محمد ملص: الصرخة الصريعة
وبالإضافة لذلك يحفر محمد ملص في كل أفلامه عميقا في أنفاق المجتمع السوري والعربي عبر الرؤيا البصرية الحالمة ومشرط التحدي، والحساسية الشديدة، فيحضر بقوة في أعماله قاموس الفقد ..والنقد ..صورة مجازية عن المدن المفقودة والذاكرة المثقوبة والأحلام الموؤودة ..وتعويض عن الغياب والنسيان واستحضارا لروح المدن المفقودة “القنيطرة”، “الجولان”، “حلب”، “دمشق”، “فلسطين”، والأحباب المغادرين المهجرين اللاجئين ..“الأب الذي تطوع في جيش الإنقاذ في فلسطين” ..و”الأم الواقعة تحت وطأة الفقر والوحدة” ..والجسد المعذب الذي نخرته رطوبة السجون والمناضلين المفقودين بين أقبية المخابرات وسنوات التعذيب ولعبة تقليم الأظافر فيلم "فوق الرمل تحت الشمس" أنموذجا .وكذلك الزمن الجميل الموؤود زمن صبري المدلل كما في فيلم “مقامات المسرة”، دون أن ننسى طبعا الثورة الموؤودة والشعب المفقود والحلم المنشود في فيلم “سلم إلى دمشق” كأحسن مثال.
هذه بعض ملامح المشروع الفني للمخرج السوري محمد ملص الذي ولد في مدينة القنيطرة سنة 1945 وتخرج في مدرسة إعداد المعلمين ثم انتقل إلى دراسة الفلسفة في جامعة دمشق التي سرعان ما هجرها لينتقل سنة 1968 إلى موسكو حيث درس السينما في أشهر معاهدها ليتخرج بعدها كأول السينمائيين الأكاديميين في سوريا.
عمل في بداية حياته في “دائرة الإنتاج السينمائي” في التلفزيون العربي السوري وقدم عددا من الأفلام "قنيطرة 74"، “الذاكرة”، “فرات” .لينتقل بعدها للعمل مع المؤسسة العامة للسينما في سوريا، ليقدم أشهر أفلامه “أحلام المدينة” سنة 1984 الذي تحصل على التانيت الذهبي في أيام قرطاج السينمائية فضلا عن إحدى عشرة جائزة أخرى في مهرجانات سينمائية عربية وإقليمية دولية .وقد أحدث هذا الفيلم منعرجا مهما في السينما السورية وقتها .ثم كان فيلم “الليل” سنة 1992 الذي لقي نفس النجاح هو الأخر وتحصل على الكثير من الجوائز، رغم أنه منع من العرض في سوريا لمدة أربع سنوات .وقد وصفته صحيفة الغارديان البريطانية بأنه من أفضل عشرة أفلام عربية .وبالإضافة إلى ذلك قدم محمد ملص عدة أفلام طويلة وقصيرة ووثائقية نذكر منها “كل شيء على ما يرام سيدي الضابط”، و”حلم مدينة صغيرة”، و”فوق الرمل تحت الشمسò، و”المنام” الذي يعالج فيه أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، و”باب المقام”، و”حلب مقامات المسرة” لنصل إلى فيلمه الأخير “سلم إلى دمشق” الذي يستحضر الوضع في دمشق الآن وهنا والذي عرض على هامش الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية أين شارك محمد ملص كعضو لجنة تحكيم في مسابقة الأفلام الطويلة، وأين كان “للجديد” هذا اللقاء الصريح والشامل حول مسيرته السينمائية المتميزة وحول آخر أعماله كما تفرع الحديث إلى واقع السينما العربية وراهن المثقف العربي وسط التغيرات والتطورات العربية المتسارعة.
