الجنس في الرواية الجزائرية
ظل الأمر على هذه الحال إلى غاية الاستقلال سنة 1962. وميزة هذه الرواية أنها اعتنت بوصف هموم الجماعة، ونضال الجماهير ضد الهيمنة الاستعمارية، ولم تلتفت للفرد في عمق همومه، ومأساته، وأوجاعه، إلا بعد فترة متأخرة هي فترة منتصف السبعينات التي عرفت ظهور اسم الروائي رشيد بوجدرة بروايته الشهيرة “التطليق”(1969) التي أسست لأدب مغاير ومختلف، فقامت على الثلاثي المقدس “الدين-السياسة-الجنس“ أسس رواد الرواية الجزائرية لكتابة أدبية تستثني الفرد من مجمل اهتماماتهم، فقدموا روايات تعكس طبيعة مجتمع منغلق، محافظ على قيمه من الذوبان في ثقافة الآخر، عبر الترويج لثقافة تتسم بالحذر، تقوم على الشعور بضرورة كبح جماح الرغبة الجنسية، وعدم الانسياق وراءها، وتنبأت بقيام الثورة كما نجد ذلك في “ثلاثية الجزائر” (النول، الحريق، الدار الكبيرة) لمحمد ديب. لقد قدم هؤلاء الكتاب نظرة مضادة للتصور الكولونيالي الذي راح يحتفي بجسد المرأة في مجتمع الأهالي ” الأنديجان” بشكل “إيروتيكي”، وهو يقف بمحاذاة الشمس، ليخلق لذة وشهوة لدى الغزاة الأوروبيين القادمين على صهوات جيادهم، ويحثهم على المجيء إلى جنائن روما في الضفة الجنوبية للمتوسط. وبهذا الخصوص ينبغي التذكير أن الفئات التي اعتمدت عليها السلطات الاستعمارية الفرنسية لتعمير الجزائر قد انحصرت في فئات منحطة اجتماعيا تعاني من مختلف أشكال الحرمان بما في ذلك الحرمان الجنسي.
وتكشف عدة دراسات أجريت على المجتمع الكولونيالي بعد غزو الجزائر مباشرة سنة 1830، أن “دور الدعارة قد شيّدت في المدن الكولونيالية بشكل لافت للانتباه. مثلا، ففي مدينة صغيرة مثل ‘درارية’ بأعالي الجزائر العاصمة كان يوجد ثمانية بيوت للدعارة من أجل مائتي مواطن أوروبي استوطنوها. لقد قامت المنظومة الاستعمارية على فعل الإغراء، من أجل حثّ ‘الأقدام السوداء’ على الاستيطان في الجزائر، واتخذ هذا الإغراء أشكالا مختلفة، فمنها الإغراء المادي عبر منحهم الأراضي الشاسعة التي انتزعت بالقوة من الأهالي، على شكل ملكية، ومنها الإغراء الجنسي وهو دور قام به الرسامون الذين رافقوا الحملة العسكرية أمثال “دولا كروا” إلى “أوجين فرومنتان”، وصولا إلى “هوراس فيرنيه” الذي قال فيه الشاعر بودلير إنه “الجندي المستميت في التصوير”. لقد قام كل هؤلاء برسم لحظات “إيروتيكية” وصفها “شارل بودلير” بلحظات “الترف والهدوء والشهوانية”. إذا ركّزنا على “دولا كروا” فإننا نجده قد رسم لوحة “نساء الجزائر في بيوتهن” سنة 1834، وجاءت على شكل “رسم لشرق مؤنّث” يثير الرغبة الجنسية لدى المتلقي الأوروبي. هكذا جاءت الرواية الجزائرية في مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار على شكل رواية “المجهود الوطني”، وفي صورة رواية محاربة نضالية، قريبة من البطل النّقيّ في لحظة إبراز ذاته من أجل محاربة الاستعمار، فتمّ تغييب الجنس بشكل لافت للانتباه.
