العقل وحقوق البشر
بداية في الأخير ارتأيت إبداء الرأي حول بعض ما ورد في هذا الحوار أولا تنفيذا لالتزام أعطيته لمجلة «الجديد»، وثانيا لأنني فكرت بأنه من حق القارئ إبداء رأيه فيما قرأه، خصوصا ونحن نعيش في زمن صار من المسلّم به أن النص عندما يصبح منشورا يخرج عن سلطة مؤلفه ويحتك بسلطة القارئ الذي يمثل إبداء الرأي حقا من حقوقه.
والواقع أنني لا أختلف كثيرا مع سيد القمني فيما يخص الأهمية الجوهرية للعقل، عدا أنني أتحفظ في عدم الربط بينه وبين مبدأ الحرية، الأمر الذي جعل سيد القمني لا يقبل بالرأي الآخر، وجعل العقل لديه يتحول، على ما بدا لي، إلى أداة قمع وعنف وحرمان الآخر، المخالف له في الرأي، من حريته. وهكذا يرى المفكر المصري بأن «أي مسلم يعتقد أن دينه صالح لأيّ زمان ومكان فهو إرهابي بالضرورة، عندما يتبع أدنى ما فيه وينفذه، كالزي واللحية، هذا رجل إرهابي». والإرهابي، كما نعرف يجب سجنه وحتى قتله.
في اعتقادي أن مثل هذا المسلم ليس إرهابيا من الواجب محاربته، طالما أنه لا يحاول فرض رأيه بالقوة على غيره ولا يمارس العنف انطلاقا من معتقده. مثل هذا الموقف الذي اتخذه سيد القمني يقع فيه المرء عندما يتحول العقل لديه إلى مطلق، إلى ما يشبه الإله الجديد الذي لا تعلو عليه أيّ سلطة أخرى. وقد وقع المعتزلة في مثل هذا الخطأ عندما قاموا بسجن الإمام أحمد بن حنبل ومارسوا عليه التعذيب، لا لشيء سوى لأنه خالفهم في الرأي بشأن مسألة خلق القرآن. لا يمكن تأسيس العقلانية على السيف والعنف، يعني على نفس الوسائل التي يستخدمها خصوم العقل.
مثل هذه الانحرافات تقع عندما نفصل العقل عن أيّ سلطة أخرى مكمّلة له، ونجعله مكتفيا بذاته، لا تحكمه لا الأخلاق ولا ما يقوم مقام ذلك. من وجهة نظري، ينبغي الربط بين العقل وحقوق الإنسان. إن غياب مثل هذا الربط هو الذي جعل، على ما يبدو، سيد القمني لا يأبه بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي ارتكبها الجنرال السيسي طالما أن ضحاياها هم «أعداء العقل»، أعني الإخوان المسلمين. سيد القمني انقلب على السيسي فقط لأنه فوجئ به «قد عيّن نفسه واليًا على ولاية إسلامية». مثل هذا العقل الخالي من الإنسانية يخيفني شخصيا، لأنه يتحول إلى آلة باردة خالية من أيّ وجدان إنساني.
والحقيقة أن أيّ فصل بين العقل والوجدان يؤدي إلى تعطيل الوظيفة الإيجابية والخلاقة للعقل، لهذا كانت الفلسفة تعني عند اليونان، ليس الحكمة، وإنما محبة الحكمة، فالعقل هنا يتناغم مع الوجدان، لأن المحبة تنتمي إلى ملكة الوجدان. والواقع أن العالم العربي لا يشكو فقط من غياب في العقل، بل أيضا من قصور كبير في الوجدان الحضاري، من قبيل حب الوطن، حب العدل، حب الحقيقة، حب الحرية… إلخ. وهذه العواطف الخلاقة لا يمكن غرسها بوسائل قائمة على وسائل الإكراه والقمع، ولكن من خلال الحوار والنقاش والقبول بوجود الرأي الآخر.
ولذلك يبدو لي بأن انتظار «دكتاتور» من نمط مصطفى كمال أتاتورك أو بورقيبة لتكريس العقل في عالمنا العربي ليس غير نوع من إعادة تأهيل ثقافة المهدي المنتظر، أعني بذلك شكلا آخر من الفكر التقليدي وتأثيراته اللاشعورية في عقليتنا. لا يمكن فصل الملكة النقدية عن العقل، لكن أي دكتاتور لا يكون دكتاتورا إذا لم يقم بقمع النزعة النقدية لدى المواطن. لهذا يبدو لي أن انتظار مثل هذا «المخلّص» من العقل الخرافي الذي يدعو إليه سيد القمني، هو بمثابة انتظار غودو في مسرحية بيكيت. ومن قرأ هذه المسرحية يعرف بأن غودو لم يأت أبدا.