الجديد: علاقتك بأيام قرطاج السينمائية قديمة توجت فيها بالتانيت الذهبي مرتين وعلاقتك بتونس خاصة جداً .كيف تصف هذه العلاقة؟
محمد ملص: في الحقيقة علاقتي بتونس ترتبط أساسا بالسينما وبأيام قرطاج السينمائيّة هذا المهرجان السينمائي الذي توجني مرتين بتانيته الذهبي، لا بدّ أن أقول إنّ هذه العلاقة تطوّرت أيضا إلى إمكانيّة العمل في تونس واستطعت في فترة من الفترات أن أصل إلى توافق مع المنتج أحمد بهاءالدين عطية وأن نقيم ونسعى إلى تحقيق مشاريع مشتركة .وقد ساهم أحمد بهاء في الأفلام التي حققتها وفي وصولي إلى تونس من خلال أيام قرطاج السينمائيّة سواء في رئاسة لجنة التحكيم مرّة أو للعمل السينمائي مع نخبة من الأصدقاء السينمائيين التونسيين .هي إذن علاقة متميزة وأستطيع أن أقول إنّ هذه العلاقة التي أسست معي كسينمائي سوري أن أحقق بعد التانيت الذهبي الأول وجودي كسينمائي في خارطة السينما العربية.
الجديد: يقول ابن عربي “المدن التي لا تؤنث لا يعوّل عليها” فهل تعتبر تونس مدينة محفزة على الإبداع ويعول عليها؟
محمد ملص: أنا أنتمي إلى شيء من الإبداع الذي يقوم أساسا على مدينة دمشق وعلى مدينة القنيطرة لذلك أعتبر أنّ اللحظة الأساسيّة بالنّسبة إليّ هي سوريا هي دمشق، لكن في تونس كثيرا ما كنت أحسّ بأنّ هذا البلد هو توأم ويشبه الكثير مما نحققه في سوريا أيضا وكذلك مهما كان محي الدين بن عربي يقول فأنا أستطيع أن أقول أيضا إنّ المدن المؤنثة هي التي تعطينا الكثير من أجل تحقيق الإضافة لذلك تلحظ في أفلامي أنّ الأنثى هي البطل المركزي.
لست بريئا
الجديد: محمد ملص ذاك الفتى الحالم الطامح الجريء الذي خرج ذات مساء من مدينة القنيطرة باحثا عن سبيل لتحقيق أحلامه، هل مازال ذلك الفتى بريئا حالما أم أن زحمة المدن والأزمنة وتناقضات العالم أخذته أبعد مما كان يتطلع؟
محمد ملص: اسمح لي أن أخالفك في قول البراءة .أنا لم أكن يوما بريئا، بل كنت ومازلت دائما إنسانا يعيش في بلده وحسب واقعه، بلدي هو الذي يعطيني ما أريد أن أعبّر عنه وربّما حسب ما يلاحظ المشاهد في أفلامي اخترت أن أكون المخرج المفقود في البلد، ولذلك اخترت لنفسي التعبير عمّا ينقصنا وعمّا يؤلمنا وعمّا يوجعنا أكثر بكثير ممّا هو موجود بحثا عن المفقود من أجل أن يكون حاضرا في حياتنا بدلا من غياب الكثير من الأشياء التي نحلم بها ونطمح إليها ونسعى إلى تحقيقها.