وبخصوص العلاقة مع الاستعمار، وهو الموضوع الذي سكن الرواية الجزائرية حتى بعد الاستقلال، فقد برزت تيمة الجنس من زاوية محاولة فرض الذات المقهورة، حيث يلجأ “عاشور” في رواية “الاختبار الأخير” للروائي محمد شايب للغواية والممارسة الجنسية من أجل إبراز ذاته أمام الفرنسية “ماري” خلال السنوات الحاسمة لما قبل حرب التحرير. بعد الاستقلال تحول اهتمام الرواية الجزائرية لموضوع مغاير تمثل في البحث عن “الإنسان الجديد” الذي يبني المجتمع الاشتراكي، لكنها سرعان ما التفتت لموضوع مناهضة الطبقة السياسية التي استولت على السلطة بطريقة غير شرعية، وإبراز “نواقص حرب التحرير”، بالأخص عقب الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس المدني أحمد بن بلة يوم 17 جوان 1965، فجاءت رواية “التطليق” لرشيد بوجدرة (1941 – ) كأول رواية جزائرية تعاطت بجرأة فائقة مع “الثلاثي المحرم” الدين والسياسة والجنس. لقد كان بوجدرة أول كاتب جزائري يتجرأ على تناول مسألة الجنس روائيا. وهو أول من أعطى للفرد مكانة في النص الروائي، حيث تطرقت رواية “التطليق” لسيرة شاب يتعرّض للقهر في مجتمع بطريركي، ويصف عبر بوحه مدى كرهه لوالده البرجوازي المتسلط. وقال بوجدرة لاحقا عن علاقته بالأب، ومكانة الجنس في أعماله الروائية: “كنت في الرابعة حين أصبت بحالة رعب إثر مشاهدة جماع والدي مع أمي. سمعت همهمتها العالية، فحسبت أنّها تحتضر. كان منظراً بشعاً. كان والدي عنيفاً. خفت على أمي، شاهدتها تنزف. ومنذ ذلك الحين تشكّلت في ذهني صورة بشعة عن أبي” .
كان بوجدرة، الأقرب إلى تيار الرواية الجديدة كما ظهرت في فرنسا مع كلود سيمون، وصاحب جرأة في تناول المستور، والاعتراف بتفاصيل الحياة الجنسية لأبطاله، مثلما هو الحال في روايته الثانية “الرعن” ثم في روايته “المرث” التي منعت من النشر في مصر سنة 2012 بسبب “إباحيتها”. وبسلوك بوجدرة لهذا المنحى يكون قد فضّل إظهار المجتمع في نصه الروائي كما هو بلا رتوشات أخلاقية، فكشف عن المناطق المحرمة، وأظهر المسكوت عنه، فجاء أدبه على شكل “أدب اعتراف” ينهل من الثقافتين العربية الإسلامية، والثقافة الغربية على حد سواء. في هذا السياق نجد بوجدرة يعتبر أن “ألف ليلة وليلة” كنص أدبي حداثيّ بامتياز، وهي تعدّ بالنسبة إليه بمثابة مرجعيته الأدبية بخصوص تناول مسألة الجنس، حتى أنه انتقد الروائي أمين الزاوي مؤخرا حينما صرح (الزاوي) أنه لجأ إلى الكتابة باللغة الفرنسية لأن اللغة العربية لا تسمح له بتناول الجنس وفق تلك الحرية التي يجدها حينما يكتب باللغة الفرنسية.
وبحسب بوجدرة، الذي تلقى تكوينا فلسفيا في ثانوية “الصادقية” بتونس، ثم بجامعة “السوربون” بباريس، فإن اللغة العربية لغة شبقية، وإيروتيكية، قادرة على تكسير النمطية السائدة في المجتمعات العربية، أكثر مما هي عليه الوضع مع اللغة الفرنسية. وقبل بوجدرة كانت الروائية السورية سلوى النعيمي، مؤلفة رواية “برهان العسل” قد صرحت لمجلة “قنطرة” سنة 2010، على إثر منع رواياتها في العالم العربي (ولم تتعرض للمنع في بلدان المغرب الكبير): “عندما سلطت الضوء على النصوص الإيروتيكية العربية القديمة أردت أن أبرهن فعليا على أن اللغة العربية قادرة على كتابة الجنس والتعبير عن الحميمي. من قبلُ ومن بعدُ، وعلى أن لذة الجنس تحتل مكانة أساسية في هذه الثقافة بعيدا عن مفهوم الخطيئة والدنس، عبر تداخل نصي الحديث مع الاستشهاد بكتاب قدماء مثل الجاحظ، والسيوطي، والنفزاوي، والتيفاشي”.
ورغم تعرض بوجدرة لسيل من الانتقادات من قبل أنصار التيار الإسلامي، وذلك منذ سبعينات القرن العشرين، إلا أنه ظل متمسكا بتيمة الجنس كموضوع محوري، فجاءت روايته الأخيرة “ربيع“ لتؤكد مكانة الثلاثي المحرّم لديه، وذلك عبر تناوله هذه المرة لموضوع العشق بين النساء، بواسطة العلاقة بين فتاة عربية تدعى “ثلج”، وإسبانية تدعى “نييف”، قدمت هذه الأخيرة للعمل في الجزائر بعد أن مست الأزمة المالية بلدها.
