الدّينُ هُويةً في فرنسا العلمانية
كشف فوز فرنسوا فيّون، في الانتخابات التمهيدية لرئاسة الجمهورية داخل حزب الجمهوريين اليميني، عن وجود ناخبين كاثوليكيين متراصّي الصفوف، مجنّدين خلف مرشّح لا يهمهم برنامجه المفرط في الليبرالية، والداعي إلى تقويض النظام الصحي، وتطهير الإدارة من نصف مليون موظف، قدر اهتمامهم بمعاداته الإسلام، سواء من خلال حملته الانتخابية، أو عن طريق كتاب أصدره مؤخرا بعنوان «النصر على التوتاليتارية الإسلامية»، وقد سوّى في الحالين بين المتطرفين والمعتدلين، ووضع الجاليات المسلمة كلها في سلة واحدة، وزاد على ذلك أن صرّح بأنه «مسيحي» وهو ما لم يجرؤ عليه أي زعيم سياسي قبله، نظرا لاستبعاد المعتقد في فرنسا عن الفضاء العام بعامة، ومعترك السياسة بخاصة.
فقد كان السياسيون يكتفون بالحديث عن جذور فرنسا المسيحية. ولئن وُجد من بينهم - من اليسار وهذا مفهوم، ولكن من اليمين أيضا - من عاب عليه تصريحه ذاك، فإن بعض المحللين رأوا في التفاف شرائح واسعة حول هذا المرشح ، على أساس ديني صرف في بلد علماني تراجع فيه الانتماء العقدي وإقامة الشعائر الدينية منذ أكثر من ثلاثين عاما، رد فعل على صعود الإسلام وازدياد ظهوره للعلن وتفاقم مطالبه، فضلا عن أعمال العنف التي صارت تُنسب إليه. ذلك أن الحديث عن الجذور المسيحية لفرنسا ولأوروبا بعامة تضاءل منذ ستينات القرن الماضي، بعد أن وضع قانون ميشيل دوبري للعام 1959 قواعد عمل وتمويل جديدة للمدارس الخاصة، وأصبحت السلطات العامة تستشير المؤسسات الدينية بانتظام، وتموّل أنشطتها الاجتماعية والثقافية.
ولكنه عاد إلى الظهور في الأعوام الأخيرة كتذكرة بأن الإسلام دخيل، وأنه بصفته تلك محكوم عليه بأن يظل غريبا، وأن يظل معتنقوه أقلية مهمّشة. وقد دلت سلسلة من الإحصائيات على العودة القوية لهذه الثيمة في الرأي العام، وفق خطّ بياني صاعد، على قدر تزايد الحديث عن المسائل التي ما انفكت الجاليات الإسلامية تطرحها كالحلال والحجاب والنقاب والبوركيني والفصل بين الجنسين... وصولا إلى التطرف والأعمال الإرهابية.
فكيف صار ذلك ممكنا في بلد استطاع أن يفصل الدين عن الدولة منذ ثورة 1789، وإن لم يقع استعمال مصطلح العلمانية إلا لاحقا؟
في كتابه "الدولة والأديان في فرنسا" يشير فيليب بورتييه المتخصص في تاريخ وسوسيولوجيا العلمانيات إلى ما شهدته العلمانية المعاصرة في فرنسا خلال تسعينات القرن الماضي من تردد بين قطبين: الاعتراف والمراقبة. فمن جهة، تمنح السلطات العامة الأديان حق الحضور في الفضاء العام الاجتماعي وفقا لقانون 9 ديسمبر 1905، ولكن تلك الأديان، من جهة أخرى، غالبا ما تدعى إلى الفضاء العام السياسي، بما في ذلك التدخل في مسار التوافق على معيار، إثيقي في العادة، كرأيها في الإجهاض، والقتل الرحيم، وحق المثليين في التبني... وفي ذلك قطيعة مضاعفة مع علمانية الأصول، إذ انتقل القانون من الفضاء العام للدولة إلى إخضاع فضاءات خاصة، وصارت العلمانية لا تُفهَم من منطلق حرية واسعة للمجال الخاص، بعد أن اخترقته المعايير العامة.
بداية من التسعينات، تدعمت المراقبة تحت ستار الترابط والتماسك الاجتماعي، فقوبلت بعض المطالب بتخوفات أمنية، وفقدت العلمانية شيئا من مرونتها بخصوص مسائل كالحجاب في المدرسة، ساهم في إشعال فتيلها عدد من الشخصيات السياسية وقدّم لحلها بعض المفكرين أمثال إليزابيت بادينتر وريجيس دوبريه وإليزابيت دو فونتناي، مقترحات تحوم حول الدعوة إلى جعل الدينيّ أقل ظهورا في الفضاء العام. وقد عُدّ قانون 2004 حول ارتداء الحجاب في المدرسة، ثم قانون 2010 حول ستر الوجه في الأماكن العامة نوعا من التطبيع مع الإسلام، على غرار ما حدث مع اليهودية زمن المعاهدة البابوبة « كونكوردا» عام 1801، حيث نظّر أنصار العلمانية الفاعلون، لإدخال الديانة الإسلامية في منظومة القيم الفرنسية، تجنبا لتشتت الجاليات وانقسام الوحدة الفرنسية.