لا أعتبر أن هناك خلطة سحرية خارج الصدق في التعبير وخارج البصيرة في الرؤيا. والإمكانية في اختيار لغتك في التعبير السينمائي
معايشة الناس
الجديد: ما هي الخلطة السحريّة التي يستعملها محمد ملص للحصول على هذا المزيج المتناقض الجميل المتأرجح بين البعد الحالم الشاعري للسينما وبين الجانب الواقعي الترفيهي؟
محمد ملص: في الحقيقة ليست هناك خلطة سحريّة بقدر ما هناك بصيرة .البصيرة هي المرجع الأول بالنّسبة إليّ .لذلك قررت منذ البداية أن تكون البصيرة هي بوصلتي الفنية لأنها قادرة على الرؤيا العميقة .ويحتفظ القلب بكل الأحاسيس التي تتركها البصيرة ويتركها المفقود في داخلك .وحين تختار أن تعبّر بصدق وعمق وأن تنتمي لمجتمعك وألاّ يكون لديك شيء تريد التعبير عنه ليس له علاقة بالمجتمع وبالنّاس، فذاك هو المبدأ الأساسي في أعمالي .معايشة الناس والاقتراب منهم هو ما يمثل المرجع الأساسي لكل تجربتي في السينما والحياة، وهذا المرجع هو الذي خلق لديّ هذه الذاكرة طويلة العمر وذلك الإحساس بضرورة أن أنقل ذاكرتي وأحاسيسي السابقة في التعبير عنها .لذلك لا أعتبر أنّ هناك خلطة سحريّة خارج الصدق في التعبير وخارج البصيرة في الرؤيا .والإمكانيّة في اختيار لغتك في التعبير السينمائي.
الشيء المفقود
الجديد: ما هو الخيط الرابط بين جميع أفلامك؟ هل يمكن القول بأن هناك مشروعاً معيناً تشتغل عليه، وما هي تطلعات هذا المشروع وغاياته وطموحاته؟
محمد ملص: أنا أعتبر هذا السؤال سؤالا جيّدا ومهما، لأنّ هناك فعلا في كل ما سعيت إليه وكل ما اشتغلت عليه من أفلام وكل ما حققته وكل ما أطمح إلى تحقيقه خيطا وحيدا يربط هذا المشروع السينمائي هو المفقود، الشيء المفقود هو الذي يجعلني أحتاج إلى التعبير، هو الألم من غياب المفقود، ذلك هو الخيط السري، إنه ما يجعلني أشعر بضرورة التعبير عن كل ذلك الفقد .من يقرأ الأفلام التي أنجزتها سيكتشف ما هو المفقود .مثلا في “أحلام المدينة” لماذا عدت في هذا الفيلم إلى خمسينات القرن العشرين من حياة سوريا، لأني كنت أريد أن أبيّن تطوّر الوعي لديّ منذ الطفولة ومنذ القنيطرة إلى دمشق .كنت أشعر أنّ الشيء المفقود هو الحرية ولذلك عدت إلى خمسينات القرن الماضي لأتحدث عن مرحلة هامة جدا من تاريخ سوريا، هي المرحلة التي عاشت فيها سوريا لحظة ديمقراطية حقيقيّة دفعتها إلى خيار الانتماء إلى الوحدة مع مصر.
كذلك إذا رجعت إلى فيلم “الليل” تجدني أتحدث عن مدينة ليس لها وجود لأنّ الاحتلال والعدوان الإسرائيلي على هضبة الجولان أدّيا إلى تدمير مدينتي التي ولدت فيها وكانت مسقط رأسي .هذه المدينة حين فقدتها كنت أشعر أنّ هذا العدوان يريد أن يدمر ذاكرتي، وكنت أريد أن أقول له وللجميع إنّ أحدا لا يستطيع تدمير الذاكرة فاستعدت القنيطرة سينمائيا واستعدت اللحظة التي لا يمكن الشعور معها بأنّ المفقود هو المكان وليس الزمان كما في “أحلام المدينة” وهكذا.
سينما المؤلف
الجديد: أنت تعتبر من الرواد بالنّسبة إلى ما يسمى بسينما المؤلف، أي المؤلف هو الذي يكتب وهو الذي يخرج، أردت أن أسألك عن علاقة السينما بالأدب؟ نجيب محفوظ يقول لو استطعنا أن نوفق بين السينما والأدب لأنتجنا شيئا عظيما، فكيف تقيم تجربتك مع الأدب، لماذا تكتب وحدك وتخرج وحدك ولماذا في السينما العربية هناك تجارب مقلة رغم أنّها متميزة من خلال هذا التعاون والتعامل بين الأدب الرواية والفن والصورة؟
محمد ملص: أولا، أريد أن أصحح مفهوم سينما المؤلف .فسينما المؤلف لا تقوم على أن يكتب المخرج السيناريو، سينما المؤلف هي محاولة في الكتابة بالكاميرا .الكتابة بالكاميرا تعني الكتابة بالعين وبالروح وبالوجدان .قد يشاركك أحد ما في كتابة مشروعك ولكن حين يعبّر المشروع عن الواقع وعن إحساسك ورؤيتك أنت لما تريد التعبير عنه يكون ذلك هو سينما المؤلف.
