلا ندري كيف يمكن نسل الدين من التراث الإسلامي، الذي يفككه القمني وصولاً إلى نواته الأسطورية، ويريد أن ينفيه من علم التاريخ، بالبرهنة على عدم وجود إبراهيم الخليل فيه.
ولا ندري كيف يتّسق سلّم القيم، الذي يأتي الدين في أدنى درجاته، مع قول القمني «تمنيت لو أن عمرو بن العاص لم يدخل إلى مصر؛ أعتقد أن تاريخ المنطقة كلها كان سيتغير تمامًا آنذاك، فمصر عندما كانت تُحتل كان ذلك يتم على أيدي متحضرين، فالمتحضر الأقوى يُقدّر حضارة المتحضر الأضعف أمامه فيضيف له ولا يمحو حضارته. عندما دخل الاسكندر مصر أبقى على جيشه خارجها وكانت مصر في حالة انهيار تامة لكنها كانت بلد الحضارة، فنزل بقارب وطلب أن يحج لآمون، هذا المثقف الذي علّمه أرسطو لم يقل إما زيوس أو الجزية أو القتل. الروم أيضًا أضافوا لمصر وأكملوا المكتبة بعدما تم حرقها، (ماذا عن نابليون؟) أما عمرو بن العاص وقف على الحدود وطلب ثلاثة أشياء إما الإسلام أو الجزية أو القتل، وقتها لم يكن القرآن قد جُمِع بعد، كما أن حفظة القرآن منعهم عمر بن الخطاب من الخروج للغزو، والنصائح الجميلة للقوات الغازية بألا تقتل قعيدًا أو كبير السن أو عجوزًا قتلتها الاستثناءات «إلا من شارك ولو بالمال أو الأدوات أو الطعام أو التحريض ضد الغزاة العرب»، ومن ثم «كان يتم قتل كل من يحاول الدفاع عن أهله أو بيته حتى لو كان قعيدًا».
سأغامر بالقول، إن هذا ليس كلام مؤرخ أو مفكر، بل كلام مناضل أيديولوجي، تحلّ الأيديولوجيا في ذهنه محلّ الدين. فلا أحد يعرف ما الذي كان سيحدث لو أن عمرو بن العاص لم يدخل مصر، أي لو أن الإسلام لم يدخل مصر من طريق «الاحتلال». والقمني يعلم أكثر من غيره أن (لو أن..) لا تعمل في التاريخ. التاريخ توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى. ولا سبيل إلى رد التاريخ على أعقابه بسحر «لو أن..». أجل هذا موقف أيديولوجي لا علاقة له بعلم التاريخ، ولعله نوع من رد الفعل الشعوري على سياسات الإخوان المسلمين ومواقفهم.
يقول القمني «الإسلام المعمول به حاليًا والمتداول بين الناس في العالم الإسلامي أشدّ خطرًا على العالم ويجب التخلص منه»، هكذا صحح القول المنسوب إليه بأن الخطر الحقيقي على العالم هو الإسلام ويجب التحرك للتخلص منه، وأن الأديان كلها حلت مشكلتها مع الحداثة عدا الإسلام.. أي إنه قال «الإسلام المعمول به حالياً والمتداول بين الناس.. هو الخطر، لا الإسلام بلا تحديد أو تعيين»، وهذا جيد. ولكنه، للأسف لم يصف لمستمعيه ولنا الإسلام غير المعمول به حالياً، وغير المتداول بين الناس في العالم الإسلامي. ولنا أن نفترض أنه إسلام نقيّ لا تشوبه شائبة تعصّب أو عنف أو إرهاب، ولعله غير أسطوري أيضاً. يكون الدين كما يكون أهله، ولا يكون الناس كما يكون الدين. الإسلامويون أيضاً ينتقدون الإسلام المعمول به حالياً والمتداول بين الناس، ولذلك يتنطّعون لهداية المسلمين، قبل غيرهم، إلى «الإسلام الصحيح»، غير المعمول به وغير المتداول بين الناس، ويجاهدون في سبيل ذلك، ويجيزون لأنفسهم تكفير سائر المسلمين، علاوة على غير المسلمين.