إلا أن الناحية الأمنية طغت على الاعتبارات الأخرى، نظرا للحضور الهام للإسلام في فرنسا، ومناخ العنف الطاغي في العالم الإسلامي، مع ما يتبع ذلك من انقسامات وأزمات صارت تصدّر إلى بلدان الغرب، وتحولت العلمانية إلى ثيمة سجالية يتداول عليها الفلاسفة والمفكرون، وإلى وسيلة إقصاء لدى اليمين واليمين المتطرف: «إما أن تمتثلوا للعلمانية أو فلترحلوا!»
ألان بيرغونيو وفيليب بورتييه
كما أن بعض الفئات صارت تقع تحت طائلة حياد لم تعرفه من قبل: كمستعملي الخدمات العامة، والتلميذات المحجبات، والنساء اللائي يفرض عليهن لباس غير لافت لإخضاعهن إلى الحياد. والسبب في رأي بورتييه نزوع إلى الخوف، يفسره بكون المجتمع الفرنسي مسكون بالظنون، ما يجعله يسعى إلى استعادة طمأنينته بالتشبث بثقافة مشتركة، تستبعد من لهم سلوك متأتّ من ثقافة مغايرة، وتنفر من ظهورهم إلى العلن. أي أن المجتمع الفرنسي يستغل العلمانية لفرض ثقافة موحَّدة، وهو أمر لم يحصل مع الكاثوليكية في السابق إلا في حالات نادرة تخص الدوائر العليا في الجمهورية الثالثة، ولكنه قد يتجاوز الإسلام ليمسّ في النهاية كافة الأديان.
وهذا صحيح إلى حدّ بعيد، فالعلمانية شهدت منذ ظهورها تطورات كثيرة، بدت خلالها الدولة مرنة إلى الحدّ الذي تسمح فيه بدعوة الأديان إلى الإسهام في الرباط الاجتماعي، وحريصة في الوقت نفسه على تشديد رقابتها على الأشكال الدينية التي لا تحترم القداسة الجديدة التي تشكلت حول حقوق الإنسان. ولكن ظهور حركة عريضة تتخذ من المسيحية هوية تجلى أكثر ما تجلى كردّ فعل على أعمال العنف التي اقترفها عرب مسلمون مهاجرون ضدّ فرنسا، بلدا وشعبا، ولا سيما عملية قتل الأب جاك هاميل في كنيسته بسانت إتيان دو روفريه، فهي عملية بالغة الرمزية، روّعت النفوس حتى خارج الدوائر المسيحية، ولكنها أعادت فرنسا إلى جذورها الكاثوليكية، حتى أن بعض الملاحظين سجلوا المفارقة التي طبعت علاقة الإرهابيين بفرنسا، والتي تولدت من استناد داعش إلى الجوهرية، كمذهب فلسفي، في فهمها للمجتمع الفرنسي، إذ لا ترى فيه أفرادا مختلفي المشارب والتوجهات، بل مجرد منظومات ثقافية تحوي أولئك الأفراد، وكتلة ثقافية صماء مرتبطة بالمسيحية، فلا وجود في تصورها إلا لعدو غربي مسيحي ليبرالي. وهو خطاب يغذي لدى الطرف المقابل شعورا بالانتماء إلى ديانة، حتى وإن كان علمانيا في قرارة نفسه، وفي نمط عيشه، وفهمه للوجود.
لقد كان جان جوريس محقّا حينما قال إن العلمانية وثيقة الصلة بالديمقراطية، فهي تلتقي معها في عدم الثبات على معنى محدد، ولكن المشكل هنا يتجاوز الجدل المحلي الذي رافق العلمانية منذ فصل الدين عن الدولة، لأن أزمة العالم الإسلامي، التي تتبدى في مظاهر العنف المستشرية هنا وهناك، تحتم إيجاد أجوبة عاجلة لا تخص العلمانية وحدها، بل تتعداها إلى عدد من السياسات العمومية. وحسبنا أن نذكر الجدل الحامي حول تطرف الشباب المجندين للجهاد لندرك مدى ما تحويه المسألة من تعقيد. فلا يمكن أن نقنع الشباب العاطل باحترام الديمقراطية وهو مُقصًى من سوق الشغل، ولا المسلم الحائر حيرة وجودية أمام خطاب الجماعات الجهادية باحترام العلمانية والزعيم السياسي يعلن إيثاره عقيدة دون أخرى. وفي رأي المؤرخ ألان بيرغونيو، عضو مرصد العلمانية، أن احترام مبادئ العلمانية جزء من الحل، وليس الحل كله، فقيم الجمهورية ينبغي أيضا أن تتجسم اجتماعيا كي يقبل عليها الناس ويحبّوها.
بعد دونالد ترامب، لن يهنأ للجاليات العربية المهاجرة بال في حال فوز فرنسوا فيّون بالانتخابات الرئاسية المقبلة، ولن يكون بوسعها أن تجهر بمطالب ينبذها المجتمع الفرنسي في الغالب، لا سيما في ظل تصاعد اليمين الذي اتخذ من المسيحية هوية. والذين يحلمون بأسلمة فرنسا يتناسون أنها، على علمانيتها، هي البنت الكبرى للكنيسة، وقلّ أنْ نجد يوما واحدا في العام ليس مخصصا للاحتفال بأحد القديسين، وأن الدين فيها، برغم عقلانية أهلها الموروثة عن الأنوار، هو «أول ما يشتعل وآخر ما ينطفئ» على رأي توكفيل.