وقد وضعت لنفسي منذ بداية مشواري حبّي الشديد للأدب، وانتمائي أولا وأخيرا للأدب باعتباري أكتب كثيرا ولديّ كتب منشورة، وضعت لنفسي مهمّة محدّدة في علاقتي بالسينما وعلاقتي بالأدب .لقد أردت للسينما التي أنجزها أن تكون ذات مذاق أدبي، وهكذا يعني أنّ جوهر القضية في مشروعي الفني هو أن أخلق سينما ذات مذاق أدبي وأدبا ذا مذاق بصري.
زواج عالمين
لقطة من فيلم "سلم إلى دمشق"
الجديد: هل قرأت رواية ما وتمنيت أن تخرجها سينمائيا، روايات حنا مينة مثلا؟
محمد ملص: نعم، لقد قرأت الكثير من الأعمال الأدبيّة واستفزتني .أنا مشروعي السينمائي لا يتناقض مع الأدب الموجود، ولكن خيالي في السينما هو الكتابة عن الذاكرة الشخصيّة وخلق نوع من الانسجام بين الاثنين، التعبير الوجداني والأدبي عن مشروعي السينمائي. هناك الكثير من الأعمال الأدبيّة الهامّة التي تخلق في داخلي التحدي لتحقيقها سينمائيا، ولكن مازال مشروعي يحتاج إلى أن أحافظ على ما اخترته منذ البداية.
الخيار السينمائي
الجديد: كيف تحكم على العلاقة بين الأدب والسينما في التجارب السينمائية العربية؟ هل هناك توافق؟ هل هناك تناقض؟ هل يستفيد الأدب من السينما أم تستفيد السينما من الأدب؟ أم هناك تجارب قليلة مماثلة أو مشابهة لتجربتك السينمائية؟
محمد ملص: أعتقد أنّ اختيار سينما المؤلف في السينما العربيّة هو خيار السينمائيين منذ البداية .هو خيار العديد من القامات السينمائيّة التي أرادت أن تغيّر من خلال سينما المؤلف .وفي السينما الغربيّة أيضا هناك العديد من القامات السينمائيّة التي اختارت أيضا التعبّير من خلال سينما المؤلف .بالنّسبة إليّ لم يكن الخيار نظرياً أو شخصياً كان خيارا مرتبطا بالواقع .السينما في سوريا أولا، والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سوريا ثانيا .تطلعاتي كما أردت التعبير عنها هي التي دفعتني لاختيار سينما المؤلف للتعبير.
الفني والتجاري
الجديد: ما هو الفرق بين سينما المؤلف والسينما التجارية؟ وهل هناك خلطة بين الجانب التوعوي التثقيفي وبين الجانب الترفيهي التجاري؟
محمد ملص: لا أريد أن أتحدث عن السينما في العالم، دعنا نجب عن سؤالك بالحديث عن السينما في المنطقة العربيّة .في رأيي أنّ التجارب السينمائية العربيّة لا يجب أن يفقد الذين يقفون وراءها أحدهم الآخر أو أن يكون بديلا عن الآخر .في السينما العربيّة هناك سينما تجاريّة وهناك سينما مختلفة .والسينما المختلفة في المنطقة العربية قد لا تحظى بالاستقطاب الجماهيري الذي تحظى به السينما التجاريّة، لكنّها حقيقة موجودة .ولذلك كان السعي خطوة وراء أخرى لخلق تيار سينمائي أوّلا وخلق جمهور سينمائي آخر مختلف ثانيا. وكما تتعايش سينما المؤلف والسينما التجاريّة في العالم لا بدّ لهما أن تتعايشا أيضا في السينما العربيّة.