وكما عودنا بوجدرة فإنه لا مكانة للإباحية المجانية في هذه الرواية، مثلما هو الحال في مجمل أعماله التي تناولت تيمة الجنس الذي يلجأ إليه كمعادل موضوعي لإبراز العلاقة بين الشرق والغرب، بين “رشيد” و”سيلين” في رواية “التطليق”، التي تعتبر بمثابة رواية فرض الذات عبر قوة الجنس. لم يتمكن الروائيون الجزائريون الذين يكتبون باللغة الفرنسية، والذين جاؤوا بعد رشيد بوجدرة، أو الذين هم من جيله تقريبا، على غرار مراد بوربون (1938-)، ونبيل فارس (1940-)، من تناول تيمة الجنس بتلك الجرأة التي وردت في رواية “التطليق” أو رواية “الرعن”.
ويلاحظ هنا أن الروائيين المعرّبين هم الأقرب إلى بوجدرة من حيث هذه الجرأة، إذ تناول الطاهر وطار (1936-2010) تيمة الجنس في عدد من أعماله، وبالأخص في رواية “عرس بغل”، وفي قصة بعنوان “رمَانة”، كما لجأ عبد الحميد بن هدوقة (1925- 1996) إلى موضوعة الجنس في روايته “بان الصبح” لإبراز السلوك الخطأ، والخيار غير السليم الذي تتخذه بطلة الرواية “دليلة” التي قدمت من الريف إلى المدينة للدراسة، فتكتشف الرغبة في التحرر من القيود الاجتماعية البالية، ويصبح الجنس بالنسبة إليها -بعد علاقتها برجل يدعى “كريمو”- وسيلة للتحرر والانعتاق. أما جيلالي خلاص (1952-) فقد قام في روايته “رائحة الكلب” باستعادة مشاهد جنسية أسرف في وصف تفصيلاتها وتوزيعها في النص، ثم عاد لذات الموضوع في رواية لاحقة ظهرت سنة 2000 بعنوان “الحب في المناطق المحرمة”، وهي تعد من بين كتابات العشرية السوداء في الجزائر. أما الجيل الذي جاء بعد بوجدرة، من الروائيين المفرنسين، على غرار الطاهر جاووت (1954- 1993)، ورشيد ميموني (1945- 1995)، فقد تناولوا موضوع الجنس بشكل محتشم، إذ نلمس ذلك في رواية “المجرد من الذات” لجاووت، حيث يكتشف بطل الرواية شهوته الجنسية مباشرة بعد التعرف على أصوله. أما في روايات ميموني، وبالأخص روايته الشهيرة “طومبيزا”، فيظهر الجنس كوسيلة للسيطرة، يلجأ إليه “طومبيزا” رمز السلطة الجائرة، وليس كفعل فردي يروم تحقيق اللذة، مثلما ظهر في روايته الأولى “لن يكون الربيع إلا جميلا”.
لقد ظل الأمر على هذه الحال، حيث تناولت الرواية الجزائرية تيمة الجنس بشكل محتشم، إلى أن اختفت نهائيا في روايات التسعينات، حيث ألقى الروائي الجزائري على عاتقه مهمة فضح تجاوزات التطرف، ولم يكن زمن الإرهاب يسمح بالالتفات للمسألة رغم أن الرواية أصبحت تعبر عن ذات الفرد، وحميميّاته، وأحلامه، لكن أمين الزاوي (1956-) قد شكل الاستثناء منذ روايته “حارة النساء” التي تناولت موضوع تفكيك تاريخ النساء في العالم العربي الإسلامي المتميز بالقهر والمقاومة، وتكتشف “هاجر” في هذه الرواية الجنس بواسطة أحد أقاربها، كأنه “يد سحرية تسقط على الجسد العطشان”. لقد استمر ظهور تيمة الجنس في أعمال الزاوي اللاحقة، بالأخص في رواية “وليمة الأكاذيب”، التي تعتبر بمثابة نص “إيروتيكي” بامتياز، تماما مثلما ظهر في أعمال أحلام مستغانمي، وفضيلة الفاروق في “تاء الخجل” لكن من زاوية اغتصاب المرأة وإدانة الرجل. بيد أن الروائي الذي يلجأ إلى هذه التيمة لا يزال يقابل بالرفض من قبل من أطلق عليهم الروائي واسيني الأعرج اسم “حراس النوايا” في روايته الشهيرة “فاجعة الليلة السابعة بعد الألف” التي استعادت أجواء “ألف ليلة وليلة” بأجوائها الجنسية.