سنخالف سيد القمني وكثيرين غيره بالقول إن الإسلام المعمول به اليوم والمتداول بين الناس متصالح مع الحداثة ومنجزها التاريخي، ولا سيما الدولة الحديثة، باستثناء الإسلام السياسي، منذ ظهور جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا. يمكن القول إن المسلمين الذين يمارسون عباداتهم وشعائرهم، كسائر البشر، باستثناء المتطرفين منهم والجهاديين، متصالحون مع الحداثة ومنجزها التاريخي. فالمشكلة ليست في الإسلام، وليست في المسلمين، بل في جماعات الإسلام السياسي الدعوية والجهادية، التي لا تستنفد الإسلام، ولا تستنفد المسلمين. أي إن المشكلة، من هذا الجانب، أيديولوجية-سياسية بالتحديد، لا تختلف، في الجانب الإسلامي، عن الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) والتخويف به والتخويف منه، في الجانب المقابل. ولكنها، من جوانبها الأخرى، مشكلة مجتمعات بطريركية وسلطات مستبدة وأنظمة تعليم ملتبسة ومؤسسات فاسدة، لا تزال كلها دون الحالة المدنية، التي بسطها فلاسفة العقد الاجتماعي، وتحققت في البلدان المتقدمة، إلى هذا الحد أو ذاك.
يطالعنا القمني بسلسلة من الأحكام العامة القطعية من نوع:
1- «الغرب لديه مشكلة مع الإسلام»، ومن البدهي أن يُقابَل هذا الحكم بحكم آخر: الإسلام لديه مشكلة مع الغرب. الغرب والإسلام في الحكمين لا يعيِّنان شيئاً، لشدة عموميتهما وغموضهما، حتى كأن الغرب والإسلام جوهران أو ماهيتان ثابتتان، معلقتان فوق التاريخ. ثمة قوى محافظة وعنصرية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية وغير الأوروبية أيضاً تتغذى على الكراهية، تقابلها في العالمين العربي والإسلامي قوى محافظة وعنصرية، تتغذى مثلها على الكراهية، لا هذه تمثل «الإسلام» ولا تلك تمثل «الغرب»، بل تمثل مصالح لا تحتاج إلى كد الذهن لمعرفتها.
قلة من المفكرين والباحثين يتوفرون على مثل هذه الشجاعة. ثمة كثيرون يعيدون طباعة كتبهم القديمة، من دون أيّ تعديل، مع أنهم غيّروا آراءهم ومواقفهم، فلا تعرف من هم على وجه التحديد
2- «زيدوا حقن الإسلاموفوبيا في العالم وعرِّفوا العالم أنه في خطر ساحق». القوى المحافظة، التي أشرت إليها، تعمل على ذلك بمثابرة واجتهاد، وليست في حاجة إلى نصيحة القمني، التي لا يمكن أن يؤدي الأخذ بها إلا إلى زيادة الإرهاب في العالم، وتوسيع رقعته. من أعجب العجب أن يدعو مفكر عربيا كان أم غير عربي، مسلماً كان أم غير مسلم، إلى زيادة حقن العالم بالإسلاموفوبيا، أو بالعنصرية أو بأيّ قباحة من هذا النوع.
3- «أي مسلم يعتقد أن دينه صالح لأيّ زمان ومكان فهو إرهابي بالضرورة». ماذا عن المسيحي أو اليهودي أو الطاوي الذي يعتقد أن دينه صالح لكل زمان ومكان. ما من مؤمن لا يعتقد مثل هذا الاعتقاد؛ إذن جميع المؤمنين إرهابيون. لا يمكن فصل تديّن المؤمن عن تصوره عن الدين، دينه النقيّ من كل شائبة، وإلا لهجره واسبتدل به غيره، أو لشلك في الأديان جميعاً. ثمة مسافة شاسعة بين من يعتقد أن دينه صالح لكل زمان ومكان، وبين من يعتقد أو يدّعي أن «الإسلام هو الحل»، أو المسيحية هي الحل.