السينما هي الحب
الجديد: يقول المخرج العالمي هيشتكوك “السينما هي الحلم” كيف يعرّف محمد ملص السينما وكيف يعيشها؟
محمد ملص: السينما هي الحب وليس الحلم، السينما بالنّسبة إليّ هي البيت، البيت الذي أستطيع أن ألجأ إليه كي أرتاح وكي أعيش، السينما هي الحب وهي البيت.
الجديد: أخرجت عدّة أفلام عن حلب وعن مدينة القنيطرة مثل “باب المقام”، كيف تنظر إلى هذه المدينة وما يحدث فيها من دمار وخراب وكيف تسترجعها في ذاكرتك؟
محمد ملص: دعني ألجأ إلى حلب “مقامات المسرة” أولا وإلى “باب المقام” كي أحتفظ بحلب كما رأيتها وكما أراها وأتمنّى أن تكون موجودة .أما أن تدمّر حلب فهذا شيء لا يمكن تخيله ولا يمكن القبول به .لا يمكن أن نفقدها، لأنّ حلب في ذاكرتي هي السينما التي حققتها، على صعيد الواقع فليس هناك إلاّ المأساة تعيشها حلب العظيمة والجميلة والتي أتمنى ألا نفقدها.
هو الألم من غياب المفقود، ذلك هو الخيط السري، إنه ما يجعلني أعشر بضرورة التعبير عن كل ذلك الفقد
مع الثورة والتغيير
الجديد: الحديث عن حلب يجرّنا إلى الحديث عن سوريا أنت الذي قلت في يوم ما “سوريا هي ثورة موؤودة” كيف تسترجع هذه الفكرة اليوم، وعن سوريا اليوم .كيف ترى ما جرى فيها هل هو ثورة؟ هل هو مؤامرة خارجيّة؟ كيف تقيّم كمثقف ما يحدث الآن في سوريا خاصة أنّ المثقفين منقسمون؟
محمد ملص: ما يحدث اليوم هو الحرب، ما يحدث اليوم هو سعي العالم إلى أن تفقد سوريا مقوماتها سواء الديموغرافيّة أو مكانتها السياسيّة وقوتها وتعدّدها .أمّا سوريا التي ننتمي إليها نحن فهي سوريا التعدد والتنوع والانتماء الجغرافي والطائفي والألفة الموجودة في هذا البلد.
الجديد: لكنّك لم تعطني موقفا واضحا هل هي ثورة أم مؤامرة خارجية؟
محمد ملص: أنت تسألني عن سوريا اليوم، سوريا تعيش مؤامرة كبيرة ومتعدّدة الجوانب تستهدف هذا البلد بكل أبعاده، أمّا ما حصل، ومن يكون ذاك الذي حصد الفوائد فهذا شيء آخر .بالتأكيد الشعب في سوريا حين أراد أن ينهض ويتمرد ويثور من أجل أن يحدث تغييرا في مجتمعه وتغييرا في نظامه السياسي فهذا حقه التاريخي والطبيعي وهذا طبعا يختلف عن المؤامرة التي نتعرض لها اليوم.
الجديد: ولكن هل أنت مع هذه الثورة؟
محمد ملص: ليس هناك سينمائي ضد الثورة وضد التغيير .كل السينمائيين والمثقفين يعملون من أجل المستقبل ومن أجل التغيير .وحسب رأيي لا يصبح المثقف مثقفا إذا لم ينحز إلى التغيير والتطوّر والتقدّم والثورة.
الجديد: ماذا عن المنطقة العربية وما وقع فيها هل هي الثورة كما نظّر لها عصمت سيف الدولة أم مجرّد مؤامرة خارجيّة لبث “الفوضى الخلاقة” كما يقول البعض؟
محمد ملص: ما يحدث في الوطن العربي هو بداية ثورة رغم كل العراقيل، هو سعي الإنسان العربي في هذه البلدان نحو التغيير والحرية والكرامة، أمّا من الذي استفاد من هذه الانتفاضة، ومن الذي سرق هذه الانتفاضة واتخذها وسيلة من أجل أن يحدث مشاريع ومصالح دوليّة متعدّدة ومختلفة ومتناقضة فهو شيء آخر.
مغنّية حلب
الجديد: اشتغلت كثيرا على الذاكرة واهتمامك بها واضح في أغلب أفلامك، فهل يعتبر هذا الاشتغال هو الخيط الرابط في مشروعك الفني، ولماذا هذا التركيز على الذاكرة وكيف تستطيع أن تشتغل على الذاكرة وفي الوقت نفسه على المعيش اليومي الآن وهنا؟
محمد ملص: هذا يعود إلى قدرتك على الرؤيا والبصيرة، وحين تتحدث عن فيلم حلب “مقامات المسرة” ونشعر بالأسف لما حصل في حلب وبالمرارة الشديدة لما يحصل، ألا يمكنك أن تعيد مشاهد فيلم حلب “مقامات المسرة” وفيلم “باب المقام”، وتتساءل من قتل المغنّية، من قتل تلك المرأة التي أحبّت الغناء والموسيقى في حلب ستكتشف أنّ الذي قتلها هو أسرتها المحافظة والتي تعتقد أنّ الغناء حرام .فموتها إذن هو نتيجة لتفكير عائلتها ومحيطها .بالتالي حين تسألني كيف أجمع بين الذاكرة والبصيرة فهذا من أبسط ما يمكن إذا كنت تمتلك الشجاعة والصدق.
حين تمتلك الشجاعة والصدق تكتشف أنّ ذاكرتك تستطيع ليس أن تتنبأ بما يحدث في المستقبل فقط، بل أن ترى الواقع وما يمكن أن يولّده هذا الواقع وتحذّر ممّا يمكن أن يحصل، لكن حين لا يكون هناك من يستجيب لمحاولة الرؤيا ووعي هذا المجتمع سوف يحصل فيه ما حصل بعد ذلك في حلب.
فكرة الذاكرة
الباجي قائد السبسي مكرما محمد ملص
الجديد: كأنّك تريد أن تسترجع القول الذي يرى أنّ الأدب هو استحضار للذاكرة .فهل ترى كذلك أنّ السينما هي أيضا استحضار للذاكرة لكن بواسطة الصورة؟
محمد ملص: الذاكرة ليست شيئا مقدّسا، الذاكرة شيء والبصيرة شيء آخر .في رؤيتك للماضي والحاضر في قدرتك على استنتاج ما يمكن أن يحدث هذه هي البصيرة، يعني يجب ألاّ تقدّس الذاكرة بالعلاقة مع الواقع الراهن الحديث الذي يحدث اليوم حينما تجمع وتستنتج وتتوصل إلى احتمالات ما يمكن أن يحدث وترفع نذير التحذير بذلك فأنت تستطيع أن تقول بأنّك ساهمت في إنارة جزء من الحقيقة، لكن حين تقول اللهم قد بلغت فعليك أن تسمع ما هو البلاغ.