نسأل سيد القمني: هل تمكّن العلم حقاً من إيقاف الكوارث، التي كانت تصيب البشرية رغم وجود الأرباب؟ هل حال العلم دون نشوب حربين عالميتين وحروب بينية وسلسلة طويلة من النزاعات المحلية هنا وهناك، أم إن علوماً مدت الحروب والنزاعات بما يزيد من ويلاتها وكوارثها؟
لكي لا يظن أحد أننا ننتزع كلام القمني من سياقه، هذا هو قوله حرفياً «الغرب لديه مشكلة في التعاطي مع الإسلام، أقول لكم زيدوا حقن الإسلاموفوبيا في العالم وعرّفوا العالم أنه في خطر ساحق، أيّ مسلم يعتقد أن دينه صالح لأيّ زمان ومكان فهو إرهابي بالضرورة، عندما يتبع أدنى ما فيه ينفذه كالزيّ واللحية، هذا رجل إرهابي. كل الأديان حلّت مشكلتها مع الحداثة إلا الإسلام لأنه يرفض التخلي عن فكرة الصلاحية لكل زمان ومكان، المشكلة أنك تواجه مجتمعًا بكامله، حكومات تريد المجتمع هكذا وتريد أن تقتلك أو تحبسك، عندما عجزت الأديان عن حماية البشرية وظهر منهج التفكير العلمي تمكن العلم من إيقاف الكوارث التي كانت تصيب البشرية رغم وجود الأرباب، ووجد أن المشاكل لن تحل سوى بالعلم».
أخيراً نكبر في القمني مقدرته على نقد ذاته، كما في قوله «المراجعات الفكرية سمة رئيسية لأيّ باحث حقيقي، فالثبات على المبدأ ضد مفهوم البحث. قد أتبنى فكرًا ما وأجد براهين أخرى فيما بعد فأنتقل إلى فكر آخر أكثر صحة. مثلًا.. كتاب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» واحد من عثراتي الكبرى، كنت آنذاك باحثًا مبتدئًا يملؤني الغرور، تحدثت فيه عن هجرة مصرية في نهاية الدولة القديمة وسقوطها وتفتت مصر وانتشار الاستقلالات المحلية، وعثرت في البحرين على (أبو هول مصري وحيّة مصرية من الذهب)، واعتبرتهما من الدلائل على هذه الهجرة والحضور، كان هذا نوعًا من الفانتازيا. هذا الكتاب الذي أبهر الكثيرين أعتبره كتابًا شديد التواضع، ولم أعد طباعته لهذا الخطأ الذي اكتشفته أثناء عملي في كتاب «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة». (لقد تناولنا هذا الكتاب من زاوية أخرى، لعلها الزاوية الإبستيمولوجية أو السببية الشكلية: احذف إبراهيم الخليل تتهيَّر عمارة الأديان الإبراهيمية).
يضيف القمني «أيضًا، هناك فصل في كتاب ‘الأسطورة والتراث’ أخطأت فيه؛ ففي باب ‘الأساطير التوراتية’ قلت إنهم سرقوا من التراث البابلي والفرعوني، الأدلة التي قدمتها سليمة، لكنني في ذلك الوقت كنت عروبيًا ناصريًا بشكل متزمّت فكنت أكره اليهود باعتبارهم خونة التاريخ وغيره، وكتبت بهذه العقلية أنهم سرقوا لكن الحقيقة أنها لم تكن سرقة، كان من الطبيعي في ذلك الوقت أن تتلاقح الأفكار. مثل هذه الأخطاء اكتشفتها بنفسي ولم ينبّهني أحد إليها، لكن ما أسمعه من ردود أفعال ليس سوى هراء لا قيمة له».
قلة من المفكرين والباحثين يتوفرون على مثل هذه الشجاعة. ثمة كثيرون يعيدون طباعة كتبهم القديمة، من دون أيّ تعديل، مع أنهم غيّروا آراءهم ومواقفهم، فلا تعرف من هم على وجه التحديد، أو يعدّلون خلسة من دون أيّ إشارة إلى دواعي التعديل.
نشاطر القمني غضبه النيِّر، على نحو ما وصف ياسين الحافظ بعض الغضب، ولكننا لا نشاطره طريقة التعبير عن هذا الغضب. ونعتقد أن من يملك شجاعة نقد الذات بهذه الثقة والوضوح لا يعني قوله «من يناقشني لا بد أن يكون على قدري، أنا المعلم الأكبر ولا أقبل مثل تلك المناقشات».