يريدوننا عبيدا
الجديد: يقول المخرج السوري الكبير مصطفى العقاد “إنّ معركتنا مع الغرب اليوم هي معركة إعلام” يمكن أن تضيف أيضا معركة إبداع .لماذا بقيت صورة العربي لدى الآخر مهتزة وسلبيّة وسيئة، هل هو تقصير من الإعلاميين والمبدعين العرب في رسم صورة جيدة عن الثقافة العربية لدى الآخر؟
محمد ملص: أوّلا، رحم الله مصطفى العقاد الذي كان واحدا من ضحايا الإرهاب .وأنا أعتبر أنّ ما قاله العقاد هو حقيقة هامّة للغاية ليست هي الحقيقة الوحيدة لكنّها هامّة للغاية .لأنّنا نحن لا نرى أنفسنا بشكل صحيح ولا نقدم أنفسنا للآخر بشكل صحيح، ومعركتنا الإبداعيّة مع الخارج ومع الإعلام يجب أن تكون شجاعة وصادقة وأن نبحث عن الوسائل التي تجعل أصواتنا قادرة على الوصول إلى كل مكان في العالم .لكن معركتنا مع الغرب هي أيضا معركة استهداف ومصالح وليست معركة إعلام فقط .إنّ العدو الإسرائيلي هو رقم واحد، والغرب المتحالف مع إسرائيل وأميركا هو الذي يلعب بنا مرحلة بعد مرحلة .وحين أقول معركة مصالح لأنّه فعلا حتّى لو كان لديهم الوعي لمعرفة ماذا نعاني فهم يسعون إلى أن نصبح عبيدا وأن نصبح تحت سيطرة المصالح الاقتصادية والاستعمارية الخارجية.
معركة معقدة
الجديد: هل ترى أن حركة الثقافة العربيّة عموما تميل إلى السقوط في الإسفاف والاشتغال على قضايا هامشية فحسب، أو هي معرضة عن رؤية الخلل، وبالتالي فهي مقصّرة في التعريف بالإبداع الجاد ودوره المنتظر؟
محمد ملص: لا أريد أن أتحدث عن مشكلة الوطن العربي ككل بالمعنى الواسع للكلمة، لكن أقول إنّ الإعلام قد قصّر إلى درجة كبيرة تستدعي أن يقول مصطفى العقاد إنّ معركتنا معركة إعلام .ولكن ليس الإعلام الشيء الوحيد الذي يجب الحديث عنه .يجب أن نعرف أنفسنا أولاّ، ويجب أن نصدّق ما نحس به وأن نعبّر عمّا نحس لا أن نبقى أسرى الأفكار غير الصحيحة التي نعيشها في المجتمع ونبقى تحت وطأة هذه الأنظمة المتخلفة الدكتاتورية التي لا تعطينا الحرية في التفكير والحرية في التعبير، لذلك فالمعركة هي معركة معقدة وواسعة ومتعدّدة للجوانب.
الجديد: إلى أيّ مدى يمكن أن يلعب الإبداع والثقافة دورا في نزع فتيل التوتر بين الشعوب وبين الحضارات خاصّة في هذا العالم المتناقض العنيف الذي نعيشه اليوم؟
محمد ملص: الإبداع له مهمّة واحدة ليس أن ينزع الفتيل، المهم أن ينير الضوء .الإبداع لديه مهمّة أساسيّة أن يكون بصيرة قادرة على أن تنير ما يحيط بها وتنير بعمق وصدق وشجاعة.
الجديد: فيلمك الأخير يحمل عنوان “سلم إلى دمشق” فعن أيّ دمشق تتحدث وتبحث؟ وهل يحملك هذا السلّم ويطل على سوريا الحلم، سوريا الثورة الموؤودة، أم هو بحث عن المدينة الفاضلة التي رسمتها في خيالك الفني؟
محمد ملص: لم أرسم دمشق في خيالي ولو مرة .أنا أعيش في دمشق وأعرف دمشق وفيلم “سلّم إلى دمشق” هو البحث عن دمشق التي نريد.
الجديد: البطل في آخر الفيلم يصعد إلى السطح ويصرخ حرية ويحصل انفجار، ما رمزية هذا المشهد؟
محمد ملص: ليست هناك رمزية وإنّما هو صعد ليقول حرية لدمشق التي يريد، لكن الحرب قصمت ظهر هذه الصرخة.